الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أدلة تحريم التشبه بالكفار
لقد دل الكتاب والسنة على مخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم وأن ذلك من مقاصد الشريعة.
ـ أولاً: من الكتاب:
1 ـ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1.
فالله سبحانه وتعالى يأمر في هذه الآية أن نطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الإسلام الصحيح الخالي من الزيادة والنقصان النقي من كل بدعة وخرافة.
هذا الصراط الذي هو أقرب الطرق إلى ما يحب الله ويرضى وطبق ما أمر، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصراط الذي قال عنه:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ومعنى قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} أي غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إراداتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، وغير صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم هائمين في الضلالة لا
1 سورة الفاتحة، آية (5-7) .
يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بـ "لا" ليدل أن ثم مسلكين فاسدين وهما طريق اليهود المغضوب عليهم وطريق النصارى الضالين 1.
أخبرنا سبحانه وتعالى: أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض، ثم جعل محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
وأهواؤهم: هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم يهوونه وموافقتهم فيه
1 انظر: تفسير ابن كثير (1/27-30) ، وتفسير البغوي (1/4142) ، وفتح القدير للشوكاني (1/23-24) .
2 سورة الجاثية، الآيات (16-19) .
اتباع لما يهوونه؛ ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك.
ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيرها، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه وأي الأمرين كان، حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأولى أظهر1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية: فانظر كيف قال في الخبر "ملتهم" وقال في النهي "أهواءهم" لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه3.
1 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/84-85)، وانظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي (7/143-144) .
2 سورة البقرة، آية (120) .
3 اقتضاء الصراط المستقيم (1/86) .
وقال ابن كثير: وفيه تهديد ووعيد شديد للأمة على اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فإن الخطاب للرسول والأمر لأمته1.
4 ـ قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.
وهم اليهود والنصارى3 الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس والاختلاف مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كما جاء في الحديث "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"4.
فالنهي عن المماثلة قد يعم بطريق اللفظ والمعنى، كقولك:"لا تكن مثل فلان"وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم، وترك مشابهتهم أمر مشروع ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة5.
1 تفسير ابن كثير (1/164)، وانظر: فتح القدير للشوكاني (1/135) .
2 سورة آل عمران، آية (105) .
3 تفسير البغوي (1/339) .
4 سنن أبي داود، كتاب السنة، باب شرح السنة (4/197-198) ، حديث (4596) . وسنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق الأمة (5/25-26) ، حديث (2641)، وقال: حديث حسن صحيح. وسنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم (2/1321) ، حديث (3991) ، ومسند الإمام أحمد (2/332) . والمستدرك للحاكم، كتاب العلم (1/128)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
5 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/88) .
5 ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1.
فالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم الكفار، كما في قوله تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.
ويدخل في هذه الآية: كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، وقد برأ الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم مما هم فيه. فقوله:{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: ومن تابع غيره في بعض أموره، فهو منه في ذلك الأمر؛ لأن قول القائل: أنا من هذا، وهذا مني. أي أنا من نوعه وهو من نوعي؛ لأن الشخصين لا يتحدان بالنوع، كما في قوله تعالى:{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 4. وقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت مني وأنا منك" 5.
فقول القائل: لست من هذا في شيء، أي لست مشاركاً له في شيء، بل أنا متبرئ من جميع أموره.
1 سورة الأنعام، آية (159) .
2 سورة آل عمران، آية (105) .
3 انظر: تفسير البغوي (2/145) ، وتفسير ابن كثير (2/196) ، وفتح القدير للشوكاني (2/183) .
4 سورة آل عمران، آية (195) .
5 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الصلح باب، كيف يكتب الصلح (5/303-304) ، حديث (3699) .
وإذا كان الله قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع أمورهم، فمن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة كان متبرئاً كتبرئه، ومن كان موافقاً لهم كان مخالفاً للرسول بقدر موافقته لهم، فإن الشخصين المختلفين من كل وجه في دينهما، كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر 1.
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فقوله: {وَلا تَكُونُوا} نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة القلوب، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي 4.
7 ـ قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 5.
1 اقتضاء الصراط المستقيم (1/152-153) .
2 سورة الحديد، آية (16) .
3 تفسير ابن كثير (4/310) .
4 اقتضاء الصراط المستقيم (1/255) .
5 سورة الأعراف، آية (142) .
أي لا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم، ولكن اسلك سبيل المطيعين1.
ففي هذه الآيات المتقدمة دلالة على النهي عن التشبه بالكفار في أي حال وأي موضع، وان كل ذلك يدل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر واجب.
ثانياً: من السنة:
1 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"2. وهذا الحديث يعتبر أصلاً من أصول هذه المسألة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: إسناده جيد.
وأقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان في ظاهره يقتضي كفر المتشبه به، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم} 34.
وقال ابن رجب5: هذا يدل على أمرين:
1 تفسير القرطبي (9/48) . وانظر: تفسير البغوي (3/195) .
2 سنن أبي داود كتاب اللباس باب من ليس الشهرة (4/44) ، رقم (4031) ، ومسند الإمام أحمد (2/50،92) ، ومشكل الآثار للطحاوي (1/88) ، ورواه الطبراني في الأوسط، كما في مجمع الزوائد للهيثمي، باب من تشبه بقوم فهو منهم (1/27) ، وقال ابن حجر في الفتح (6/98) ، سنده حسن، وصححه الألباني كما في إرواء الغليل (5/109) .
3 سورة المائدة، آية (51) .
4 اقتضاء الصراط المستقيم (1/236-237) .
5 هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي، ثم الدمشقي الحنبلي أبو الفرج، حافظ للحديث، من العلماء، ولد في بعداد سنة 736هـ وتوفي في دمشق 795هـ، انظر ترجمته: شذرات الذهب (6/1339) ، والدرر الكامنة (2/321) ، والبدر الطالع (1/328) .
أحدهما: التشبه بأهل الشر. مثل: أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وبخ الله من تشبه بهم في شيء من قبائحهم. فقال تعالى:{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} 1.
والثاني: التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة، فهذا حسن مندوب إليه، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه.
وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أحب، ولابد من مشاركته في أصل عمله وإن قصر في المحبة عن درجته 2.
2 ـ وعن ابن عمر أيضاً قال: قال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين احفوا الشوارب ووافوا اللحى"3.
3 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم"4.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أمر بمخالفتهم، وذاك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع؛ لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر المخالفة في تغيير الشعر فقط هو لأجل ما فيه من
1 سورة التوبة، آية (69) .
2 الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب (53،60) .
3 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار (10/149) ، حديث (5892) . وصحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة (1/222) ، حديث (259) .
4 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/496) ، حديث (3462) . وصحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ (3/1663) ، حديث (2103) .
المخالفة، فالمخالفة أما علة مفردة، أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأموراً بها مطلوبة من الشارع1.
4 ـ وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود"2. هذا اللفظ دل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم، فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب، الذي ليس من فعلنا؛ فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى3.
5 ـ نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعلل بأنه "حينئذٍ يسجد لها الكفار"4.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق"5.
فهذه النصوص وغيرها تهدف إلى سد الذرائع؛ لأن المشابهة في الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل6.
1 اقتضاء الصراط المستقيم (1/160-161) .
2 سنن الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في الخضاب (4/232) ، حديث (1752)، وقال: حديث حسن صحيح، وسنن النسائي، كتاب الزينة، باب الإذن بالخضاب (8/137) ، حديث (5073) . ومسند الإمام أحمد (1/165)، وقد أشار إلى صحته السيوطي. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير (4/408) ، وكذلك الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/512) .
3 اقتضاء الصراط المستقيم (1/176) .
4 انظر: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمر بن عبسه (1/569-571) ، حديث (832) .
5 اقتضاء الصراط المستقيم (1/190-191) .
6 أعلام الموقعين لابن القيم (3/140) .
ومما تقدم يتضح: أن الشريعة قطعت المشابهة في الجهات والأوقات والهيئات وغيرها من الأمور التي يكون فعلها مشابهة للكفار، والأحاديث في ذلك كثيرة ومستفيضة، فالنهى عن المشابهة لا ينحصر في باب واحد من أبواب الشريعة، بل نصوص السنة شاملة لجميع الأبواب من عبادات وآداب واجتماعات وعادات وغير ذلك، وما وأوردته فهو أمثلة للنهي عن المشابهة فقط وليس المراد الحصر.