الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناجعة لمشكلات الإنسانية جميعًا حتى في العصر الراهن، وعن هذا المعنى قال أحدهم:(إنَّ البشرية تفخر بهذا التشريع، وإننا سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألف عام)(1).
وفي ضوء ما سبق يمكن نقد أقوال المستشرقين واستدلالاتهم في النقاط الآتية:
الأولى: دعوى التأثر بالقانون الروماني.
الثانية: دعوى التأثر بالتلمود اليهودي.
الثالثة: دعوى التأثر بالتعاليم النصرانية.
الرابعة: دعوى التأثر بأعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام.
نقد الدعوى الأولى: دعوى التأثر بالقانون الروماني:
أكدت دراسات بعض المستشرقين بأن الشريعة الإسلامية وفقهها منقطعة الصلة بالقانون الروماني، وفي ذلك يقول (بوسكة):(إنَّ الفقهاء المسلمين أعطوا لبنائهم إطارًا خاصًا ووجهًا مميزًا. وهم بهذا الاعتبار لا يدينون بشيء للقانون الروماني، وإنَّ طبيعة الفقه الخاصة لا تدين له بشيء)(2).
ويقول (فتزجيرالد): (من المستبعد أن يكون للقانون الروماني الغربي أدنى تأثير على تأسيس الشريعة الإسلامية)(3).
ويتفق كثير من الباحثين على هذه النتيجة التي توصَّل إليها نفر من المستشرقين، وأمَّا الاستدلالات التي بنى عليها أولئك الزاعمون رأيهم،
(1) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (708)، (مرجع سابق).
(2)
بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره. .: ص: (66)، (مرجع سابق).
(3)
فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (127)، (مرجع سابق).
فإنها مزاعم باطلة لا سند لها من علم ولا حقيقة لها في التاريخ وهي مردودة من أوجه عدة، وبيان ذلك في الآتي:
1 -
زعمهم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على علمٍ واسعٍ بالقانون الرُّوماني يبطله العلمُ اليقيني والواقع التاريخي على حدٍّ سواء فإنّهُ صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. وأمية الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما جاء به من العلم والهدى من دلائل نبوته ومعجزاتها، وأثبت التاريخ بما لا يحتمل التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة عربية خالصة مقطوعة الصلة بالقانون الروماني وغيره مما كانت عليه الأمم السابقة من التنظيم والتقنين الوضعيين، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم:"إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نحسب"(1).
ويكفي هذا الزعم إِبطالًا وتهافتًا أَنَّه ورد على لسان المستشرق (شيلدون آموس) وقد وصف بالجهل والصفاقة من صفوف المستشرقين أنفسهم إذ يقول عنه المستشرق (فتزجيرالد): (ومن مصيره الأسيف المضحك أن الموضوع الذي كان حجة فيه قد غمره موج البحث العلمي منذ أمد طويل. . . وأصبح لا يذكر الآن إلا بمحاولته غير الموفقة حول موضوع كان فيه حين تناوله أقرب ما يكون إلى الجهل التام)(2)، ويواصل قوله متهمًا ذلك المستشرق بالهوى والتملق على حساب البحث العلمي
(1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 2/ 676 الحديث رقم: [1814]، ترتيب: البغا، (مرجع سابق). والحديث عن ابن عمر رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: 119)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين. .: ص: (72، 73)، (مرجع سابق).
النزيه، إذ قال:(فقد أضلته الرغبة في أن يجد مثيلًا للقاعدة الرومية اللاتينية التي تقول: إنَّ ما يعجب الحاكم له قوة القانون فتورط في القول)(1).
والشاهد من هذا: إِنَّ الزَّعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على علم واسع بالقانون الروماني زعم متهافت باطل وكذلك الاستدلالات التي يوردها أصحاب ذلك الزعم (لا يصح مطلقًا أن يكون دليلًا)(2).
2 -
إن ما زعموه من أن الفقهاء المسلمين قد تعرفوا على القانون الروماني من المدارس الرومانية ومحاكمها زعم باطل من وجوه عدة أبرزها الآتي:
أ- (من المسلم به لدى المؤرخين القدماء والمحدثين أن هناك أحداثًا تاريخية جاءت على تلك المدارس الرومانية؛ أولها قرار الإلغاء لتلك المدارس عدا ثلاث مدارس منه فقط في بيروت والقسطنطينية وروما؛ فقد صدر بذلك قرار (جوستينان) في 16 ديسمبر 533 م) (3)، ثم في سنة (551 م) ضرب زلزال مدمر مدينة بيروت أتى على كل ما فيها بما في ذلك تلك المدرسة الرومانية للقانون، وحين دخل المسلمون بيروت لم تكن إلا أطلالًا، لا يمكن لعقل أن يتصور تأثير تلك المدرسة في الفقه الإسلامي بعد دمارها وما فيها من أساتذة وطلاب وآثار علمية بنحو مئة عام (4).
(1) فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (119).
(2)
محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي. .: ص: (92)، (مرجع سابق). وانظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة. .: ص: (64 - 65)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني: ص: (69 - 71)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المسثشرقين. .: ص: (72، 73)، (مرجع سابق).
(3)
انظر: عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة. . ص: (65)، (مرجع سابق)، وانظر: عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي. . ص: (72)، (مرجع سابق).
(4)
انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي. .: ص: (709)، (مرجع =
ب- كذلك ما يقال عن تأثير الإسكندرية (1) فقد ألغيت مدرستها القانونية بموجب قرار (جوستينيان) السابق ذكره، ومما ورد في التاريخ بأن (جوستينيان) لم يكتف بقرار الإلغاء فحسب، وإنَّما (أحرق ما كان بها من برديات قانونية بلغت عشرات الآلاف في بعض الروايات. والمعروف أن المسلمين دخلوا الإسكندرية سنة (641 م) بعد أن أغلقت مدرستها ودمر تراثها العلمي بأكثر من مئة عام) (2).
ج- أما تأثُّر الفقهاء المسلمين بمدرستي القسطنطينية وروما فهو مردود من ناحيتين:
الأولى: دخل المسلمون (القسطنطينية) عام (1453 م) بعد أن كان للفقه الإسلامي مدارس العامرة ومذاهبه المحددة، وهو في هذه وتلك متميز تمامًا عن المدارس الرومانية والقوانين الوضعية (3).
الثانية: لم يدخل المسلمين (روما) فاتحين إلى العصر الحديث.
3 -
أمَّا دعوى تأثر الفقهاء المسلمين بالمحاكم الرومانية الذي قال به بعض المستشرقين زاعمًا أنه حدث نتيجة الفتح الإسلامي للبلاد التي كانت فيها محاكم تطبق القانون الروماني، فإن دعوى هذا التأثر باطلة لعدة أسباب (4) من أبرزها:
= سابق)، وانظر: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (135)، (مرجع سابق).
(1)
انظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (65).
(2)
محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: (710).
(3)
انظر: محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: (710)، وانظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (66).
(4)
انظر: عبد الكريم زيدان: المرجع السابق نفسه: ص: (66). وانظر: عبد اللَّه الركبان: المرجع السابق نفسه: ص: (74، 75).
أ- إنَّ الفتح الإسلامي لم يصل إلى البلدان التي تخضع للمحاكم الرومانية، إلا بعد زوال تلك المحاكم من جهة، وتشكل الفقه الإسلامي وتكامله في منأى عن تلك المحاكم من جهة ثانية (1).
ب- قضى الفتح الإسلامي على أيِّ سلطة أجنبية للقضاء في الدولة الإسلامية (2)؛ لأنَّ الفتح الإسلامي ينطلق من عقيدة الحكم بما أنزل اللَّه، وهذا يعني رفض أي سلطة لغير شرع اللَّه، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 40]، وأيّ سلطة لغير اللَّه فهي في منظور الإسلام جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، ومن شأن الفتح الإسلامي أن يقضي على الجاهلية والضلال، ويحول بين من ركن لحكم الجاهلية أو ارتضاه وبين رغبته في بعث الجاهلية، قال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وقد أدرك بعض المستشرقين هذه النقطة الجوهرية وعبَّر عنها بقوله: (ويبدو من المحال سماح العرب الفاتحين ببقاء المحاكم التي تأخذ سلطتها من دولة أجنبية غير خاضعة للإسلام، وتبذل ولاءها لها، وهذا بقطع النظر عن الفرق الأساس بين قانون مبني على مشيئة اللَّه وبين قانون مصدره الأساس رضا الإمبراطور)(3).
4 -
أمَّا قول بعض المستشرقين بأن الأوزاعي والشافعي قد كانا على
(1) انظر: زقزوق: الاستشراق. . ص: (108، 109)، (مرجع سابق)، وانظر: بوسكة: سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (60، 66، 83)، (مرجع سابق).
(2)
انظر: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (142)، (مرجع سابق)، وانظر: زقزوق: الاستشراق. .: ص: (108، 109)، (مرجع سابق).
(3)
فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (142).
علم بالقانون الروماني، وعن طريقهما تأثر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، فإن هذا القول مردود من وجوه عدة، من أبرزها:
أ- إن تراث القانون الروماني قد اندثر من قبل عصر الإمام الأوزاعي والإمام الشافعي بنحو قرنين من الزمان، ولم يكن أحد في تلك البيئة الشامية يعرف شيئًا عن القانون الروماني (1).
ب- إن الإسلام قد صبغ مجتمع الشام بصبغته الإسلامية المختلفة عن الصبغة التي كان عليها في عصر البيزنطيين (2).
ج- انقطاع صلة الإمام الأوزاعي والإمام الشافعي بالقانون الروماني؛ لأنهما من مدرسة أهل الحديث التي تعول على النص (الكتاب والسنة) وفهم سلف الأمة أكثر من الميل للقول بالرأي الذي ربَّما لو كانا من أهله لتطرق الشك إلى فقههما باعتبار أن الفكر التشريعي القانوني مستمد من العقل في المقام الأول، وعلى هذا فإنَّ دعوى التأثر هذه ساقطة حجة وتاريخًا (3)(والعالم كله قبل الإسلام لم يعرف فكرًا أصوليًّا للقوانين والتشريعات)(4)، وإنَّما السبق في هذا للمسلمين إذ أصلوا المناهج ووضعوا قواعد البحث العلمي وعن طريقهم نقل الغرب ذلك الفكر، وأفادوا منه، ثمَّ تجاهلوا ذلك، وانثنوا ينسبون هذا السبق وتلك الريادة إلى القانون الروماني (5).
(1) محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (711)، (مرجع سابق).
(2)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (711).
(3)
انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والففه الإسلامي: ص: (711)، (مرجع سابق).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص: (712). وقد أدمجت الرد على هذه المقولة؛ لأن فقه الأوزاعي اندثر ولم يبق منه إلا ما ورد في فقه الشافعي؛ ولمزيد الاطلاع راجع: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين. . ص: (58)، (مرجع سابق).
(5)
انظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (712)، (المرجع السابق نفسه).
5 -
أمَّا استدلال بعض المستشرقين بسرعة تدوين الفقه الإسلامي على كونه اقتبس من نماذج جاهزة تمثلت في القانون الروماني فقد ردَّ على ذلك المستشرق (نالينو) بقوله: (إنهم -أي المسلمين- جعلوا الفقه جزءًا من علم الدين لا ينفك عنه، ولم يجعلوه علمًا ماديًّا من أمور الدنيا، فازدهار الفقه السريع ليس إلا أحد مظاهر الازدهار العام للعلوم الدينية عند المسلمين وكان ابتداؤها من تفسير القرآن ومن جمع الحديث وتشريحه)(1).
وعلى الرغم من كون تلك السرعة في تدوين الفقه الإسلامي ليست على إطلاقها، بل تدرجت في سلم الحضارة الإسلامية فإنها تعدُّ في نظر المنصفين ممَّا تميزت به الأمَّة الإسلامية، وقد أثبت الباحثون:(أن الفقه الإسلامي لا يلتقي مع القانون الروماني في منهج التدوين لا من حيث التقسيم، وترتيب المسائل، وتشقيق الفروع، ولا من حيث الصياغة واستخدام الألفاظ والعبارات)(2)، كما أثبتوا كذلك بأنَّ (كتب ذلك الفقه لا يحتوي على كلمة واحدة أو إشارة عابرة توحي بالتأثر والنقل)(3)، مما يبرهن على فساد آراء أولئك المستشرقين ومجافاتهم قواعد البحث العلمي وضوابطه المنهجية، حتى لقد بلغ الإسفاف ببعضهم إلى القول:(إن هناك تواطؤًا مقدسًا على السكوت الجنائي عند المؤلفين المسلمين بصدد المصادر التي أخذوا منها مادتهم)(4).
(1) نالينو: نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص: (21)، (مرجع سابق).
(2)
محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (719)، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص: (719).
(4)
السير رولاند ولسون: خلاصة القانون المحمدي، ص:(24)، نقلًا عن: فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (164)، (مرجع سابق).
ويدل هذا القول ونحوه عن أزمة الاستشراق، وإن توارى وراء ادعاء أنه يعالج قضية تاريخية وقد استدل (فتزجيرالد) بسكوت التاريخ الإسلامي عن مسألة التأثر بالقانون الروماني في الفقه الإسلامي وتدوينه على انتفاء ذلك التأثير، وذكر بأن الذين زعموا ذلك التأثر (لا يقدرون على إثبات وجود الاستعارة من القانون الرومي في الفقه الإسلامي بمجرد قولهم: إن الفقه لم يعترف بوجودها) (1).
6 -
أمَّا قولهم بالتشابه بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني فهو مسألة تحتاج إلى تفصيل ومناقشة، وقد أجرى هذه المنافسة نفر من الباحثين وفصلوا القول فيها وخرجها بنتائج محددة. . وفيما يأتي استعراض لأبرز ما قاله ثلاثة من أولئك الباحثين وما خَلصوا إليه من نتائج:
الأول: تناول المستشرق (نالينو) في دراسته لعلاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي جانب القول بالتشابه بينهما، وذكر بأن تلك المزاعم جاءت ثمرة للتخمين والاحتمال أكثر من كونها نتيجة لبحث علمي عميق، وأنهم حشدوا المتشابهات التي تدهش، ولكنها لا تملك قوة الإثبات (2)، ثمَّ انتقد هذا الاتجاه بقوله:(إنَّ من الضلالة؛ المماثلة الظاهرية الخارجية التي لا تؤيدها العناصر الداخلية ولا الوثائق التاريخية)(3) وبَيَّن (أن الذين جمعوا المتشابهات لكي يثبتوا أن قسمًا عظيمًا من الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني، قد أهملوا ثلاث نقاط مهمة في المسألة:
(1) فتزجيرالد: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (164)، (مرجع سابق).
(2)
نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص: (10)، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص: (17، 18).
أ- أنهم أهملوا. . الاختلافات التي توجد بين مذهب ومذهب، وهي أحيانًا ذات أهمية حتى فيما بين مذاهب أهل السنة الأربعة، فإذا كانت هناك مماثلة في بعض المسائل بين رأي مذهب فقهي وبين القانون الرومي، فقد لا يكون تشابه بين رأي المذاهب الأخرى والقانون الرومي في تلك المسائل.
وبسبب هذا الإهمال ذكر بعض الذين لا يعرفوا العربية خصائص مذهب واحد من المذاهب كأنها عناصر نموذجية في عموم الفقه الإسلامي.
ب- إنهم يحاولون جاهدين اصطياد المماثلات، ويهملون من جانب آخر أي إشارة إلى الاختلافات التي تعد محكًا لقيمة المماثلات وقدرها.
ج- إنَّهم أهملوا الفرق العظيم الذي يوجد بين الغرب وبين العالم الإسلامي في تصور القانون وفي مصادره) (1).
وبعد مناقشته لهذه الفروق والاختلافات وإيراده أمثلة عديدة لتوضيحها قال: (إنه لو كان فقهاء العرب وضعوا أمامهم كتابًا من الكتب المتداولة من القانون الروماني ليحاكوه، لما فكروا أنْ يبعثروا مسائل المعادن أو العبيد، أو ملكية الأراضي في أبواب شتى لا يمر ببال أحد من أهل القانون من الأوروبيين أن يجدوا فيها أبدًا، ولما وضعوا مسائل الربا في باب البيوع)(2).
ثمَّ يصل إلى النتيجة الآتية: (إنَّ العرب أنشؤوا فقههم إنشاءً مستقلًا في
(1) المرجع السابق نفسه: ص: (18)، ولمزيد الاطلاع على الاختلافات العميقة بين أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الروماني واختلاف مصادرهما؛ انظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (88 - 94)، (مرجع سابق).
(2)
نظرات في علاقات الفقه الإسلامي بالقانون الرومي: ص: (20)، (المرجع السابق نفسه).
القسم الأعظم منه، وفي رأيي أن هذا الإنشاء المستقل كان نتيجة الأحوال التاريخية الخاصة التي تطورت فيها المؤسسات القانونية والاجتماعية الإسلاميَّة أكثر ممَّا كان بسبب النظريات القانونية المجردة) (1).
الثاني: تناول محمد معروف الدواليبي دعوى التشابه بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني ضمن دراسته عن الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي عند المستشرقين (2)، وذكر بأن خلاصة ذلك التشابه المزعوم تنقسم إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تشابه في الأفكار الحقوقية.
الأمر الثاني: تشابه في لغة التعبير في كثير من النصوص.
الأمر الثالث: تشابه في كثير من الكلمات الاصطلاحية الحقوقية) (3).
وفي سياق مناقشته لهذه الأمور الثلاثة قال: (وإذا كان التشابه المدعى به فيما بين التشريعين هو تشابه في الأفكار أحيانًا، وفي لغة التعبير تارة، وفي بعض الاصطلاحات الحقوقية مرة أخرى، فإننا نجد أن أقوى أنواع التشابه تأييدًا للفرضية إنما هو النوع الثالث، وذلك لأن ما بين البشر من وحدة أساسية في التفكير تبعًا للحاجة ولظروف الحياة المتشابهة لدى الأمم هو عامل كبير للوحدة فيما بينهم في كثير من أفكارهم، وللتقارب في التعبير عن كثير منها من غير حاجة إلى نقل أحدهم عن الآخر)(4).
ثم ركز مناقشته على الكلمات الاصطلاحية في الحقوق الرومية،
(1) المرجع السابق نفسه: ص: (25).
(2)
الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي (المقالة الرابعة) مدرجة في كتاب: هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي: ص: (85 - 114)، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص: (98).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص: (99، 100).
وقسمها إلى أصيل ولاحق وإلى اصطلاحات متروكة وأخرى محتفظ بها، وصنفها بحسب متعلقاتها (1) إلى (أحكام الأشخاص، أحكام الأشياء، أحكام الدعاوى)(2).
ثم يقرر بأن دعوى التشابه التي ضخمها المستشرقون تنحصر (في الكلمات الاصطلاحية الجديدة دون الأصيلة)(3)، وأنه إذا أمعن النظر في المتشابهات -بغض النظر عن معنى التشابه- لم يوجد (في جميع ما يدعي فيه المستشرقون من تشابه في الكلمات الاصطلاحية كلمة واحدة من الكلمات الاصطلاحية التابعة لعهد الحقوق الرومية القديمة الأصيلة حتى ولو كانت هذه الكلمة الاصطلاحية القديمة لا تزال متداولة ومستعملة في الحقوق الرومية الجديدة اللاحقة)(4).
وهذا يعني أن الحقوق الرومانية تأثرت هي بالطابع الشرقي ولم يكن لها تأثير في التقاليد والأعراف الشرقية فضلًا عن تأثيرها في الحقوق الإسلامية (5)، وخلص في هذه المسألة إلى حصر التشابه المزعوم في المعنى اللغوي فقط، وأنه إذا نُظِرَ (نظرة خاصة في كل ما يدعى به من تشابه ما بين الكلمات الاصطلاحية في التشريعين. . وعن معنى التشابه المدعى
(1) انظر: الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي. .: ص: (100، 102)، (المرجع السابق نفسه).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص: (102).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص: (104).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص: (104).
(5)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص: (106). وقد أورد محمد يوسف موسى في كتابه: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي، جملة من الأدلة على تأثر القانون الروماني بالفقه الإسلامي؛ ص:(86، 95 - 102)، (مرجع سابق).
به) (1)، فإن التقارب يأتي (من جهة المعنى اللغوي الحقيقي، لا من جهة المعنى الاصطلاحي الخاص)(2).
وقد ضرب لذلك مثالًا بكلمتين (لتكونا أنموذجًا لغيرهما من الكلمات)(3) التي ضخمها المستشرقون، وبنوا عليها دعوى تأثر الشريعة بالقانون الروماني، (وهاتان الكلمتان. . هما كلمة الإجماع عند الفقهاء في التشريع الإسلامي وكلمة كونسانسوس consensus اللاتينية المفيدة معنى الإجماع أيضًا عند الفقهاء في التشريع الرومي)(4)، ثم أجري المقارنة بينهما من حيث الأسس والغايات وطرق الحصول عليهما، وخلص إلى القول:(من المقارنة بين كلمتين اصطلاحيتين هما الإجماع في التشريع الإسلامي والإجماع في التشريع الرومي يتضح أنه لا تشابه بينهما كما ادعى المستشرقون لا في الأساس، ولا في الغاية ولا في طريق الحصول عليهما. . إنما هناك تقارب في المعنى اللغوي)(5).
ويقرر بأن هذا التقارب في المعنى اللغوي لا يسمح بدعوى التشابه في المعنى الاصطلاحي، وأن دعوى التشابه فرضية لا تقوم على أساس سليم بل تخالف الوقائع العلمية (6).
الثالث: تناول المستشرق (فتزجيرالد) مسألة التشابه المزعوم ضمن دراسة علمية نشرها في إحدى المجالات العلمية، وأدرجت في كتاب هل
(1) المرجع السابق نفسه: ص: (106، 107).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص: (107).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص: (107).
(4)
الحقوق الرومية وأثرها في التشريع الإسلامي. .: ص: (107)، (المرجع السابق نفسه).
(5)
المرجع السابق نفسه: ص: (113).
(6)
المرجع السابق نفسه: ص: (114).
للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي (1)، وتقوم هذه الدراسة على المنهج التاريخي المقارن الموضوعي (2)، وقد تعقب فيها آراء كل من (آموس) و (جولدزيهر)(وسوساس باشا)(3) ونقض تلك الآراء في ضوء المنهج العلمي الذي يظهر بمظهر النزاهة -واللَّه أعلم- (وردَّ على كل واحدٍ منهم بالتفصيل ردودًا قاطعة، كما أبان سطحية الأول منهم بصفة خاصة في تفكيره واستدلاله بما لا يصح مطلقًا أن يكون دليلًا.
كما وصم (سواس باشا) بكونه ذا عقلية غير علميَّة ولا دقيقة، وأنه كان مدفوعًا في كتاباته بغرض سياسي وهو إظهار التشريع الإسلامي بأنه دائمًا قابل للمؤثرات الغربية. .) (4).
أما (جولدزيهر) فذكر أنه مع علو شأنه في الأوساط الاستشراقية فقد جاءت آراؤه في الشريعة الإسلامية مماثلة لتلك الآراء الخاطئة، وأنها وجدت رواجًا كبيرًا، ويؤكد أيضًا بأن آراءه هذه على النقيض مع اتجاهه العام في دراسته خارج هذا البحث، كما يؤكد -أيضًا- بأنه قد عدل عن تلك الآراء) (5)، ولكن فيما يبدو لي أن (جولدزيهر) يعد زعيم ذلك المنهج
(1) الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (115 - 166)، (مرجع سابق).
(2)
انظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (92)، (مرجع سابق).
(3)
انظر: فتزجيرالد: المرجع السابق نفسه: ص: (118).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص: (120). وانظر: محمد يوسف موسى: المرجع السابق نفسه: ص: (92)، وانظر: عبد الحميد متولي: الإسلام وموقف علماء المستشرقين. .: ص: (72)، (مرجع سابق).
(5)
انظر: الدين المزعوم للقانون الرومي على القانون الإسلامي: ص: (144)، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: المرجع نفسه: ص (121)، وانظر: محمد يوسف موسى: التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي: ص: (92)، (مرجع سابق).
الذي يهدف للنيل من تميُّز الأمة الإسلامية في عقيدتها وفي شريعتها وفي تاريخها وإن حاول صيغة أبحاثه في قوالب تظهر بمظهر العلمية والمنهجية.
وبعد أن يناقش (فتزجيرالد) هؤلاء المستشرقين الثلاثة وغيرهم، ويفند مزاعمهم؛ يصل إلى القول بأنه لا توجد (حتى كلمة واحدة مستعارة من اللاتينية أو اليونانية في العدد الضخم من المصطلحات الفقهية)(1)، وقبل ذلك أثبت بأن (القانون التلمودي مليء بالمصطلحات اليونانية واللاتينية. . في قالب عبراني)(2)، وكذلك دخلت القانون الروماني كلمات (تنادي جهارًا على الفور أنها يونانية الأصل)(3).
وينهي بحثه بالنتيجة الآتية:
(الشريعة كما ذكرنا من قبل تختلف اختلافًا أساسيًا عن القانون الرومي، سواء في طبيعتها أو في غرضها، فالقانون الرومي، حتى في خالص ناحيته المجردة والعلمية، ليس إلَّا قانون العلماء القانونيين أو كما يقال في المثل اللاتيني: كل قانون وضع فإنَّه وضع بسبب الإنسان. . أمَّا القانون الإسلامي فهو أولًا وقبل كل شيء نظام أهل دين يطبقون الأحكام الموجودة على الوقائع، وغرضهم وصل كل نفس إنسانية باللَّه تعالى. وهذا القانون يتضمن كثيرًا من أحكام الصوم والصلاة والحج وأمثالها وحتى حينما يعالج أمورًا مدنية مثل البيع والرهن. . تغلب فيها ناحيتها الدينية)(4)، والجدير بالذكر أن (فتزجيرالد) وضَّح أن مراده بالقانون الإسلامي الشريعة الإسلاميَّة (5).
(1) انظر: الدين المزعوم. .: ص: (160)، (المرجع السابق نفسه).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص: (158).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص: (158).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص: (158).
(5)
انظر: المرجع السابق نفسه: 158.
وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسة (لفتزجيرالد) وما وصل إليه من نتائج حاسمة في دعوى تأثير القانون الروماني على الشريعة الإسلامية، وأن هذه الدعوى تسقطها الحجج البينة ويبطلها التاريخ الثابت، فإن هذا المستشرق يستثني من بحثه التأثير بطرق غير مباشرة، ويعد ببحثها في مستقبل الأيام (1) غير أنني لم أقف على شيء من ذلك، واللَّه أعلم.
وفي هذا الصدد ينفي (محمد أسد) أي مظهر للتأثر والتأثير، ويرى بأن الموازنة بين الإمبراطورية الرومانية والأمة الإسلامية من السخافات الكثيرة التي تغذى بها عقول الجيل الحاضر، إذ ليس ثمة شيءٌ ما مشترك بينهما إلا (أنهما امتدتا فوق أرض شاسعة وشعوب متباينة)(2)، ويؤكد المستشرق (زيس) بأن الصلة منقطعة بين الشريعة الإسلامية، وهذا القانون -القانون الروماني- فبينما يعتمد قانونيًا على العقل البشري تقوم الشريعة على الوحي الإلهي، فكيف يتصور التوفيق بين نظامين قانونيين وصلا إلى هذه الدرجة من الاختلاف) (3).
وخلاصة القول: إنَّ دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني دعوى غير صحيحة تعارضها الأدلة الثابتة، وتبطلها شواهد التاريخ (والشريعة الإسلامية تناقض القانون الروماني في القيم الخلقية والاجتماعية وتخالفه مخالفة واسعة الأمد في النظرة إلى الإنسان وإلى الحياة كلها)(4)،
(1) انظر: المرجع السابق نفسه: (166).
(2)
محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق: ص: (35)، (مرجع سابق).
(3)
نقلًا عن عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة ت ص: (74)، (مرجع سابق)، وانظر: محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (722)، (مرجع سابق).
(4)
محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة. .: ص: (86)، (مرجع سابق).