الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: صور الاحتفال بالمولد:
جرت عادة كثير من المسلمين بعد القرون المفضلة، أن تحتفل في شهر ربيع الأول في يوم الثاني عشر منه من كل عام بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد اختلفت أساليبهم في الاحتفال؛ بهذه الذكرى باختلاف البيئات والبلدان والغنى والفقر كل بحسب حاله لهذه تنوعت صور الاحتفال ولم تكن على نمط واحد.
فمنهم من يعدون في هذه المناسبة طعاماً خاصاً تجتمع الأسرة من حوله في هذه الليلة - أعني ليلة الثاني عشر من ربيع الأول - فرحة مسرورة حول مائدة واحدة.
ومنهم من يحتفل بأصناف من الحلوى ذات أشكال وصور مخصوصة يصنعها الباعة لتلك المناسبة تعرف بحلوى المولد، والتي تعرض في الأسواق في ذلك الوقت.
ومنهم من يجتمعون حول المنشدين ليسمعهم قصة المولد الشريف، وهذه هي الصفة السائدة في المجتمع الإسلامي اليوم، وصفة الاحتفال بذلك أن يكون عبارة عن اجتماع في أحد المساجد، أو الميادين المعدة لذلك، أو أحد بيوت الأغنياء، ويكون الاستعداد لذلك من بداية شهر ربيع الأول إلى اليوم الثاني عشر منه في كل عام، فيجتمع من أراد الحضور إلى هذا المكان، فيبدأ بقراءة بعض آيات القرآن الكريم، التي جاء فيها ذكره صلى الله عليه وسلم.
ثم يتناولون قراءة جانب من سيرته صلى الله عليه وسلم وما لاقاه في بداية حياته صلى الله عليه وسلم، وبيان نسبه الشريف من خلال ما هو مدون في قصة المولد المعروف 1، والمشتملة على بعض الشمائل الطاهرة الخِلقية منها والخُلقية، حتى إذا جاء ذكر مولده، قام الجميع إجلالاً وتعظيماً وترحيباً بمقدمه صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك يقول البرزنجي 2.
" هذا وقد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمة ذو رواية وروية، فطوبى لمن كان تعظيمه صلى الله عليه وسلم غاية مرامه ومرماه "3.
بل قد أوجب بعضهم القيام، وفي ذلك يقول المناوي 4 في مولده ما نصه.
" ويجب معشر الحاضرين والسامعين القيام عند ذكر مولده الشريف تعظيماً لقدوم ذاته البهية، فيا سعادة من وقف تعظيماً له على الأقدام "5.
مرددين بعض أبيات الترحيب لقدومه صلى الله عليه وسلم، كقوله القائل:
أشرقت أنوار محمد
…
واختفت منها البدور 6
1 مثل: مولد النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر البرزنجي، ومولد النبي المسمى الأسرار الربانية لمحمد عثمان الميرغني، ومولد المناوي لعبد الله بن محمد المناوي، والأنوار القدسية في مولد المصطفى خير البرية - لطريقة السادة الشاذلية، وغيرها كثيرة.
2 هو: جعفر بن حسن عبد الكريم البرزنجي زين العابدين من أهل المدينة، وكان مفتي الشافعية فيها، توفي سنة (1177هـ) . انظر: هداية العارفين ((1/255) ، والأعلام للزركلي (2/123) .
3 مولد النبي صلى الله عليه وسلم للبرزنجي (6) .
4 هو: عبد الله بن محمد المناوي - ولم أقف له على ترجمة له سوى ما أثبته، لكن مولده مشهور ومتداول نظماً ونثراً.
5 مولد المناوي (26) .
6 الأنوار القدسية في مولد خير البرية (8) .
أو
صلاة ربي ذي الجلالذ
…
على نور الهدى باهي الجمال 1
أو
مرحباً يا مرحباً يا مرحباً
…
مرحباً جد الحسين مرحبا
يا نبي سلام عليك
…
يا رسول سلام عليك 2
ثم بعد ذلك يواصلون قراءة قصة حياته صلى الله عليه وسلم، وعلى شكل مقاطع يتخللها قولهم:
مولاي صل وسلم دائماً أبدأ
…
على حبيبك خير الخلق كلهم
ويندب لقراءة هذه القصة شاب حسن الصوت، فيترنم بالمدائح والأشعار المشتملة على الغلو والإطراء كقصيدة البردة، أو غيرها من القصائد المشتمل بعضها على الشرك والعياذ بالله.
ثم بعد ذلك يتناول ما أعد لهذه المناسبة من طعام، وهم يعتقدون أنهم قد تقربوا إلى الله تعالى بأعظم قربة، ويتضح ذلك جلياً في دعاء ختم المولد، والذي يرددونه في نهاية هذه المناسبة راجين من الله قبول ذلك العمل، فمن هذا الدعاء قولهم:
" اللهم إنا قد حضرنا قراءة ما تيسر من مولد نبيك الكريم فأفض اللهم علينا خلع القبول والتكريم، واسكنا بجواره في جنات النعيم.. "3.
1 المولد المناوي (26) .
2 مولد النبي صلى الله عليه وسلم للبرزنجي نظم (119) ، ضمن مجموعة.
3 الأنوار القدسية (23)، وانظر: مولد المناوي (62-63) .
وجاء في دعاء ختم مولد الديبع 1: " واغفر اللهم بجاهه لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمعلمينا وذي الحقوق علينا ولمن أجرى هذا الخير في هذه الساعة.. "2.
بل قد نص الميرغني 3 على قبول الدعاء فقال: " وأنه يستجاب الدعاء عند ذكر الولادة وعند الفراغ منه فنسأل الله الغفران 4.
وبهذا الدعاء يختم الاحتفال بالمولد النبوي ويقوم بعض الأغنياء بتوزيع بعض الأموال على الفقراء الذين حضروا تلك المناسبة راجياً من الله مضاعفة أجر هذه الصدقة، ولا سيما أنها أتت عقب عمل صالح في زعمهم، ثم بعد ذلك ينفض ذلك الاجتماع.
فهذه الصورة هي أمثل صورة للاحتفال بالمولد عندهم وهي التي في زعمهم لم يكن فيها اختلاط ولا غناء ولا ضرب دف، والذين يفعلون مثل ذلك الاحتفال يزعمون أنهم ملتزمون ومحافظون على المشروع من الاحتفال وذلك
1 هو: عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني العبدري الزبيدي الشافعي محدث مؤرخ، ولد سنة (866هـ)، وكانت وفاته سنة (944هـ) . انظر: فهرس الفهارس للكتاني (1/412-415) ، والأعلام (3/318) .
2 مولد ديبع (17) ، ضمن مجموعة شرف الأنام.
3 هو: محمد عثمان بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله الميرغني، المحجوب الحنفي الحسيني، مفسر متصوف وهو أول من اشتهر من الأسرة الميرغنية بمصر والسودان، ولد بالطائف سنة (1208هـ) وتوفي بها (1268هـ) . انظر: الأعلام للزركي (6/262) .
4 الأسرار الربانية للميرغني (7) .
لمنعهم إدخال الباطل والمنكر فيه، متناسين أبيات الشرك والغلو التي يرددونها كل حين. وحقا أن الهوى يعمي ويصم فالله المستعان.
ولا يقتصر الاحتفال بالمولد على إقامة حفلة في الثاني عشر من ربيع الأول فحسب بل إن هناك صوراً من الاحتفال بالمولد النبوي، وذلك من خلال عقد الندوات والمحاضرات التي تنشر في وسائل الإعلام المختلفة المسموعة منها والمرئية والمقروءة، فتفتتح تلك الندوات والمحاضرات بتلاوة آيات من الذكر الحكيم يحرص قارؤها على أن تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
ثم يتناول أصحاب المحاضرة، أو الندوة سيرته صلى الله عليه وسلم وما لقيه في هذه الحياة، ويكون ذلك العمل ابتداءً من ربيع الأول من كل عام.
ومن العجيب والغريب أن المغنين والمغنيات والمطربين وأرباب الفجور يحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم فيحيون تلك الليلة بالغناء والسهر والطرب مختلطين في ذلك رجالاً ونساءً، مترنمين بابتهالات وأغان وأدعية شركية يواكبها ضرب دف وصوت مزمار وقرع أعواد، كل ذلك احتفالاً بمولده صلى الله عليه وسلم، زاعمين محبته، وينطبق عليهم قوله تعالى:{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} 2.
1 سورة التوبة، آية (128) .
2 سورن الأعراف، آية (51) .
ومن استمع إلى إذاعات بعض الدول الإسلامية في ذلك الوقت أدرك حقيقة ما أشرت إليه.
ومن صور الاحتفال بالمولد اعتباره عيداً رسمياً تعطل فيه المصالح الحكومية عند بعض البلاد الإسلامية، كما تحتفل بعض الدول الإسلامية به رسمياً وتقيم لذلك موكباً خاصاً يتقدمه مسئول من الدولة حتى يصلوا إلى المكان المعد للاحتفال، وعادة ما يكون في أحد المساجد المشهورة، أو الميادين المعدة لذلك فتلقى الكلمات والقصائد والابتهالات التي يزعمون أنها دينية - بهذه المناسبة كما يحضرها أرباب الطرق الصوفية.
ثم تمد سمائط الأكل والحلوى فيتناول الحاضرون ما لذ وطاب، ثم ينصرفون بعد ذلك.
وهذا الفعل هو نظير ما كان يفعله الفاطميون بالاحتفال بالمولد 1. وقد حكي ذلك أيضاً عن الملك المظفر في احتفاله ببعض الموالد أنه أعد سماطاً فيه خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوي، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع، ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار 2.
1 انظر: الخطط للمقريزي (1/433) .
2 انظر: البداية والنهاية (13/147) ، ووفيات الأعيان (4/117-119) ، وحسن المقصد للسيوطي (43-44) ، وقد يكون في هذا نوع مبالغة ولكن لا يستبعد وقوع مثل ذلك.
وكذلك الاحتفالات التي وقعت بعد ذلك فقد جرت على هذا المنوال من المبالغة والإسراف وصرف الأموال في غير طاعة الله عز وجل، فضلاً عما يحدث في هذه الاحتفالات من المنكرات التي يندي لها الجبين، وإليك نماذج منها لتقف على حقيقة الاحتفال بالمولد وإلى أي حد وصل أربابه ودعاته من البعد عن شرع الله عز وجل واتباع سنته صلى الله عليه وسلم.