الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الأعياد الزمانية عند العرب في الجاهلية
تتمثل أعياد العرب الزمانية في أيام أفراحهم ومسراتهم لظفرهم على عدوهم ونصرتهم على خصومهم ومحاربيهم؛ وذلك إنما يكون بحسب قوم دون قوم ولقبيلة دون قبيلة فيتفق في يوم هو عيد لقوم وسرور ولآخرين حزن وبؤس1.
وبما أن العرب ليس لهم دين واحد يجتمعون عليه، فكذلك نجد أعيادهم مختلفة متباينة، نظراً لاختلاف معتقداتهم، وكما تقدم من أن العرب في الجاهلية كانت تدين بأديان شتى، كانت فيهم اليهودية والنصرانية والمجوسية، كما كانت فيهم الزندقة والوثنية.
وقد تأثرت هذه القبائل بمعتقدات الديانات التي تميل إليها، وكان ذلك واضحاً في بعض معتقداتهم مما جعل البعض يحتفل بأعياد تلك الديانة.
فقد كان لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما هذان اليومان" قالوا: كنا نعلب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى، ويوم الفطر"2.
1 بلوغ الأرب للألوسي (1/347) .
2 سنن أبي داود كتاب الصلاة، باب الصلاة العيدين (1/295) ، حديث (1134) ، وسنن النسائي، كتاب صلاة العيدين (3/179-180) ، حديث (1556) = والسنن الكبرى للبيهقي، كتاب صلاة العيدين (3/277) ، ومسند الإمام أحمد (3/103) ، المستدرك للحاكم، كتاب صلاة العيدين (1/294) ، وقال حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وشرح السنة للبغوي، باب العيدين (4/292)، وقال: هذا حديث صحيح.
وقد ذكر بعض شراح الحديث أن اليومين هما النيروز والمهرجان1. والنيروز والمهرجان هما عيدان من أعياد المجوس، كما تقدم بيانه2. فلعل العرب أخذوا ذلك عنهم.
ومن أعياد العرب أيضاً: "يوم السبع" وهو عيد من أعياد قبائل العرب يشتغلون فيه باللهو واللعب3.
ومنها: احتفالهم بيوم السباسب، وهو يعرف بالشعانين، وهو أحد أعياد النصارى4.
وقد جاء ذكر ذلك في بيت للنابغة5:
رقاق النعال طيب حجزاتهم
يحيون بالريحان يوم السباسب6
ومنها احتفالهم بعيد الفصح، حيث كانوا يوقدون المشاعل ويعمرون القناديل ويضيئون الكنائس ويقصدونها للاحتفال وإقامة العيد فيها7.
1 انظر: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد للساعاتي (6/119) ، وعون المعبود 3/485) .
2 راجع: أعياد المجوس (61) ، من هذا البحث.
3 معجم ما استعجم للبكري (3/719) ، وبلوغ الأرب للألوسي (1/348) ، والقاموس المحيط (938) .
4 لسان العرب (1/460)، وبلوغ الأرب (1/348) . وانظر: من هذا البحث أعياد النصارى (47) .
5 هو: زيادة بن معاوية بن ضباب بن جابر الذبياني الغطفاني المضري، أبو أمامة شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، وكان من أحسن شعراء العرب ديباجة، توفي نحو 18 ق هـ. انظر ترجمته: الشعر والشعراء لابن قتيبة (61-65) ، وطبقات الشعراء لمحمد بن سلام (25) ، والأعلام للزركلي (3/54-55) .
6 ديوان النابغة (12) .
7 المفضل في تاريخ العرب، لجواد علي (6/660) .
كما كان بعض العرب في الجاهلية يعمدون أولادهم ويأخذونهم إلى الكنائس على نحو ما يفعله سائر النصارى ويحتفلون بذلك1.
وقد ذكر القزويني 2 أن اليوم الأول من محرم معظم عند ملوك العرب يقعدون فيه للهناء، كما أن اليوم الأول من سنة الفرس كان عندهم معظماً، وهو يوم النيروز3.
قلت: وهذا اليوم يماثل عيد رأس السنة عند اليهود أيضاً. فمما تقدم يتضح أن العرب، قد أخذوا بعض العادات في الأفراح والاحتفالات من أهل الديانات الأخرى؛ وذلك لانتساب بعض القبائل إلى ملة من هذه الملل، أو بسبب المجاورة والانتقال إلى البلدان الأخرى.
ولم يقتصر العرب على ذلك، بل كانت لهم مواسم معينة يحتفلون بها ويجتمعون فيها وتتجلى هذه المواسم في الأسواق التي كانوا يقيمونها خلال شهور السنة، وينتقلون من بعضها إلى بعض يحضرها سائر العرب، بما عندهم من المآثر والمفآخر يأمنون فيها على دمائهم وأموالهم.
وقد كان للعرب أسواق كثيرة4:
1 انظر: لسان العرب (8/438) ، مادة "صبغ".
2 هو: زكريا بن محمد بن محمود القزويني، من سلالة أنس بن مالك الأنصاري مؤرخ جغرافي من القضاة، ولد بقزوين سنة 605 هـ، وكانت وفاته سنة 682هـ. انظر ترجمته: كشف الظنون (1/9) والأعلام للزركلي (3/46) .
3 عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني (44) .
4 انظر: تاريخ اليعقوبي (1/270) ، والآثار الباقية للبيروني (328) ، والأزمنة والأمكنة للمرزوقي (2/161-166) ، ونهاية الأرب للنويري (464) ، وبلوغ الأرب للألوسي (1/264-247) .
منها دومة الجندل 1: وكانوا ينزلونها أول يوم من ربيع الأول يجتمعون في أسواقها للبيع والشراء، والأخذ والعطاء والتبادل.
وكان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس ويقوم بأمرهم أول يوم فيه ويستمر سوقهم إلى نصف الشهر، وربما غلب على السوق بنو كلب فيتولى أمرهم يومئذٍ بعض رؤساء بني كلب، فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر2.
ومنها المشقر3: ويرتحلون إليه من دومة الجندل، ويقوم سوقها أول يوم من جمادي الآخرة إلى آخر الشهر، ويرد إلى هذا السوق تجار فارس ببضائعهم يقطعون البحر ليتاجروا مع من يقصد هذا السوق من العرب، وكان من أنواع بيعهم في هذا السوق الملامسة4 والإيماء5 والهمهمة6 ويقوم بهذا السوق رؤساء بني تميم من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوي، وكانوا يتلقبون بألقاب الملك، ويسيرون في معاملتهم في السوق، سيرة الملوك بدومة جندل، حيث يأخذون العشر7.
1 بضم أوله وفتحه حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيء. انظر: معجم البلدان لياقوت (2/487) ، وهي تقع في شمال المملكة في مدينة الجوف.
2 الأزمنة والأمكنة للمرزوقي (2/161-162) ، وتاريخ اليعقوبي (1/270) ، وبلوغ الأرب (1/264-265) .
3 بضم أوله وفتح ثانيه وقافه مفتوحة مشددة وراء مهملة: قصر بالبحرين، وقيل مدينة هجر. انظر: معجم ما استعجم للبكرى (4/1232) ، ومعجم البلدان لياقوت (5/134-135) .
4 الملامسة والمماسة، هو: أن يقول إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب بكذا. انظر: القاموس (740) .
5 والإيماء: الإشارة. انظر: اللسان العرب (1/2101) .
6 الكلام الخفي. انظر: القاموس المحيط (1512) .
7 الأزمنة والأمكنة للمرزوقي (2/162-163) ، وتاريخ اليعقوبي (1/270) ، وبلوغ الأرب للألوسي (1/265-266) .
قلت: وهذا الفعل في البيع من عادات الفرس والمجوس ولعل العرب تأثروا بسبب تلك المخالطة.
ومنها سوق السحر1: وتقوم في النصف من شعبان ويقصدها التجار من البر والبحر، ولم تكن فيها عشور؛ لأنها ليست بأرض مملكة2.
ومنها عكاظ3: وهي أشهر أسواق العرب في الجاهلية وأعرقها، ولم تكن مقتصرة على البيع والشراء بل كانت سوق تجارة وسوق سياسة وأدب فيها يخطب كل خطيب مصقع، وفيها علقت القصائد السبع المشهورة افتخاراً بفصاحتها على من يحضر المواسم من شعراء القبائل.
وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب، فمن كان له أسير سعى في فدائه، ومن له حكومة أرتفع إلى من له الحكومة، وكان الذي يقوم بأمر الحكومة فيها من بني تميم، وكان آخر من قام بها الأقرع ابن حابس، وكانت تقام فيها أشياء لم تكن في أسواق العرب الأخرى، وهي تقام للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر4.
1 بكسر أوله وسكون ثانيه، بعده راء مهملة صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، وهو بين عدن وعمان. انظر: معجم ما استعجم للبكري (3/783) ، ومعجم البلدان لياقوت (3/327) .
2 الأزمنة والأمكنة للمرزوقي (2/163-164) ، وتاريخ اليعقوبي (1/270) ، وبلوغ الأرب للألوسي (1/266) .
3 بضم أوله وفتح ثانيه وبالظاء المعجمة صحراء مستوية لا علم فيها، ولا جبل وهي: من عمل الطائف وعلى بريد منها، وقيل عكاظ نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة. انظر: معجم ما استعجم للبكري (3/959)، ومعجم البلدان (4/142) . وقيل: سميت بعكاظ لتعاكظ القوم أي تفاخرهم فيها. انظر: لسان العرب (7/447-448) ، مادة "عكظ".
4 انظر: الأزمنة والأمكنة للمرزوقي (1/165) ، والآثار الباقية للبيروني (328) ، وتاريخ اليعقوبي (1/270) ، وصبح الأعشى للققشندي (1/411) .
وقد كان موضع عكاظ في الأصل مكاناً مقدساً، كما جاء ذلك عن أهل الأخبار فقد ذكروا أن العرب كانت تطوف بصخور هناك ويحجون إليها وينحرون إلى تلك الأصنام والأنصاب حتى تلطخت تلك الأصنام والأرض التي تحيط بها بدماء البدن 1. من هنا يتضح أن سبب تعظيم هذا الموضع لما له من مكانة دينية في نفوس العرب لوجود هذه الأصنام فيه.
وبالتتبع لأماكن إقامة هذه الأسواق نجد أنها في الأصل مواضع مقدسة لوجود أصنام فيها تعبدها القبائل، وتأتي إلى التقرب إليها في مواسم معينة، وهي مواسم حج تلك الأصنام فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء والتبادل والتفاخر، فهي بهذا تصبح أيام عبادة وتجارة وأيام فرح وسرور.
فمثلاً: نجد أن بني كلب كانوا يفدون إلى دومة الجندل للتقرب إلى صنم "ود" ومع ذلك يقام سوق في دومة الجندل.
وحقيقة هذه الأسواق والمواسم أنها جمعت بين الأعياد المكانية والأعياد الزمانية، فهي أعياد زمانية من ناحية تحديد قيام السوق والموسم، ومكانية من ناحية الموضع الذي يقام فيه السوق، وما يشتمل عليه من أصنام وأوثان وما يفعل حوله من التقرب بالذبح والنذر وغير ذلك من أمور الوثنية.
وقد جاء الإسلام وأبطل ذلك كله كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2. وعوض عنها الأعياد المشروعة المكانية والزمانية المتضمنة لا خلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والتي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
1 معجم ما استعجم للبكري (3/959-960) ، ومعجم البلدان لياقوت (4/142) .
2 سورة الإسراء، آية (81) .