الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظاهرة التميز بين التاريخ والدين:
إنَّ سنة التفضيل والاختيار والاصطفاء سنة ماضية في التاريخ البشري؛ قدرًا وشرعًا وواقعًا، فقد تفاضلت الأمم في تاريخها الطويل، وتمايزت على الرغم من التشابه بين بعضها وبعضها الآخر من وجوه عديدة، ويحفظ التاريخ لكلِّ أمَّة في القديم أو الحديث ذاتية خاصة تميَّزت بها عن سائر الأمم الأخرى.
وإذا كان تَميُّز الأمم يرتكز على المواهب والقدرات الذَّاتية في المقام الأول، فإنَّ هناك جوانب أخرى للتميُّز المكتسب، بعضها شرعي وبعضها الآخر وضعي من صنع البشر، قد يرتكز على حقائق، أو يكون من قبيل الادعاء والغرور (1).
ولا يتسع المجال هنا للإلمام بنماذج عدَّة توضح هذه الجوانب المتنوعة التي ظهرت في تلك الأمم عبر التاريخ؛ بي أنني أكتفي بذكر التميُّز الشرعي الذي حازته أشهر الأمم الكتابيَّة (اليهود والنصارى) بسبب استقامتها على شرع اللَّه كما هو الشأن في بني إسرائيل حين وصفهم اللَّه بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]، وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
= فؤاد عبد الباقي، عن المكتبة الإسلامية - تركيا، وانظر استكمال تخريجه: ص 58.
(1)
انظر: الشهرستاني: الملل والنحل: 1/ 18 - 20، تحقيق: أمير علي المهنا وآخر، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1992 م، عن دار المعرفة، بيروت، وانظر: أحمد عصام الصفدي: تصنيف المعرفة والعلوم في ضوء خصائص الأُمَّة الإسلامية ص 137 - 140، طبعة 1411 هـ - 1991 م، المطابع الأمنية بالمركز العربي للدراسات الأمنية - الرياض، وانظر: جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربيَّة: 1/ 19، 20، طبعة 1982 م، عن دار مكتبة الحياة، بيروت.
بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، ولكنهم أخفقوا في حمل الرسالة؛ "إذ انكبوا على حطام الدنيا، وأهملوا الآخرة، وزعموا لأنفسهم مبررات كاذبة لاستحلال الأمم، مالًا ودماءً وأعراضًا. . . وادعوا على اللَّه عز وجل دعوى خطيرة بأنه يغفر لهم كل خطيئة، ونحو ذلك مما افتراه أحبار السوء من خلفاء السامري، والذي تجسد في عقائد (التلمود) وأخلاقه، وأضاليله فيما بعد، تلك التي نسوا بها مواثيق (التوراة) الغليظة بألَّا يفتروا على اللَّه عز وجل. . . "(1). وقد أشار القرآن الكريم في مواضع كثيرة لهذا التميُّز، وانتفائه عنهم، وأنهم لا زالوا يدعونه سفاهة وغرورًا (2).
وأمَّا النصارى فإنَّ اللَّه اختارهم لحمل رسالته من بعد اليهود، وبعث فيهم رسوله عيسى عليه السلام، وأيَّده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلًا، وعلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وأجرى على يديه من المعجزات والآيات، وكفَّ عنه بني إسرائيل، وشدَّ أزره بالحواريين الذين آمنوا باللَّه وبرسوله، ثمَّ طلبوا مائدة من السماء تكون لهم عيدًا لأولهم وآخرهم، فاستجاب اللَّه لهم، وأنعم عليهم ورزقهم، ولكن سرعان ما دَبَّ إليهم داء الأمم من قبلهم فأشركوا باللَّه، وزعموا أن عيسى عليه السلام قال: اتخذوني وأمي إلهين من دون اللَّه، وقد سجلت الآيات (110 حتى 118) من سورة المائدة قصتهم مع التميُّز وما آل إليه.
وعلى نحو ممَّا فعل اليهود فعل النصارى من ادعاء التميُّز والاستعلاء على الآخرين بحجّة القرب من اللَّه، واصطفائه بهم من دون الخلق، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ
(1) عبد الستار فتح اللَّه سعيد: معركة الوجود بين القرآن والتلمود: ص 104، الطبعة الثانية 1402 هـ، عن مكتبة المنار، الأردن.
(2)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص 162 - 175.
أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]، وقال تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقال تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].
وقد استفاضت آيات القرآن الكريم في تأكيد انتفاء التميُّز عن اليهود والنصارى بسبب تنكبهم صراط ربهم، وإخفاقهم في حمل رسالته وفق شرعه ومراده؛ من مثل قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 12 - 14].
ثمَّ آل حمل الرسالة الإلهيَّة إلى الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أوتي أهل التوراةِ التوراةَ فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتيَ أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزو فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أيْ ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا، قال اللَّه: هل
ظلمتكم من أجركم من شيء؟! قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاءُ" (1).
وفي هذا الحديث ما يدل على تميُّز الأمَّة من نواحٍ عدَّة، منها:
أولًا: كونها حملت الرسالة بعد أن عجز عنها أهل الكتابين من قبلها.
ثانيًا: أنها وُفِّقَتْ في حمل الرسالة، وأداء الأمانة.
ثالثًا: كونها مُيِّزَتْ من ناحية مضاعفة الأجر بفضل من اللَّه.
رابعًا: ويدل على أنَّ الظرف التاريخي المتبقي من يوم الأمم المشار إليها هو للأمّة الإسلامية لفاعليتها الحضاريَّة الخيّرة، ولسيادتها في ظلِّ عبوديتها للَّه وأدائها لما اشترطه عليها، وهذا ما تأتى لها ردحًا من الزمن؛ فقد سادت بهذا التميُّز، وحققت به أفضل الحضارات التي شهدها تاريخ البشرية.
بيد أنَّ الحضارة الغربية سادت في العصر الراهن، وباتت الأُمَّة الإسلاميَّة تواجه تحديًا خطيرًا تحت وطأة هذا الواقع يمس هويَّتها الثقافية، ذلك أن الحضارة الغربية كما "أجمع مؤرخو الحضارة والثقافة الغربية على وحدة واطراد هذه الحضارة، وأنها وليدة تراكم تاريخي، وتفاعل ثلاثة عناصر متداخلة تشكل في مجموعها الأصل اليوناني الروماني المشترك لهذه الحضارة؛ هي الفكر اليوناني المتميز بنزعته العلمية وإبداعاته الفنية، والتراث الروماني المعروف بمؤسساته الإداريَّة والسياسيَّة، وأخيرًا الديانة المسيحية التي أعطتها الدفق الروحي"(2)، في حين تشكلت الهويَّة الثقافية
(1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1: 139، كتاب مواقيت الصلاة، الباب [17]، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي، عن المكتبة الإسلاميّة، إستانبول - تركيا، (بدون تاريخ)، وانظر تخريجه بشكل أوسع في الصفحة (60).
(2)
انظر: جرونبام (غوستاف فون): الإسلام الحديث البحث عن الهويَّة الثقافية: ص 249، (بالإنكليزية من منشورات جامعة كاليفورنيا 1962 م)، نقلًا عن: عرفان =
للأُمَّة الإسلاميَّة على نحوٍ آخر "ارتبط بوثاق قوي ومتين بالعقيدة والرسالة"(1).
إضافة لما تميَّز به العرب -وهم حملة هذه الرسالة في المقام الأول- "من جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط بالأمم"(2)، ومن العقيدة والرسالة انبثقت الحضارة الإسلاميَّة "ولزم عن هذا. . . أن تداخلت قضايا الواقع المادي بأصول الرسالة وتعاليمها. . . فالعقيدة والرسالة والحضارة والسلوك والتاريخ. . . وحدة جامعة مشتركة في بنيان هذه الأُمة في ترابط يعزّ فصله؛ ولهذا فقد تحوّل الواقع إلى ساحة اختبار، وميدان تجربة؛ لصدق الوفاء بالرسالة منهجًا وسلوكًا وتصرفًا"(3).
والمحك في ذلك مضمون الحضارة الغربية، والهويَّة الثقافية للأُمَّة الإسلاميَّة؛ أن سيادة الحضارة الغربية وهيمنتها لا تعطي هذه الهويَّة خصوصيتها، وفرضت نوعًا من الاستلاب الحضاري، ونوعًا من التنكر لمنجزات الطرف الآخر، ومرتكزاته الثقافية؛ يصل إلى مس الهويَّة الإسلاميَّة بخاصة (4).
= عبد الحميد فتَّاح: دراسات في الفكر العربي الإسلامي (أبحاث في علم الكلام والتصوف والاستشراق والحركات الهدَّامة): ص 17، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1991 م، عن دار الجيل - بيروت.
(1)
المرجع السابق: ص 20.
(2)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 89، الطبعة الأولى، 1978 م، عن الشركة التونسية للتوزيع، تونس، وانظر: محمد رشيد رضا: خلاصة السيرة المحمديَّة وحقيقة الدعوة الإسلامية وكليات الدين وحكمه: ص 5، 6، 9، 10، الطبعة الرابعة 1405 هـ - 1985 م، عن المكتب الإسلامي - بيروت.
(3)
عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي: ص 20، 21، (المرجع السابق نفسه).
(4)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص 22.
وهذا ما عبَّر عنه أحد المفكرين -في صدد نقده للفكر الغربي- بقوله: "فهم الغرب عملية التثاقف وباستمرار في صورة الاستلاب الحضاري Inacualturation والتنكر التام لمنجزات الطرف المقابل الحضارَّية والثقافيَّة، وأرادها أن تتحول دائمًا إلى وسيلة للسيطرة والهيمنة وإلغاء الهويَّة الذاتية المستقلة للأمم والشعوب والحضارات The Obliration Of Cultural Identity إلى حدود اقتربت في مضامينها ومنحنياتها السلبية إلى الاغتيال الحضاري للآخرين، وذلك صدورًا عن نظرية عرقية قديمة، جددتها وبشرت بها مدرسة (كرستيان لاش وأرنست رينان) في أواخر القرن الماضي مؤداها: تمايز العقل الأوروبي وسموه عن العقل السامي (العربي) الذي هو في زعم أنصار هذه المدرسة غبي التكوين، معادٍ للعلم والفلسفة"(1).
إنَّ هذه المزاعم التي يثيرها بعض المستشرقين بين الحين والآخر تمس تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وتحاول التقليل من مكانتها؛ ممَّا يوجب على الأمَّة
(1) المرجع السابق نفسه: ص 22، وانظر: جوستان لوبون: حضارة العرب: ص 21، 22، ترجمة عادل زعيتر، طبعة الحلبي، 1969 م، وعن التفريق بين مصطلح التثاقف الذي يعني الحوار الحضاري البناء، وبين الاستلاب الثقافي الذي يعني نسخ الهوية
…
انظر: جرونبام: المرجع السابق: ص 249 وما بعدها، نقلًا عن: عرفان عبد الحميد: المرجع السابق: ص 22 "الحاشية"، وانظر: استيفان فيلد: الثقافة العربية في غاية الأهمية بالنسبة للثقافة الأوروبية؛ حيث أشار إلى "المذهب الذي يقول: إن أوروبا هي مركز الكون كله وأن الثقافات والحضارات والآداب العالمية ليس لها قيمة تذكر إلا إذا اتفقت اتفاقًا تامًا مع الثقافات والحضارات والآداب الأوروبية وهو ما يسمى " eurozeutrismus" أشار إلى ذلك -في سياق نقده لهذا المذهب- في مقابلة أجراها معه: محمد أَبو الفضل بدران؛ في بون، ونشرت في مجلة الحرس الوطني: ص 124، عدد رجب 1409 هـ - فبراير 1989 م، تصدر من رئاسة الحرس الوطني السعودي - الرياض.
الإسلاميَّة الوعي بتميُّزها في ضوء ما خصَّها اللَّه به دون سائر الأمم بالملَّة الحنيفية السمحة، وأن تحافظ على هويتها المنبثقة من ذلك المنهج الرباني الذي حدَّد مسارها في الفكر والتاريخ، وألَّا تنخدع -وتحت أي مسمى- للنزول من قلعة هذا التميُّز، فيجري عليها ما جرى على أهل الكتاب من قبل، قال تعالى:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ولَمَّا نفى اللَّه التميُّز عن اليهود والنصارى أثبته لمن قام بشرطه؛ قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
ومن هنا تأتي أهمية البحث في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة وموقف المستشرقين منه، لتأصيله أولًا في ضوء الكتاب والسنة، وفهم سلف الأُمَّة وما درج عليه المسلمون في قديم تاريخهم وحديثه، ولنقد موقف المستشرقين منه؛ حيث إنَّهم من طلائع الحضارة الغربية وفكرها، وهو فكر يختلف في موقفه من الفكر الإنساني عامَّة عن فكر الأُمَّة الإسلاميَّة الذي اتسم "بموقفه الإنساني السمح من مجمل الفكر الإنساني، على تباين صوره وأشكاله، سماحة لم يتسع لها صدر غيره من دوائر الفكر والحضارة في تاريخ البشر"(1).
وهذا ما يقر به المنصفون من المستشرقين وغيرهم من مفكري الغرب
(1) عرفان عبد الحميد، دراسات في الفكر العربي الإسلامي، ص 23، (المرجع السابق نفسه).
ومؤرخيه، على حين أنَّ موقف الفكر الغربي والفكر الاستشراقي -في جملته- جزءٌ منه ينطلق من نظرية "عبء الرجل الأبيض، في حمل رسالة العلم والمعرفة إلى الآخرين، وأنَّ الغرب هو مركز الاستقطاب الفكري للإنسانية. . . فهو من صنع ما اصطلحوا عليه (بالمعجزة اليونانية الخالدة)، (وهو الذي قدَّم من وجهة نظرهم) تفسيرًا متناسقًا رائع التوازن للإنسان والكون والحياة"(1).
إضافة للأهميَّة المشار إليها آنفًا فإنَّ اللَّه عز وجل قد ميَّز الأُمَّة الإسلاميَّة دون سائر الأمم بخصائص ومميزات كثيرة، منها:
1 -
بما أورثها من هذا الدين العظيم، وجعل فيها النبي الكريم ومن معه من الصحابة الأبرار، ورفعها لمنزلة الشهادة على الناس، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
إنَّ هذا الاصطفاء الإلهي الكريم قد تمثل في صفوة طبَّقت كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت نبراسًا للأجيال وأنموذجًا لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
وقد نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إبَّان تكوين الدولة الإسلاميَّة على تميُّز الأُمَّة
(1) عرفان عبد الحميد: المرجع السابق نفسه: ص 22.
الإسلاميَّة حينما كتب في المعاهدة مع اليهود بأنَّ المسلمين (أُمَّة واحدة من دون الناس)(1)، وبأن اليهود (أُمَّة مع المسلمين)(2).
2 -
إنَّ هذا التميُّز مستمر في أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم حتى قيام الساعة لما خصت به من الرسالة الخاتمة، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، (فكانت رسالته تجديدًا لدعوة التوحيد التي بعث بها سائر الأنبياء والمرسلين، وتعديلًا للشرائع السابقة، وإكمالًا لها، بعد أن ارتقت البشرية، وتفتحت عقولها، وتهيأت نفوسها لاستقبال الرسالة الخاتمة بكل جوانبها الروحية والاجتماعية، وقد أوضح المصطفى صلى الله عليه وسلم أنَّ رسالته إكمال لرسالات الأنبياء السابقين. . .)(3)، فقد ثبت أنه قال:"مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنةً، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة. . . فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء"(4)، والحديث يبين اكتمال الرسالة الخاتمة ووفاءها بحاجات البشرية، مهما
(1) و (2) أبو محمد عبد الملك بن هشام: السيرة النبوية 2/ 143، 144، علق عليها وخرَّج أحاديثها وصنع فهارسها عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م عن دار الكتاب العربي - بيروت.
وانظر: محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة. ص 1، 2، 3، 4، 5، وقد ذكر طائفة من مصادر الوثيقة في غرة ذكرها، عن مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (بدون تاريخ).
(3)
أكرم ضياء العُمري: الرسالة والرسول: ص 37، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1990 م، (لم يذكر الناشر).
(4)
أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1791 كتاب الفضائل، الحديث رقم (2287)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، عن المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول - تركيا (بدون تاريخ).
درجت في مراقي التقدم الحضاري ثقافة وصناعة) (1).
وهذا التميُّز لا يزال متمثلًا في الأمَّة الإسلاميَّة، وينبغي أن يستمر، قال اللَّه تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزال من أُمَّتي أُمَّة قائمة بأمر اللَّه ما يضرهم من كذَّبهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك"(2).
3 -
إنَّ تميز الأُمَّة. . . إنَّما يظهر بشكل جلي كلما التزم المسلمون بالإسلام، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه:"إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب اللَّه وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض"(3).
كان هذا التميُّز -وما يزال- مستهدفًا من أعداء الأمة منذ بداية تكوينها بهديه صلى الله عليه وسلم، ففي السنة الثانية من الهجرة، وعندما تحولت القبلة إلى الكعبة المشرفة أكثر أعداء الدين -يتزعمهم اليهود- من التنديد بالإسلام إثر هذا
(1) أكرم ضياء العُمَري: الرسالة والرسول: ص 37، 38، (المرجع السابق).
(2)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 8/ 189، كتاب التوحيد، باب (29)، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وورد في مواضع كثيرة لدى البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، بألفاظ متقاربة.
(3)
أخرجه الحاكم عن أبي هريرة ووافقه الذهبي: المستدرك عن الصحيحين: 1/ 172، كتاب العلم، الحديث رقم (319/ 32)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1995 م عن دار الكتب العلمية، بيروت.
وانظر: مالك بن أنس: الموطأ، تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي 2/ 686، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1993 م عن دار الحديث - القاهرة، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 180 عن دار الكتب العلمية - بيروت.
التحوُّل لما يدل عليه من تميز المسلمين، ليس على صعيد العقيدة فحسب، بل وفيما يختص بالعبادة والشعائر، كما يعبر عن ذلك أحد المفكرين المسلمين: (ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو، ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه. . . فهذا التميُّز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد. . . ومن هنا كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء.
ولم يكن هذا تعصبًا، ولا تمسكًا بمجرد الشكليات، وإنَّما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات؛ كان نظره إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة، وهذه البواعث تفرق قومًا عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورًا عن تصور، وضميرًا عن ضمير، وخلقًا عن خلق، واتجاهًا في الحياة عن اتجاه) (1).
وليس هذا فحسب، بل أنّ تميز الأمة الإسلاميَّة ظل مستهدفًا من أعدائها منذ تكوينها وإلى يومنا هذا، ومن أبرز ما استهدفه أهل الكتاب ما يدل عليه قوله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، وقوله تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
إنَّ هذا الموقف من أهل الكتاب وغيرهم قد تمثَّل في هذا العصر في كثير من المستشرقين الذين ظهرت على أيديهم حركة تتراءى -في ظاهرها-
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 128، الطبعة السابعة، عن دار الشروق، 1398 هـ - 1978 م بيروت.
أنّها حركة علمية تهدف -فيما تهدف إليه- إلى الانطلاق من معرفة الإسلام عن كثب لغاية أُخرى، وهي دس سمومها الفكرية، وإثارة الشكوك والشبهات في عقيدته وشريعته وتاريخه وفي تراثه بعامة؛ لتصرف أهله عنه، وليولوا وجوههم شطر الغرب ونحو علومه وثقافته، بعد أنْ ضعفت الشخصية المسلمة، وفقد المسلمون بسبب ذلك ما في ذاتيتهم المتميزة من قوة ومنعة؛ وبهذا تكون هذه الحركة الماكرة ماضية بشتى الوسائل لتحقيق غايتها في فرض التبعية على المسلمين.
إن أهمية تميز الأمة الإسلاميَّة يُمكن أن تدرس من ناحيتين مهمتين، هما:
الأولى: تأصيل التميُّز والتدليل عليه من الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة الصالح.
الثانية: نقد موقف المستشرقين من هذا التميُّز.
ولا شك أنّ إبراز تميز الأمة الإسلاميَّة بمقوماته وخصائصه وأهدافه ووسائل تحقيقه؛ ما يجدر بحثه والعناية به، ولا سيما في هذا العصر الذي اشتدت فيه وطأة الصراع على الأمة الإسلاميَّة، وبخاصة ما يرى من محاولة الهيمنة العقدية والفكرية عليها، بهدف ترسيخ قيم الغرب، وأخلاقه ومناهجه في الحياة، وكل ما يذهب بتميزها ويوهن شخصيتها الفريدة.
ويشهد لهذا الهدف الخطير مقولات كثيرة تعج بها كتابات دهاقين السياسة والفكر في الغرب، منها مقولة (هانوتو) (1): (لا يهمكم هذه الكتلة الشيوعية التي ظهرت؛ فإنها "ستخفق" وتكون أضحوكة بينكم لمخالفة بنائها الفطرة الإنسانية، ولكن لا يهمكم إلَّا أمة واحدة شعارها واحد في
(1) هانوتو (1853 - 1944) كان عضوًا في المجمع اللغوي الفرنسي، ووزيرًا ومؤرخًا. انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/ 270، الطبعة الرابعة عن دار المعارف، القاهرة، 1980 م.
مشارق الأرض ومغاربها (لا إله إلَّا اللَّه واللَّه أكبر)، وقبلتها واحدة، تتجه إليها من كل مكان؛ ثم تلتقي حول قبلتها (الكعبة) كل عام. هذه الأمة اعملوا على تحطيم عقيدتها من الأساس، وإفساد أخلاق أبنائها، وتحوير أفكارهم حتى تذيبوها في كل مكان، وإلَّا فلا تأمنوا انطلاقتها مهما عملتم من الاحتياطات العسكرية ما لم تهدموا أصل عقيدتهم) (1).
ويقول (برنارد لويس): (لقد كانت عادتنا التي تعودناها في العالم الغربي هي: كلما اتجه الشرقيون إلينا ازداد تمسكنا بالغرب؛ لنجعل أنفسنا مثالًا للفضيلة والتقدم، فإذا تشبهوا بنا عددنا ذلك أمرًا حسنًا، وإذا لم يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءًا وشرًا. فالتقدم هو في التشبه بنا، أمَّا إذا لم يقتدوا بنا فذلك هو التقهقر والاضمحلال)(2).
(1) نقلًا عن: عبد الرحمن الدوسري: صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم 2/ 388، 389، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م، عن مكتبة دار الأرقم، الكويت. وانظر: باول شمتز: الإسلام قوة الغد العالمية، ترجمة: محمد شامة، الطبعة الثانية عن مكتبة وهبة، القاهرة (بدون تاريخ)، ويشتمل على مقدمة لمحمد البهي أكد فيها تلخيصات مهمة لغرض الكاتب من هذا الكتاب وأنه نذير للغرب من الأمة الإسلاميّة ودعوة لها أن تعمل في حزم واتحاد لرد خطر الأمة الإسلاميّة عنها ووقف نموها، وذلك عن طريق (توهين علاقة المسلمين بإسلامهم وتوجيه حملات تشويهية ضد الإسلام)؛ ص 14، وكان ممَّا ذكره المؤلف عن تميز الأمة الإسلاميّة قوله:(لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا فويًا، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام، لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب، بل ستكون أيضًا خطرًا على أعدائه. . .)؛ ص 13، (المرجع السابق نفسه)، وعلى نحو من ذلك قال (لورنس بروان) في كتاب له صدر في 1944 م: انظر: عمر فروح: التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ص 184، الطبعة الثالثة، 1986 م، من منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
(2)
الغرب والشرق الأوسط: ص 18، 19، 20، تعريب: نبيل صبحي، الطبعة الأولى 1398 هـ - 1978 م، عن المختار الإسلامي. . .، القاهرة، إلَّا أنه تناول -في سياق =
ومن ناحية أخرى فإن هذا العصر يشهد -في ظل تقارب المسافات، وتطور الأساليب الحضارية- اختلاط الأمم وتفاعلها الفكري والثقافي؛ بيد أن طغيان الحضارة الغربية وثقافتها على العالم المعاصر يقلل التميُّز بين الأمم والشعوب (1) بما يتعارض مع طبيعة الأمة الإسلاميَّة التي يفترض فيها أنْ تكون صاحبة رسالة قائمة بالحق والخير والمعروف، وشاهدة على الأمم.
وعن هذا المعنى عبَّرَ (محمد أسد)(2) بقوله: إنَّ الإسلام بخلاف سائر الأديان. . . لا يُمكن تقريبه من الأوضاع الثقافية المختلفة، بل هو فلك ثقافي مستقل، ونظام اجتماعي واضح الحدود، فإذا امتدت مدنيَّة أجنبية
= حديثه عن الفوقيَّة الغربية- آثار هذه النزعة في ضياع ما أسماه (هويتهم الواحدة)، وانظر: العرب في التاريح: ص 235 - 254، تحت عنوان: تأثير الغرب، بيد أنه ألمح لتميُّز الأمَّة الإسلاميَّة وقوة مقاومة الإسلام، ومع ذلك يرى بأنَّ الغرب قادر على إذابة ذلك التميُّز؛ إذ يقول:(إذ لم يعد الإسلام عقيدة حديثة لينة. . بل هو الآن ديانة عريقة ذات نظم ثابتة. ولكن إذا كان المعدن صلبًا فالمطرقة أشد صلابة) المرجع نفسه، ترجمة نبيه أمين فارس وآخر، عن دار العلم للملايين، 1954 م، بيروت.
(1)
انظر: ناصر بن عبد الكريم العقل: دراسة تحليلية قدّم بها كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 40، الطبعة الأولى، 1404 هـ، (لم يذكر الناشر).
(2)
محمد أسد: (1900 - 1992) كان يهوديًّا نمساويًّا، ثم أسلم وكان اسمه قبل إسلامه (ليو بولد فايس)، وله مؤلفات في الفكر الإسلامي منها الطريق إلى الإسلام، ومنهاج الحكم في الإسلام، والإسلام على مفترق الطريق. انظر ترجمته لدى العقيقي: المستشرقون 2/ 291، وانظر مجلة الفيصل عدد (184) شوال 1412 هـ، ص 126 - 127، وفيها خبر وفاته وترجمة له ولمحة عن حياته وأعمالة، ونشرت في عددها (185) في باب (الطريق إلى اللَّه) قصة إسلامه، تصدر عن دار الفيصل الثقافية، الرياض.
بشعاعها إلينا، وأحدثت تغييرًا في جهازنا الثقافي -كما هي الحال اليوم- وجب علينا أن نتبين لأنفسنا إذا كان هذا الأثر الأجنبي يجري في اتجاه إمكاناتنا الثقافية أو يعارضها، وما إذا كان يفعل في جسم الثقافة الإسلاميَّة فعل المصل المجدد للقوى أو فعل السم) (1).
إنّ الحضارة الغربية وثقافتها تختلف في معظم مبادئها عن ثقافة الأمة الإسلاميَّة، وقد يصل هذا الاختلاف إلى حد التناقض في المنطلقات والغايات والاتجاهات الفكرية، والمذاهب العقدية؛ ومع ذلك يرادُ لها أن تظهر بمظهر التفوق والعظمة في مُثلها وقيمها على قيم الإسلام ومُثله، وإظهار أيّ تمسك بالإسلام بمظهر التخلف والانحطاط، وإلى جانب ذلك إحياء الحضارات المطمورة في تاريخ ما قبل الإسلام، لمزاحمة الإسلام وإذابة تميز الأمة الإسلاميَّة واعتزازها بأمجادها التاريخية (2).
وممَّا يُؤسف له أنَّه وجد في واقع الأمة الإسلاميَّة تهاون وقابليّة لتلك الأفكار الغازية التي تستهدف عقيدتها وهويتها، وظهر فيها من يرفع عقيرته بأفكار استشراقية، ويمارس أنماطًا للحياة غريبة عن ذاتية الأمة الإسلاميَّة، ولا تنسجم مع تعاليم دينها وهدي رسولها صلى الله عليه وسلم، كما وجدت تلك الانحرافات والسموم طريقها لتصبح ظاهرة بارزة في واقع المسلمين اليوم يخشى مع نموها واتساعها أن تهدد تميز الأمة الإسلاميَّة؛ بحيث تذوب شخصية الأمة الخاصة بها في ثقافات شتى والثقافة الغربية خاصة؛ انخداعًا بمعطياتها الحضارية التي لم تُنَزَّل منزلتها الحقيقية في نظر المسلمين، وكان
(1) محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق: ص 18، ترجمة عمر فروخ عن دار العلم للملايين بيروت، 1981.
(2)
انظر: عبد الكريم عثمان: معالم الثقافة الإسلاميَّة: ص 97، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م، عن مؤسسة الأنوار للنشر والتوزيع، الرياض. وانظر: عرفان عبد الحميد: دراسات في الفكر العربي الإسلامي ص 81، (مرجع سابق).