المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ١

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌ في التفسير وعلوم القرآن:

- ‌ وفي السنة النبوية وشروحها:

- ‌ وفي الفقه وما يتصل به:

- ‌ وفي السيرة النبوية:

- ‌ وفي العقيدة والتوحيد:

- ‌ وفي مجال الدراسات المعاصرة المتميزة:

- ‌مقدمة الدراسة: بين يدي تميز الأمة الإسلامية

- ‌المقدمة

- ‌ظاهرة التميز بين التاريخ والدين:

- ‌الدراسات السابقة في تميز الأمة الإسلامية:

- ‌المنهج في دراسة تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه وخطة البحث فيه:

- ‌أولًا: جمع المادة العلمية:

- ‌ثانيًا: خطة البحث:

- ‌فكرة تقسيم الدراسة في خمسة كتب:

- ‌الفصل الأول مفهوم تميُّز الأمة الإسلامية

- ‌مفهوم تميُّز الأمة الإسلامية

- ‌اشتقاق التميُّز اللغوي

- ‌من مجموع هذه النقول يتضح الآتي:

- ‌صلة التميُّز بالأمة الإسلامية

- ‌ مصطلح التميُّز

- ‌مدلول (الأمَّة) في معاجم اللغة العربية

- ‌مدلول الأُمَّة في القرآن الكريم

- ‌جاءت الأمة في القرآن الكريم:

- ‌خلاصات لمعاني (الأُمَّة) في اللغة العربية والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف واستنتاجات

- ‌نماذج من تعريفات العلماء والمفكرين لمدلول (الأمَّة) في الفكر الإسلامي وتحديد مصطلح (الأمَّة) في البحث

- ‌مفهوم الأمَّة الإسلامية

- ‌معنى الإسلام

- ‌الإسلام إذا وصفت به الأمة

- ‌منزلة تميُّز الأمة الإسلامية

- ‌كون التميز سنة من سنن اللَّه في خلقه

- ‌الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه

- ‌التعريض بمن لم يرعَ التميُّز والوعيد المترتب على عدم تحقيقه

- ‌الحالة الأولى: حالة المن والعطاء:

- ‌الحالة الثانية: حالة الجحود، أو موقف بني إسرائيل من هذا المن ومن ذلك العطاء:

- ‌الحالة الثالثة: حالة الانتقام والجزاء:

- ‌النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهليَّة

- ‌1 - المراد بالتشبه المنهي عنه

- ‌2 - النهي عن التشبه في مجال العقيدة:

- ‌3 - النهي عن التشبه في مجال العبادة:

- ‌4 - النهي عن التشبه في مجال الشعائر والمظهر العام:

- ‌ضرورة‌‌ إبراز ذاتية الأمة الإسلامية وصقلها وإظهار سمتها وسماتها

- ‌ إبراز ذاتية الأمة الإسلامية وصقلها وإظهار سمتها وسماتها

- ‌تجسيد القدوة في ذاتية الأمة الإسلامية وإظهارها للإنسانية

- ‌بناء قدرة الأمة الإسلامية على مواجهة الصراع الحضاري

- ‌الفصل الثانى الاستشراق والمستشرقين

- ‌مفهوم الاستشراق والمستشرقين

- ‌تعريف الاستشراق:

- ‌أ- تعريفه لغة:

- ‌ب- تعريفه اصطلاحًا:

- ‌مسلمات حول مفهوم الاستشراق والمستشرقين وملحوظات:

- ‌لمحة موجزة عن تاريخه

- ‌جذور نشأة الاستشراق

- ‌ومن هنا نشأت حركة الاستشراق لتحقيق الآتي:

- ‌الاستنتاجات والملحوظات حول نشأة الاستشراق:

- ‌الصلات الثقافية بين الإسلام والغرب في الأندلس وصقيلية

- ‌أثر الاستشراق في الحروب الصليبية وأثرها في الاستشراق

- ‌تطور الاستشراق

- ‌العوامل التي ساعدت على تطور الاستشراق

- ‌وفيما يأتي إبراز لأهم تلك العوامل والتطورات:

- ‌ومن أبرز ما يمثل هذا الاتجاه:

- ‌وفيما يأتي توضيح لأبرز هذه المستجدات:

- ‌دوافع الاستشراق ومظاهر نشاطه

- ‌أولًا: الدوافع الاستشراقية:

- ‌1 - الدافع الديني:

- ‌2 - الدافع السياسي:

- ‌3 - الدافع الاقتصادي:

- ‌4 - الدافع العلمي:

- ‌ثانيًا: مظاهر النشاط الاستشراقي:

- ‌حاضر الاستشراق ومستقبله وعوامل قوته واستمراره

- ‌1 - نقد الساسة الغربيين للاستشراق والمستشرقين

- ‌2 - وجهة نظر الباحث حول حاضر الاستشراق والمستشرقين ومستقبلهم:

- ‌3 - عوامل قوة الحركة الاستشراقية واستمرار المستشرقين:

- ‌العقيدة

- ‌تمهيد

- ‌تعريف العقيدة لغة واصطلاحًا

- ‌خصائص العقيدة الإسلاميَّة

- ‌أ- كونها عقيدة الفطرة:

- ‌ب- الوضوح واليسر:

- ‌ج- استقلال منهجها في الاستدلال عن الطرائق الفلسفيَّة:

- ‌فالأدلة الكونية:

- ‌والأدلة النفسية:

- ‌والأدلة العقليَّة:

- ‌د- الانضباط وملازمة الحق والانتصار له:

- ‌أثر العقيدة في الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌ويُمكن رصد بعض آثار العقيدة في الأُمَّة الإسلاميَّة في الآتي:

- ‌موقف المستشرقين من العقيدة الإسلامية

- ‌أولًا: صورة العقيدة الإسلاميَّة لدى الغرب في العصور الوسطى:

- ‌ثانيًا: نماذج من آراء المستشرقين في العقيدة الإسلاميَّة:

- ‌ثالثًا: الرد على أقوالهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوال المستشرقين السابقة فهو على النحو الآتي:

- ‌الشريعة

- ‌تمهيد

- ‌‌‌تعريف الشريعة لغةواصطلاحًا

- ‌تعريف الشريعة لغة

- ‌تعريف الشريعة اصطلاحًا:

- ‌أهمية النظام في الكون والحياة

- ‌حاجة البشرية إلى النظام

- ‌ويدفع البشر إلى التجمع دوافع عدة من أهمها:

- ‌أولًا: الدافع النفسي:

- ‌ثانيًا: الدافع المادي:

- ‌ثالثًا: الدافع الأمني:

- ‌وهنا يأتي السؤال من الذي ينظم

- ‌قصور العقل البشري عن تشريع النظم

- ‌لمحة موجزة عن حال الأمم في ظل بعض النظم البشرية

- ‌خصائص الشريعة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من الشريعة الإسلامية

- ‌ويعالج البحث هنا الدعوى من جانبين:

- ‌الجانب الأول:

- ‌أولًا: القانون الروماني:

- ‌ثانيًا: التلمود اليهودي:

- ‌ثالثًا: التعاليم النصرانية:

- ‌رابعًا: أعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام:

- ‌الجانب الثاني: نقد أقوال المستشرقين حول الشريعة:

- ‌وفي ضوء ما سبق يمكن نقد أقوال المستشرقين واستدلالاتهم في النقاط الآتية:

- ‌نقد الدعوى الأولى: دعوى التأثر بالقانون الروماني:

- ‌نقد الدعوة الثانية: دعوى التأثر بالتلمود اليهودي:

- ‌نقد الدعوى الثالثة: دعوى التأثر بالتعاليم النصرانية:

- ‌الدعوى الرابعة: دعوى التأثر بأعراف العرب وتقاليدهم قبل الإسلام:

- ‌الأخوة ووحدة الأمة الإسلامية

- ‌تمهيد

- ‌تعريف الأخوة في اللغة والاصطلاح

- ‌منهج الإسلام في تقرير الأخوة، ووحدة الأمة

- ‌أثر الأخوة في تميز الأمة الإسلامية، ووحدتها

- ‌موقف المستشرقين من الأخوة ووحدة الأمة الإسلامية

الفصل: ‌الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه

‌الأمر به والثناء على من حققه والوعد المترتب عليه

يكاد تميُّز الأمة الإسلامية أن يكون المحور الأساس الذي تدور حوله آيات العقيدة، والأحكام، والآداب، بل حتى القصص القرآني في مغزاه القريب والبعيد، وكذلك تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بسمت معين يميزهم في العقائد والشعائر والعبادات والسلوك أمرًا به وثناءً على المتصفين بصفاتٍ لازمها التميز والحث على ذلك وذكر الوعد المترتب عليه، وتفصيل ذلك في الآتي:

1 -

في سورة الفاتحة (وهي أم القرآن المتضمن لجميع علومه)(1) تميُّز الطريق بين طريقين يدل عليه أوضح دلالة قوله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].

قال بعض المفسرين: الصراط المستقيم كتاب اللَّه، وقال بعضهم: هو الدين. وقال بعضهم الآخر: إنَّه الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع ابن كثير بين هذه الأقوال بقوله:(وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة، فإنَّ من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين بعده، أبي بكر وعمر، فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب اللَّه، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضًا وللَّه الحمد)(2)، وقبل ذلك قال: (اختلفت عبارات المفسرين من

(1) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: (1/ 78، 79)، (مرجع سابق). وانظر: البغوي: معالم التنزيل: (1/ 49)، (مرجع سابق)، وغيرهما من المفسرين.

(2)

ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/ 28)، (مرجع سابق).

ص: 119

السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد؛ وهو المتابعة لله وللرسول) (1).

وذلك هو الطريق الذي يؤم ويقصد، وواضح أنَّ للذين يؤمُّونه ويقصدونه -وهم المنعم عليهم- صفات وخصائص تميزهم عن غيرهم، وهي صفات وخصائص تتجلى في كثير من سور القرآن وآياته تفصيلًا لما أجمل في الفاتحة، من ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3 - 5].

ومن اللطائف في هذا ما ذكره بعض المفسرين في إشارة إلى المناسبة بين سورة البقرة والفاتحة، قال:(إنَّه لما شرع -جلَّ وعلا- في الفاتحة طلب الهداية لصراطه المستقيم الذي هو صراط المنعم عليهم، ناسب أن يبين من هم المنعم عليهم، فذكر من صفاتهم، وأنهم المتقون، وبين طريقتهم، وهو الإيمان والعمل الصالح)(2)، وهذا ما يميزهم، وقد رتَّب عليه الفلاح والهداية.

يقول ابن قيم الجوزية: (كأنه قيل: وما يحصل لهؤلاء الموصوفين بهذه الصفات، فقيل: إنَّهم على هدى من ربهم وإنهم مفلحون)(3).

(1) المرجع السابق نفسه: ص: (28).

(2)

انظر: أبو الفضل شهاب الدين محمود الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: 1/ 101، 102، الطبعة الأولى:(1415 هـ - 1914 م)، عن دار الكتب العلمية - بيروت، وانظر: جواهر البيان في تناسب سور القرآن: ص: (26)، الطبعة الثَّانية:(1406 هـ - 1986 م)، عن عالم الكتب، بيروت، (ولم يظهر عليه اسم مؤلفه).

(3)

بدائع التفسير، الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية:(1/ 261)، جمع وتوثيق وتصحيح: يسرى السيد محمد، الطبعة الأولى:(1414 هـ.)، عن دار ابن الجوزي - الدمام.

ص: 120

ومما يزيد هذا الأمر وضوحًا ما جاء بعد هذه الآيات من آيات تذكر من حال الكفَّار والمنافقين ما يُظْهِرُ تميُّز الأمة الإسلامية، ولعل هذا مما جعل بعض المفسرين يلحظ من قوله تعالى في وصف المنافقين:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] معنًى لطيفًا يدل على منزلة التميز، وقد عبَّر عنه بقوله:(نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من اللَّه كريم. . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائمًا ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين اللَّه والمؤمنين إنَّه يجعل صفهم صفَّه، وأمرهم أمره، وشأنهم شأنه، وهذا هو التفضل العلوي الكريم. . الذي يرفع مقام المؤمنين، وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق. . وهذه الحقيقة. . جديرة أن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا، ويثبتوا، ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشريرين)(1).

2 -

على المنوال نفسه تتعانق المعاني والصور في القرآن الكريم من أوله إلى آخره بما يبرز منزلة تميُّز الأمة الإسلامية باعتباره من لوازم الصراط المستقيم من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51]، وقوله:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقوله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16].

ويقول تبارك وتعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] ويقول: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا

(1) سيد قطب: في ظلال القرآن: (1/ 43)، (مرجع سابق).

ص: 121

الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 126، 127]، ويقول:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153]، وروي عن جابر بن عبد اللَّه قال:(كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخطَّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه وخطَّ خطَّين عن يساره، ثمَّ وضع يده في الخط الأوسط فقال: "هذا سبيل اللَّه"، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (1)، ومما روي عن عبد اللَّه بن عباس في تفسيرها وفي تفسير قوله تعالى:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13] ونحو هذا مما في كتاب اللَّه قوله: (أمر اللَّه المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنَّما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين اللَّه)(2).

3 -

ومن الآيات في هذا قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26].

(1) أخرجه ابن ماجه: سنن ابن ماجه، المقدمة حديث رقم:[11]، (1/ 6)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وصححه الحاكم: المستدرك على الصحيحين: (2/ 348، 349)، الحديث رقم:(3241/ 358)، بترتيب: مصطفى عبد القادر عطا، وقال الحاكم عنه:(حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، (مرجع سابق). وانظر: الصحيح المسند في التفسير النبوي للقرآن الكريم لمؤلفه أبي محمد السيد إبراهيم بن أبو عمة، ص:(31)، الطبعة الأولى:(1410 هـ - 1990 م) عن دار الصحابة للتراث، طنطا.

(2)

صحيفة علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: في تفسير القرآن الكريم. .: ص: (219)، (مرجع سابق).

ص: 122

قال ابن قيم الجوزية في تفسيرها: (فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجهه الكريم. هكذا فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم)(1)، ثم أورد قوله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن صهيب:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول اللَّه تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟، ألم تدخلنا الجنَّة وتنجينا من النار؟. قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل"(2).

وقوله لعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].

وقوله: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:41 - 43].

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآيات: (قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. .)(3)، وقال في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} : هؤلاء الذين هداهم اللَّه واجتباهم واختارهم واصطفاهم) (4).

4 -

ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا

(1) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير. .: (2/ 398)، (المرجع السابق نفسه).

(2)

رواه مسلم: صحيح مسلم: (1/ 163)، كتاب الإيمان، باب:[80]، حديث:[181]، ورواه الترمذي: الجامع الصحيح: (4/ 593)، برواية نحو رواية مسلم، حديث رقم:[2552]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: المرجع نفسه، ص:(398).

(3)

الجامع لأحكام القرآن: (10/ 20)، (مرجع سابق).

(4)

المرجع السابق نفسه: (10/ 20).

ص: 123

حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23، 24].

قال الطبري في تفسير هاتين الآيتين: (يقول تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا باللَّه ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم اللَّه به من صالح الأعمال، فإن اللَّه يدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، فيحليهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا) وقال -أيضًا-: (وقوله: {الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} دين الإسلام الذي شرعه لخلقه وأمرهم أن يسلكوه)(1).

5 -

وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].

قال القرطبي: (ضرب اللَّه مثلًا للمؤمن والكافر)(2).

وقال السعدي: (أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائهًا في الضلال، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه فصار الحق عنده باطلًا، والباطل حقًّا، أو من كان عالمًا بالحق، مؤثرًا له، عاملًا به، يمشي على الصراط المستقيم، في أقواله وأعماله وجميع أحواله، فبمجرد النظر إلى الحالين يعلم الفرق بينهما)(3).

وقال ابن كثير: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة، هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكون في الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم مفضٍ به الجنة الفيحاء، وأما الكفر فإنّه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم) (4).

(1) جامع البيان. .: (9/ 127، 128)، (مرجع سابق). وانظر: البغوي: معالم التنزيل: (5/ 376)، (مرجع سابق).

(2)

الجامع لأحكام القرآن: (17/ 142)، (مرجع سابق).

(3)

تيسير الكريم الرحمن. .: (7/ 438)، (مرجع سابق).

(4)

تفسير القرآن العظيم: (4/ 399)، (مرجع سابق).

ص: 124

6 -

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 66 - 70].

وقال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 175].

قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7](1).

وقال ابن قيم الجوزية في تفسيرها -أيضًا-: (فجعل الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللَّه تعالى وهم على ذلك)(2).

7 -

ومما ذكره السعدي -في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} الآية- قوله: (ثم رتَّب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به وهو أربعة أمور:

أحدهما: الخيرية في قوله: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي لكانوا من الأخيار

(1) المحرر الوجيز: (2/ 76)، (مرجع سابق). وانظر تفسير الرازي: ص: (88)، تحقيق: محمد رضوان الدَّاية، الطبعة الأولى:(1411 هـ)، عن دار الفكر المعاصر - بيروت.

(2)

بدائع التفسير. .: (2/ 39)، (مرجع سابق).

ص: 125

المتصفين بأوصافهم، من أفعال الخير، التي أمروا بها، وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار؛ لأنَّ ثبوت الشيء، يستلزم نفي ضده.

الثاني: حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإنَّ اللَّه يثبت الذين آمَنُوا بِسبب ما قامُوا به من الإيمان، الَّذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا، عند ورود الفتن في الأوامر، والنواهي، والمصائب، فيحصل لهم ثبات، يوفقون به لفعل الأوامر، وترك الزواجر، التي تقتضي النفس فعلها، وعن حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق والصبر أو للرضا، أو الشكر، فينزل عليه معونة من اللَّه، للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين عند الموت وفي القبر. وأيضًا فإن العبد القائم بما أُمِرَ بِهِ، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها، ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات.

الثالث: قوله: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 67]. أي: في العاجل والآجل، الذي يكون للروح والقلب، والبدن، ومن النعيم المقيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

الرابع: الهداية إلى صراطٍ مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره به، والعمل به وتوفق السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم فقد وفق لكل خير واندفع عنه كل شر وضير؛ أي: كل من أطاع اللَّه ورسوله -على حسب حاله، وقدر الواجب عليه، من ذكر وأنثى وصغير وكبير {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]. أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة (1).

(1) تيسير الكريم الرحمن: (2/ 94 - 96)، (مرجع سابق).

ص: 126

ثم يفسر قوله تَعالَى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (بالاجتماع بهم، في جنات النعيم، والأنس بقربهم، في جوار رب العالمين)(1).

8 -

تتحقق الاستقامة على الصراط المستقيم بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ولتلك الاستقامة التي أمر اللَّه بها وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم لازم (ولازم الحق كما قال العلماء حق؛ لأَنَّ اللَّه تعالى عالم بما يكون لازمًا من كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون مرادًا)(2).

أما لازم تلك الاستقامة فهو التميُّز والاستقامة مردودها على المستقيمين من الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ في الدنيا والآخرة وهو نفسه مردود التميُّز، وما يترتب على الإيمان والعمل الصالح من موعودٍ إلهي في الدنيا والآخرة يبين بجلاءٍ ووضوح منزلة تَمَيَّزُ الأُمَّة الإسلامِيَّة عن غيرها من الأمم. . وقد اتضحت فيما سبق منزلة تميُّز الأمة الإسلامية في الآخرة بخاصة.

أَمَّا منزلة تميُّز هذه الأمة في الحياة الدنيا -وعلي وجه الأرض بالذَّات- فمن الأدلة على ذلك ما يأتي:

الأولى: تحقق الأمن والرخاء، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].

قال ابن عطية في تفسيرها: (والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر)(3)، وقد ربط اللَّه عز وجل الحياة الكريمة للأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ بالإيمان والتقوى إذا تحققا في الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ تَوفر لها الأمن النفسي والاجتماعي والأمن السياسي والعسكري، وتوفر لها الرخاء في المعيشة، وذلك بإنزال

(1) المرجع السابق نفسه: (2/ 96).

(2)

محمد بن صالح العثيمين: القواعد المثلى في صفات اللَّه وأسمائه الحسنى: (ص: 14)، الطبعة الأولى:(1412 هـ، عن دار الوطن، الرياض).

(3)

المحرر الوجيز: (2/ 432)، (مرجع سابق).

ص: 127

الغيث من السماء وإنبات الزرع، ولا تستقيم الحياة إلا في ظل هذين البعدين (1)، الأمن الشامل والرخاء العام؛ ولذلك جاء بعد هذه الآية قوله تعالى:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]. وجاء هذا الوعيد الشديد بعد قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

الثَّانية: النصر والعزة والتمكين في الأرض، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

قال بعض المفسرين: (هذا من وعوده الصادقة، التي شُوهِدَ تأويلها ومخْبَرُها، وأن يُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فإن الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأُمَّة، لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شعائره الظاهرة والباطنة، في أنفسهم وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان، وسائر الكفار، مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم أمنًا من بعد خوفهم، حيث كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جدًا، بالنسبة لغيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة، وبغوا لهم الغوائل، فوعدهم اللَّه هذه الأمور، وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون اللَّه ولا يشركون به شيئًا، ولا يخافون أحدًا إلَّا اللَّه، فقام صدر هذه الأُمَّة، من

(1) انظر: (عبد المنعم أبو زنط): (التميز الإسلامي): (ص: 17)، مرجع سابق.

ص: 128

الإيمان والعمل الصالح بما يفوق غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام، والتمكين التام، فهذا من آيات اللَّه العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح فلا بد أن يوجد ما وعدهم اللَّه (1).

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

قال ابن كثير في تفسيرها: (فرقانًا: مخرجًا، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة، وفي رواية ابن عباس (فرقانًا)، نجاة (2). وفي رواية عنه، نصرًا، وقال محمد بن إسحاق:(فرقانًا)؛ أي: فصلًا بين الحق والباطل. وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم، وهو يستلزم ذلك كله فإنَّ من اتقى اللَّه لفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة (3).

وقال الطبري في تفسيره قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. . .} [النور: 55] الآية: (يقول تعالى: ليورثنهم اللَّه أرض المشركين من العرب

(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (5/ 439، 440)، مرجع سابق.

(2)

ورد في صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن الكريم: (ص: 251)، بتحقيق: راشد الرجال: (فرقانًا، مخرجًا)، مرجع سابق.

(3)

تفسير القرآن العظيم: (2/ 301، 302)، مرجع سابق.

ص: 129

والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها. . .، وليوطئن لهم دينهم يعني ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها (1).

وأورد في سبب نزولها عن أبي العالية قال: (مكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفًا، يدعو إلى اللَّه سرًّا وعلانية،. . . ثمَّ أُمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها هو وأصحابه خائفون يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغبرون (أي: لن تلبثوا) إلَّا يسيرًا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا فيه ليس فيه حديدة، فأنزل اللَّه هذه الآية" (2).

ومما تُعْلَمُ بهِ منزلة تميُّز الأمة الإسلامية وآثاره العظيمة ما أشار إليه ابن قيم الجوزية بقوله: (عزيزٌ غالبٌ مؤيدٌ منصورٌ، مكفيٌّ، مدفوع عنه بالذّات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بتحقيق الإيمان وواجباته، ظاهرًا وباطنًا. وقد قال اللَّه تعالى للمؤمنين:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].

فهذا الضمان إنَّما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود اللَّه يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذا كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره (3)، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ

(1) جامع البيان: (9/ 343)، مرجع سابق.

(2)

جامع البيان: (9/ 343)، المرجع السابق نفسه، وانظر: الواحدي: أسباب النزول: ص (247)، عن عالم الكتب - بيروت (بدون تاريخ)، ولم تذكر الطبعة، وقد ورد فيه: مكث رسول اللَّه بمكة عشر سنين بعدما أوحى اللَّه إليه خائفًا هو وأصحابه يدعون.

(3)

بدائع التفسير: (2/ 86)، مرجع سابق.

ص: 130

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121].

* * *

ص: 131