الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحالة الثالثة: حالة الانتقام والجزاء:
بعد هذا الإلحاد في آيات اللَّه، والخروج عن منهجه، وعدم تحقيق التميُّز الذي يستوجبه ذلك المن والعطاء والاختيار والتكريم صدر الحكم الإلهي العادل والقضاء الماضي. . وهذه عدة آيات تبين ذلك:
- قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161].
- وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88].
- وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
- وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].
هذه الحالات الثلاث التي اتسم بها تاريخ بني إسرائيل يكشف عن منزلة التميُّز، وأَنَّهُ من لوازم سبيل الرشد والطريق المستقيم، وأَنَّ المن والعطاء الذي أحاط ببني إسرائيل كان من أجل حمل رسالة الدين والاستقامة على منهج اللَّه، وإذ لم يحققوا ذلك وتنكبوا طريقه سلبهم اللَّه ما أنعم به عليهم، واصطفى لحمل رسالته قومًا آخرين.
يقول أحد الباحثين: (ولقد اختارهم اللَّه حقًا ذات يوم وكانوا شعب اللَّه المختار. . . ولكنهم عند الابتلاء سقطوا وجحدوا تلك النعمة فلم يرعوها حق رعايتها (وكانت) صفحتهم سوداء. . . أدت إلى نزع العهد منهم ورفع الاختيار عنهم ومنحه لأُمَّةٍ سواهم. . هي التي قال لها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال عنها:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)[آل عمران: 110].
إن هذا المصير الذي آلت إليه اليهود ينطبق على كلِّ من هذا حَذْوهم بدءًا بالنَّصارى الَّذين قال اللَّه عنهم: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14].
وينطبق ذلك على المشركين كافَّة وعلي المنافقين وعلي المبتدعين بقدر
(1) محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة: ص: (79 - 81)، الطبعة الأولى:(1403 هـ - 1983 م)، عن دار الشروق - بيروت.
بدعتهم، كما قال بعض الباحثين:(ما من طائفة من طوائف الأُمَّة خرجت عن السنة إلَّا وقعت في شيء من سنن الأُمم الهالِكَةِ. . وفيها شبه بالكفّار يقل أو يكثر)(1).
ومما يروي عن بعض السلف أَنَّهُ كان يقول: (من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النَّصارى)(2).
ولعل ممَّا يتناسب مع هذا ما روي عن غضيف بن الحارث الثُّمالي أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثْلُها مِن السُّنة"(3).
وبالجملة فإنَّ من لم يحقق التميُّز يدخل فيما سبق من التعريض والذَّم والوعيد الشديد في الدنيا والآخرة، ولعل في قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. لعل في هذه الآية من الإطلاق ما يتناول كل من لم يحقق التميُّز الذي هو نتيجة لاتباع سبيل المؤمنين، ولازم من لوازم ذلك.
قال ابن كثير في معنى هذه الآية: (أي: ومن سلك غير طريق الشريعة
(1) ناصر بن عبد الكريم العقل: من تشبه بقوم فهو منهم ص: (16 و 13)، الرسالة رقم:(6)، من رسائل ودراسات في منهج أهل السنة، عن دار الوطن - الرياض، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل: (1/ 28)، مرجع سابق.
(2)
يروى هذا القول عن سفيان بن عيينة وغيره. انظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم. . (1/ 67، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل)، مرجع سابق.
(3)
أخرجه الإمام أحمد: (4/ 105)، مرجع سابق، وجاء عن ابن شيبة بلفظ:(ما من أُمَّة تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة): عمر بن شبة: تاريخ المدينة المنورة: (1/ 10)، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، طبعة دار الكتب العلمية، القاهرة، 1996 م، انظر نص الحديث وتخريجه، ما قيل عن بعض رواته لدى السيوطي: مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة حديث: (259)، ص:(124)، تحقيق: بدر بن عبد اللَّه البدر، طبعة:(1414 هـ - 1993 م)، عن دار النفائس - لبنان.
الَّتي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له. وقوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]. هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأُمَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ فِيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا فإنّه قد ضمنت لهم العصمة -في اجتماعهم- من الخطأ تشريفًا لهم، وتعظيمًا لنبيهم) (1).
* * *
(1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 554. 555)، مرجع سابق.