الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهليَّة
تنبثق منزلة تميُّز الأمة الإسلامية من استقامتها على صراط اللَّه المستقيم، الَّذي ألزم اللَّه به عباده، وأكد عليهم انتهاجه، وذَكَّرَهُم به حتى في دعائهم، بل في كل ركعة يصلونها للَّه جلَّ وعلا؛ لئلا يزيغوا عنه، ووصفه بالاستقامة فقال تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].
وهذا الصراط الذي وصفه تعالى بأنه مستقيم، وأنه صراط المنعم عليهم، هو المنهج الذي اختاره اللَّه لعباده، وأمرهم بالسير فيه، وأن تتم عبادتهم له، واستعانتهم به، وما يتبع ذلك من أمور العبادة والعقيدة في حدوده، فينطلقون إلى اللَّه من منطلقه، ويلزمون جادَّته، ويتجهون فيه إلى غايته، وأبان اللَّه هذا المنهج لخلقه منذ آدم عليه السلام وحتى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، كما بين -جلَّ وعلا- أن عباده انقسموا تجاه هذا الصراط إلى ثلاث أمم على مدى التاريخ؛ أمة عرفت الحق وتركته، (كاليهود ونحوهم)(1)، وأُمَّة زاغت عن الحق، وعبدت اللَّه بجهل وفي ضلال (كالنصارى ونحوهم)(2)، وأمَّةٌ ثالِثَةٌ أنعم اللَّه عليها بالاستقامة على صراطه المستقيم، وهي الأمة الإسلامية.
وتعني الاستقامة على الصراط المستقيم في حق أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم بخاصة (لزوم الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملًا)(3).
(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (1/ 37)، مرجع سابق.
(2)
المرجع السابق نفسه ص: (37).
(3)
المرجع السابق نفسه ص: (36).
ومن لوازم ذلك مخالفة الأمتين الأخريين وعدم التشبه بهما (في الجملة، سواء كان ذلك عامًّا، في جميع أنواع المخالفات أو خاصًّا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب)(1)، لعدة أسباب منها:
1 -
لأنَّهما على منهجين طرفين إمّا غلو وبدعة سببهما الجهل والضلال، وإما تحريف وانتحال وباطل سببه النكوص عن الحق ومعاداته، والأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ على منهج مستقل عن هذين المنهجين المنحرفين ذات اليمين وذات الشمال، متميِّز بما ميَّزَه اللَّه به من الحق والعلم والحكمة فوجب التمسك به ومخالفة ما عداه؛ لأنَّه الحق وليس بعد الحق إلا الضلال، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران: 73].
2 -
لأنَّ التشبه إذا كان فيما حذَّرَ منه الشارع يعني المتابعة في شيء من أمور العقيدة أو الشريعة أو الشعائر، ويعد ذلك هبوط من الأعلى للأدنى، وحيث إنَّ منهج الإسلام هو الحَقُّ فَإِنَّ التَّشَبه بما عليه الغير فيه متابعة للأَهواء أو الشُّبْهات أو الشهوات، وهذا مناف لمنزلة تميُّز الأمة الإسلامية، واتباعٍ لِسبيلِ غير المؤمنين، وفي ذلك وعيدٌ شديدٌ، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
3 -
ولما يفضي إليه التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية من محاذير قد تمس عقيدة الإيمان التي كان التميز من ثمارها المباركة، ومن تلك المحاذير: (المشاكلة بين المُقَلِّد والمُقَلَّد -بمعنى التناسب الشكلي والميول في القلب، والانصهار، والموافقة في الأقوال والأعمال، وهذا أمر مخل
(1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 82)، تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل، مرجع سابق.
بالإيمان) (1)، ومنها الإعجاب بالمناهج الأخرى في بعض عاداتها أو شعائرها أو نحو ذلك مما يورث ازدراء السنن، وازدراء الحق والهدي الَّذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (2)، كما أن في المشابهة محظورًا آخر وهو ما (تورثه من المحبة والموالاة بين المُتَشابهين، فَإِنَّ المُسلم إذا قلَّد الكافر لابد أن يجد في نفسه إلفة له، وهذه الإلفة لابد أن تورث المحبة، وتورث الرِّضى، والموالاةِ لِغير المُؤْمِنينَ، وَالنُّفْرَةِ من الصّالحينَ المتقين العاملين بالسنة، المستقيمين على الدين، وهذا أمر فطري ضروري، يدركه كل عاقل، خاصة إذا شعر المقلد بالغربة أو شعر؛ بما يسمى بالانهزامية النفسية)(3)، وعندئذ تهتز ذاتية المسلم ويشعر بالمذلة والصغار؛ لأنَّ المقلِّد يكون في موقف الأَدنى والمقلَّد له صفة العظمة والعزة، وهذا شعور يتنافى مع ما أراده الإسلام لأُمَّتِهِ وَأفرادها من التميز والرفعة والعزَّةِ، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
هذه أهم أسباب النهي عن التشبه بأهل الكتاب وغير المسلمين، ولذلك قرَّر علماء الشريعة الإسلامية أنَّ النَّهي عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الجاهلية (قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشعب، واصطلاحًا جامعًا من أصولها كثير الفروع)(4).
وشدَّد بعضهم في التحريم مثل (ابن كثير وابن تيمية والمناوي والصنعاني وغيرهم)(5).
(1) ناصر بن عبد الكريم العقل: من تشبه بقوم فهو منهم ص: (10)، مرجع سابق.
(2)
المرجع السابق نفسه ص: (10).
(3)
المرجع السابق نفسه ص: (10، 11).
(4)
ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 61، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل)، مرجع سابق.
(5)
انظر أحمد بن الصديق الغِماري: الاستخفار لغزو التشبه بالكفار ص: (79)، تحقيق: عبد اللَّه التليدي، الطبعة الثانية:(1409 هـ)، عن دار البشائر الإسلامية - بيروت.