الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: تعريف البدعة في الاصطلاح
لقد عرف عدد من العلماء البدّعة في الاصطلاح بتعريفات كثيرة تدل على معنى واحد وهو الإحداث في الدين بما يخالف الكتاب والسنة، وهذه التعريفات لا تخرج عن هذا المعنى، وإن اختلفت ألفاظها وتفاوتت في استيفاء جزئيات تعريفها.
1 ـ ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب ما أمر به أمر إيجاب، أو استحباب وعُلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك وسواءً كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلمأو لم يكن"1.
وقال أيضاً: " والبدعة ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات "2.
2 ـ ويقول الشاطبي رحمه الله 3: " هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله "4.
1 مجموع الفتاوى (4/107ـ108) .
2 المصدر السابق (18ـ346) .
3 أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي أصولي حافظ وفقيه، محدث توفي (790هـ) . انظر: معجم المؤلفين (1/118) .
4 الاعتصام (1/371) .
3 ـ ويقول ابن رجب رحمه الله: " والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة "1.
4 ـ ويقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله: " البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع مقابل السنة فتكون مذمومة "2.
وقد نص على ذلك الطرطوشي 3 وابن حجر الهيثمي 4 والسيوطي 5. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، حيث تضافرت على ذم البدع والمحدثات في الدين بصفة عامة شاملة لكل محدث ومبتدع.
ـ فمن الكتاب:
1 ـ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 6.
1 جامع العلوم والحكم (265) .
2 فتح الباري (5/253) .
3 أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان الفهري الطرطوشي، فقيه حافظ محدث، ولد سنة (451هـ) ، وكانت وفاته (520هـ)، انظر: الديباج المذهب (276ـ278) ، ووفيات الأعيان (4/262ـ265) .
4 هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي، فقيه شافعي، ولد بمصر سنة (909هـ)، وكانت وفاته بمكة (974هـ) . انظر: شذرات الذهب (8/370) ، والبدر الطالع (1/109) .
5 انظر الحوادث والبدع للطرطوشي (34ـ35) ، والفتاوى الحديثية لابن حجر (150ـ151) ، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي (88) .
6 سورة المائدة، آية (3) .
أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن الشريعة قد كملت قبل انتقاله صلى الله عليه وسلم فهي كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان 1؛ لأن الزيادة عليها تعتبر استدراكاً وتوحي بأنها ناقصة.
2 ـ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2.
فالمراد بالصراط المستقيم: سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة والسبل الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، مثل: اليهودية والنصرانية، وسائر الملل والأهواء والبدع 3.
وعن مجاهد قال: " ولا تتبع السبل قال البدع والشبهات "4. فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة وأن للباطل طرقاً متعددة لا واحدة، وتعددها لم يخص بعدد مخصوص 5.
3 ـ وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 6.
1 انظر: الاعتصام للشاطبي (1/48) .
2 سورة الأنعام، آية (153) .
3 تفسير البغوي (2/142)، وانظر: فتح القدير للشوكاني (2/183) .
4 سنن الدارمي، باب في كراهية أخذ الرأي (1/68) .
5 الاعتصام للشاطبي (1/223)، وانظر: تفسير ابن كثير (2/191) ،
6 سورة القصص، آية (50) .
4 ـ قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1.
5 ـ قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
وغير ذلك من الآيات الواردة في ذم البدع وأهلها.
ـ ومن السنة:
1 ـ ما رواه العرباض بن سارية، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل يا رسول الله كأنّ هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا فقال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"3.
1 سورة النور، آية (63) .
2 سورة آل عمران، آية (31) .
3 سنن أبي داود كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4/200ـ201) ، حديث (4607) واللفظ له، وسنن ابن ماجه المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/15ـ16) ، وحديث (42) ، وسنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/44ـ45) ، حديث (2676) ، وقال حديث حسن صحيح، ومسند الإمام أحمد (4/126ـ127) ، والمستدرك للحاكم، كتاب العلم (1/95ـ96) ، وقال إسناده صحيح ووافقه الذهبي.
2 ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد:"فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.."1.
وفي رواية "وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار"2.
3 ـ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي رواية "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "3.
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في ذم الابتداع والآمر بالاتباع وموافقة السنة.
ـ ومن الآثار:
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع"4.
1 صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592) ، حديث (867) .
2 سنن النسائي، كتاب صلاة العيدين، كيف الخطبة (3/189) ، وسنن ابن ماجه المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل (1/18) ، حديث (46) .
3 صحيح البخاري، كتاب الصلح (2/112) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (4/268) . صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/1343ـ1344) ، حديث (1718) .
4 البدع والنهي عنها لابن وضاح (25) ، وسنن الدارمي، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع (53) .
2 ـ وقال أيضاً: "ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدعة وتموت السنة"1.
3 ـ وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"2.
فمما تقدم من الآيات والأحاديث والآثار الواردة في النهي عن البدعة والمحدثات وذمها يتضح لمن أراد الحق أن البدعة في الشرع لا تطلق إلى على ما خالف السنة، وأن البدعة لا تكون إلا مذمومة سواء كانت في العادات، أو العبادات فلا بدعة حسنة إذاً، وهو الراجح؛ وذلك أن هذه الأدلة جاءت في ذم البدع والمحدثات عامة ولم تختص بمحدثة دون أخرى. كما قرر ذلك الشاطبي رحمه الله عند تعريفه للبدعة في الشرع، حيث قال: البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ". وهذا على رأى من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها للعبادات.
أما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: " البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية "3.
1 مجمع الزوائد للهيثمي، باب الاقتداء بالسلف (1/188)، وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. وانظر: البدع والنهي عنها لابن وضاح (38ـ39) .
2 مجمع الزوائد للهيثمي، باب في البدع والأهواء (1/181)، وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون. انظر: البدع والنهي عنها لابن وضاح (10) ، والدارمي، باب في كراهية أخذ الرأي (69) .
3 الاعتصام للشاطبي (1/37) .
وهناك من ذهب إلى القول بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، أو ممدوحة ومذمومة 1.
وهذا القول باطل؛ لأن البدع كلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها مذمومة ليس فيها ممدوح، وكلها ضلال ليس فيها هدى، وقد تقدم تقرير ذلك بنصوص من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
" وإنما قال بهذا التقسيم من لم يفهم مقاصد النصوص على حقيقتها وكلام السلف على وجهته، فاستدلوا ببعض الأحاديث وببعض الآثار وحملوها على غير المراد منها وزعموا أنها تدل على تحسين بعض البدع 2.
ـ ومن جملة ما استدلوا به:
1 ـ ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح جماعة في رمضان حيث قال: نعم البدعة هذه 3.
2 ـ عموم الأحاديث الواردة في أجر من سن سنة والتي فهموا منها أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة، مثل:
أـ ما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شي،
1 انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (9/113) ، والباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة (22ـ23) ، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/172) .
2 انظر: موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء (1/112) .
3 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (4/250) ، حديث (2010) ، ومالك في الموطأ، كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان (1/114) ، بلفظ "نعمت البدعة هذه".
ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارها شيء" 1. ب ـ وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم.. الحديث" 2.
3 ـ القول بأنه ليس كل بدعة ضلالة 3.
وما احتج به من قال بتحسين البدع من هذه النصوص فليس له فيها حجة لما يلي:
أولاً: احتجاجهم بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح " نعمت البدعة هذه ". وجعلوها مخصصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" فهو احتجاج مردود ولا تقوم به الحجة لأمور:
1ـ أن صلاة التراويح ليست بدعة في الشريعة، بل سنة بقوله صلى الله عليه وسلم وفعله ولقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة وذلك لما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم"4.
1 صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة (2/705) ، حديث (1017) .
2 سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (5/45) ، حديث (2677) ، وقال هذا حديث حسن.
3 ذكره شيخ الإسلام في الاقتضاء (2/583) .
4 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الصلاة التراويح، باب فضل قيام رمضان، (4/250ـ251) ، حديث (2012) ، وكتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال (13/264) ، حديث (7290) ، وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (1/524) ، حديث (761) .
فعلل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم.
فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم عل قارئ واحد، فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته صلى الله عليه وسلم1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما قول عمر رضي الله عنه: " نعمت البدعة هذه " فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا قول الصاحب ليس بحجة، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أعتقد أن قول الصاحب حجة، فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
وتسمية عمر رضي الله عنه صلاة التراويح تسمية لغوية، لا تسمية شرعية؛ لأن البدعة اللغوية تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق. أما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي 2.
1 انظر: الاعتصام للشاطبي (1/193ـ194) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/588ـ591) ، وفتح الباري لابن حجر (4/252) .
2 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/589ـ590) .
وقال ابن رجب: وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدعة اللغوية لا الشرعية 1.
2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين كما ثبت في الحديث الصحيح قوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور"2. فأعطى هذا الحديث أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنته صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا فعل عمر رضي الله عنه لم يكن بدعة، بل هو سنة.
ثانياً: أما استدلالهم بالأحاديث الواردة في ثواب من سن سنة حسنة، فيجاب عليها بما يلي:
1 ـ لو نظرنا إلى سبب حديث من سن في الإسلام سنة حسنة وقصته نجده في سنة الصدقة وترغيب الناس فيها، فدل ذلك على أن المراد سنة الأحياء وليس المراد به الاختراع ونصه كما يلي:
عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار 3 أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر 4 وجه رسول الله صلى الله عليه وسلملما رأى بهم من
1 جامع العلوم والحكم لابن رجب (252) .
2 تقدم تخريجه، ص (219) .
3 النمار: هو التخطيط في الثوب بالسواد والبياض. انظر: النهاية لابن الأثير (5/118)، وانظر: القاموس المحيط (627) .
4 تغير. انظر: القاموس المحيط (614) .
الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 1. والآية التي في سورة الحشر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال، فجاء رجل من الأنصار بصرة كانت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام، أوثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبه 3. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها.. الحديث".
3 ـ إن قوله: "من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة" لا يمكن حمله على الاختراع من أصل؛ لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
1 سورة النساء، آية (1) .
2 سورة الحشر، آية (18) .
3 المذهب الشيء المموه بالذهب. انظر: اللسان (1/395) ، مادة (ذهب) .
وإنما يقول بالتحسين والتقبيح بالعقل المبتدعة، فلزم أن تكون السنة في الحديث. أما حسنة في الشرع، وأما قبيحة بالشرع، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل"1.
وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها شرعاً 2.
4 ـ أما قولهم: " ليست كل بدعة ضلالة " فيجاب عليه بما يلي:
فيه اعتراض على عموم الأحاديث الواردة في ذم البدع والمحدثات، ولقد أجاب شيخ الإسلام بن تيمية على هذا القول بقوله:
والجواب: أما القول أن شر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والتحذير من الأمور المحدثات. فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
ولا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم "كل بدعة ضلالة" على البدعة التي نهي عنها بخصوصها؛ لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث.. وهو من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ..
1 صحيح مسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل (3/1302ـ1304) ، حديث (1677) .
2 انظر: الاعتصام للشاطبي (1/182ـ184) .
ودلالة الحديث باقية لا ترد بما ذكروه، ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية وهي قوله:"كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة ـ فإن هذا إلى مشاقه الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب منه إلى التأويل 1.
ـ وفيه من المفاسد أشياء:
أـ سقوط الاعتماد على هذا الحديث، فإن المنهي عنه علم حكمه بذلك التخصيص.
ب ـ إن اسم البدعة يكون عديم التأثير.
ج ـ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص، وليس كل ما جاء فيه نهي خاصة بدعة، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس وتدليس.
د ـ مساواة البدعة بالمعاصي والحقيقة أن البدعة شر من المعاصي 2.
كما قال سفيان الثوري: " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها "3.
وبهذا يبطل استدلال من قال بتحسين البدعة، ولا سيما أن الأدلة الواردة في ذم البدع واضحة الدلالة من وجوه: 1 ـ أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها ولم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها ما يقتضي أن من البدع ما هو هدى، فلو كان هنالك بدعة
1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/583ـ588) .
2 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/586) ، والبدعة وأثرها السيئ في الأمة (32) .
3 مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/472) .
ومحدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان لأشير إلى ذلك في آية أو حديث ولكنه لا يوجد.
فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية والعموم لا يتخلف عن مقتضاها فرد من أفراد البدعة.
2 ـ أنه قد تقرر في علم الأصول أن كل قاعدة شرعية كلية ودليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم.
وذلك أن الأدلة جاءت متعددة ومتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال أن كل بدعة ضلالة وأن كل محدثة بدعة ونحو ذلك من العبارات الدالة على عموم ذم البدع والمحدثات في الدين، ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا يفهم منه خلاف ظاهر العموم والكلية فيها، فدل ذلك على أن هذه الأدلة على ظاهرها من العموم والإطلاق.
3 ـ إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان على ذم البدع بدون استثناء والهروب عنها وعن أصحابها، فدل ذلك على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل، الذي يجب تجنبه.
4 ـ أن مفهوم البدعة ومعناها يقتضي عموم ذم البدع كلها؛ لأنها مضاد للشارع وترك للشرع، وكل ما كان كذلك فممتنع أن ينقسم إلى
حسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع ومخالفته 1.
وبذلك تبين رجحان القول بأن البدعة في الشرع مذمومة، وانه لا بدعة حسنة، وان البدعة تكون في مقابل السنة والله أعلم.
1 انظر: الاعتصام للشاطبي (1/141ـ142) باختصار.