الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام والتوراة والإنجيل باعتبار أن الدين الإلهي واحد، فإن ذلك أمر آخر ليس هذ محل مناقشته.
نقد الدعوى الثالثة: دعوى التأثر بالتعاليم النصرانية:
تنحصر دعوى تأثر الشريعة الإسلامية بالتعاليم النصرانية عند التحقيق في مسألتين:
الأولى: أثر مؤلفات الفرق النصرانية الشرقية على تأليف الفقه الإسلامي.
الثانية: أثر الذين دخلوا الإسلام من النصارى وأهل الذِّمَّة على الشريعة الإسلامية وفقهها.
أما المسألة الأولى: فإن الذين أثاروها ومنهم (بوسكة) عاد ليعترف بأن (الاختلافات بين الفقه والقانون الكنسي الكاثوليكي ذات أهمية واعتبار، وهي تشير -كما قال- إلى أن الأمر يتعلق بنظامين لا يمكن عقد مقارنة بينهما إلا قليلًا)(1)، ثم أثار جملة من تلك الاختلافات في أربع نقاط تناولت مصادر النظامين ومجمل أحكامهما وما يتميز به كل نظام منهما، وخلاصة هذه النقاط:
1 -
اتصاف النظام الإسلامي بالثبات واختلاف القانون الكنسي عنه في ذلك.
2 -
التعارض بين النظامين من حيث تكونهما حيث انبثق الفقه الإسلامي من القرآن والسنة والقانون الكنسي من مصادر عديدة غير إنتاج الفقهاء النصارى.
3 -
شمول الفقه الإسلامي لحياة الفرد وحياة الأمة (ابتداءً من أحكام الاستنجاء وقضاء الحاجات الطبيعية وصلاة وقواعد الجهاد والحرب،
(1) سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (67)، (مرجع سابق).
والزكاة. . . مارًّا بالزواج والبيوع والوصايا. . . والأمر ليس كذلك في القانون الكنسي) (1).
4 -
ارتباط الفقه الإسلامي بالأخلاق الإسلامية، أما في القانون الكنسي فإن الأخلاق شيء (والقانون الكنسي شيء آخر مختلف عنه)(2).
وفي ختام هذه المقارنة قال مستنتجًا: (إنه ليبدو لي أننا نستطيع أن نستنتج أن نظامي التفكير الإسلامي والكاثوليكي هما غير متشابهين، وأنهما تطورا طبقًا لمبادئ مختلفة حيث انتهيا إلى نتائج لا تقبل المقارنة بينهما، إنَّ روح النظامين ليست واحدة)(3).
أما مؤلفات الفرق النصرانية فإن مما حفظه التاريخ (أنها وضعت في تاريخ لاحق لنضج الفقه الإسلامي واكتماله. . إذ وضعت بعد القرن العاشر الميلادي)(4).
ومن جهة أخرى فإنها هي التي تأثرت بالفقه الإسلامي وأفادت منه، يقول (يوسف شاخت):(بالنسبة للجانب المسيحي فليس هناك شك في أن الفرعين الكبيرين للكنيسة المسيحية الشرقية وهما؛ اليعاقبة والمونوفيزية. . والنسطوريون. . .، لم يترددوا في الاقتباس بحرية من قواعد التشريع الإسلامي)(5).
(1) المرجع السابق نفسه: ص: (68).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص: (69).
(3)
سر تكون الفقه وأصل مصادره: ص: (69)، (مرجع سابق).
(4)
محمد الدسوقي: الاستشراق والفقه الإسلامي: ص: (714)، (مرجع سابق).
(5)
الشريعة الإسلامية بحث مدرج في كتاب: تراث الإسلام 2/ 162، 213، تصنيف شاخت وبوزورث؛ ترجمة: حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، ومراجعة فؤاد زكريا، وقام بمراجعة بحث شاخت:(الشريعة الإسلامية)؛ محمد عبد الهادي أبو ريدة، الطبعة الثانية ت 1408 هـ - 1988 م، عن عالم المعرفة (سلسلة تصدر شهريًا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، الكويت.
وأما حركة الترجمة التي بدأت في نهاية القرن الهجري الأول، ونشطت في العصر العباسي، وتزامنت في بعض مراحلها مع تدوين الفقه الإسلامي (فإنها أهملت إهمالًا واضحًا كتب القانون فلم يترجم إلى العربية أي كتاب قانوني من لغة أجنبية. . وكانت أول ترجمة للكتب القانونية الأجنبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي على أيدي النصارى السوريان، ولم يكن لهذا تأثير على الفقه الإسلامي؛ لأنه كان قد بلغ نضجه -قبل ترجمة هذه الكتب بعدة قرون)(1).
وأما المسألة الثانية: وهي أثر الذين دخلوا الإسلام من النصارى وأهل الذمة على الشريعة وفقهها؛ فإن هذه المسألة لا تعدو أن تكون مجرد افتراض يدحضه الواقع التاريخي من وجوه عدة، من أبرزها:
1 -
من المتعذر على الذين دخلوا الإسلام من النصارى وغيرهم أن يؤثروا في التشريعات الإسلامية (لأن السلطة التشريعية في الإسلام هي في يد النبي صلى الله عليه وسلم أثناء حياته يستمد ذلك من الوحي الإلهي، وبعد وفاته انتقلت تلك السلطة إلى نفر من المسلمين يسمون المجتهدين، وهؤلاء يشترط فيهم شروط خاصَّة أفاض في تفصيلها وبيانها الأصوليون في كتبهم، وليس هذا مجال إيرادها، ولا يعرف أن أحدًا من مجتهدي القرن الأول والثاني كان متثقفًا)(2) بغير الثقافة الإسلامية أو ممن اهتدى إلى الإسلام وهو عارف بالقانون الكنسي أو غيره من القوانين الأخرى (3).
2 -
ومن المسلمات في دين الإسلام أن من يدخل فيه يخلع عنه كل أمر من أمور الجاهلية، ويستسلم لأمر اللَّه وحكمه، وفي مقدمة ذلك
(1) محمد الدسوقي: المرجع السابق نفسه: ص: 714، 715.
(2)
عبد اللَّه الركبان: دعوة تأثر الفقه الإسلامي ص 80، (مرجع سابق).
(3)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص 80.
الانصياع لشرع اللَّه في جميع شؤون الحياة إجابة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلو قول اللَّه تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. حينما دخل عليه عدي بن حاتم؛ قال عدي: (فقلت: إنهم لم يعبدوهم)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم"(1).
والشاهد من ذلك أن التشريع في الإسلام منبثق من عقيدة التوحيد الخالصة للَّه، ولا يمكن أن يسمح لمن دخل الإسلام من النصارى أو غيرهم من ذوي الثقافات الأخرى أن يشرعوا للمسلمين ولو فرض جدلًا أنهم بلغوا درجة الاجتهاد فإنهم عند ذلك ينطلقون من الكتاب والسنة وإجماع الأمة الإسلامية وما خلَّفه الصحابة والتابعون من ثروة فقهية انبعثت من صميم عقيدة الإسلام وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والشريعة الإسلامية وفقهها في كل ذلك متميزة تميزًا جليًا يشهد به الواقع التاريخي، والحقائق المسلم بها.
3 -
أما أهل الذمة فإن الإسلام وفر لهم حرية قضائية خاصة بهم؛ قال تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]، (وكذلك اليهود، وسائر أهل الذمة، ومنه ينتج أن لا تماس بين الحقوق الإسلامية والحقوق الأجنبية فلا يوجد بينهما فعل ورد فعل، ذلك لأن هذا الحكم الذي فرضه القرآن لم يبق قولًا بلا عمل، بل نراه قد طبق بحذافيره في عهد
(1) ابن كثير تفسير القرآن العظيم 2/ 348، (مرجع سابق). والحديث مروي من طرق منها ما رواه الترمذي: بالجامع الصحيح 5/ 260، الحديث رقم:[3095]، تحقيق كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق).