المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الأدلة على بطلان هذا العيد: - الأعياد وأثرها على المسلمين

[سليمان بن سالم السحيمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: أعياد الكفار والعرب في الجاهلية

- ‌الفصل الأول: أعياد اليهود وعاداتهم فيها

- ‌الفصل الثاني: أعياد النصارى وعاداتهم فيها

- ‌الفصل الرابع: أعياد العرب في الجاهلية وعاداتهم فيها

- ‌المبحث الأول: الدين السائد عند العرب في الجاهلية

- ‌المبحث الثاني: الأعياد المكانية عند العرب في الجاهلية

- ‌المبحث الثالث: الأعياد الزمانية عند العرب في الجاهلية

- ‌الباب الثاني: مشروعية مخالفة الكفار

- ‌الفصل الأول: النهي عن مشابهة الكفار

- ‌المبحث الأول: تعريف التشبه في اللغة والاصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أدلة تحريم التشبه بالكفار

- ‌المبحث الثالث: أخباره صلى الله عليه وسلم بوقوع المشابهة في أمته

- ‌المبحث الرابع: أثر مشابهة الكفار

- ‌الفصل الثاني: مشابهة الكفار في أعيادهم

- ‌المبحث الأول: الأدلة على تحريم مشابهة الكفار في أعيادهم

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لوقوع المشابهة في أعياد الكفار

- ‌المبحث الثالث: أثر مشابهة الكفار في أعيادهم

- ‌الباب الثالث: الأعياد المشروعة وآثارها الحميدة

- ‌الفصل الأول: تحديد الأعياد الشرعية

- ‌المبحث الأول: الأعياد الزمانية الشرعية

- ‌المطلب الأول: عيد الفطر والأضحى

- ‌المطلب الثاني الأدلة على أن أيام التشريق وعرفة أيام عيد

- ‌المطلب الثالث: يوم الجمعة

- ‌المبحث الثاني: الأعياد المكانية الشرعية

- ‌الفصل الثاني: بيان أن الله تعالى أغنى المسلمين بأعيادهم الشرعية

- ‌المبحث الأول: ارتباط الأعياد الشرعية بالفرائض الدينية

- ‌المبحث الثاني: اشتمالها على تغذية الروح والبدن

- ‌المبحث الثالث: أثر الأعياد الشرعية في التكافل الاجتماعي

- ‌المبحث الرابع: مقارنة بين الأعياد الشرعية والأعياد الأخرى

- ‌الباب الرابع: الأعياد والمواسم المبتدعة وأثرها السيء

- ‌الفصل الأول: في البدعة

- ‌المبحث الأول: تعريف البدعة في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف البدعة في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث: أسباب انتشار البدعة

- ‌المبحث الرابع: أحكام البدع

-

- ‌الفصل الثاني: بعض البدع والمخالفات التي وقعت في الأعياد الشرعية

- ‌المبحث الأول: بدع ومخالفات في عيدي الفطر والأضحى

- ‌المبحث الثاني: البدع والمخالفات في الجمعة

-

- ‌الفصل الثالث: الأعياد الزمانية المبتدعة

- ‌المبحث الأول: يوم عاشوراء

- ‌المطلب الأول: اتخاذ عاشوراء مأتما

- ‌المطلب الثاني: ـ اتخاذ عاشوراء عيداً:

- ‌المطلب الثالث: ـ السنة في يوم عاشوراء:

- ‌المبحث الثاني: الاحتفال بمولد النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: نشأته وأول من أحدثه في الإسلام:

- ‌المطلب الثاني: صور الاحتفال بالمولد:

- ‌المطلب الثالث: المنكرات التي تحصل في المولد:

- ‌المطلب الرابع: الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها:

- ‌المطلب الخامس: دعوى أن ترك الاحتفال بالمولد ينافي محبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌المطلب السادس: حكم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثالث: صلاة الرغائب

- ‌المطلب الأول: متى أحدثت وصفتها:

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بدعتها

- ‌المبحث الرابع: الاحتفال بالإسراء والمعراج

- ‌المطلب الأول: تاريخ الإسراء والمعراج:

- ‌المطلب الثاني: صفة الاحتفال:

- ‌المطلب الثالث: الأدلة على بدعيتها:

- ‌المبحث الخامس: الاحتفال بليلة النصف من شعبان

- ‌المطلب الأول: أقوال العلماء في ذلك:

- ‌المطلب الثاني: الصلاة الألفية في ليلة النصف من شعبان:

- ‌المبحث السادس: الاحتفال بليلة القدر

- ‌المطلب الأول: فة الاحتفال بها:

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بدعيته:

- ‌المبحث السابع: الاحتفال بعيد الأبرار

- ‌المبحث الثامن: الاحتفال بالهجرة

- ‌المطلب الأول: صفة الاحتفال به

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بدعيته:

- ‌الميحث التاسع: الاحتفال بعيد الغدير

- ‌المطلب الأول: متى احتفل به

- ‌المطلب الثاني: منزلته عند الرافضة والأدلة على ذلك:

- ‌المطلب الثالث: مظاهر الاحتفال به:

- ‌المطلب الرابع: الأد على بدعته

- ‌المبحث العاشر: الاحتفال بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المطلب الأول: منزلته عند الراف1ضة وصورة الاحتفال به

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بطلان هذا العيد:

-

- ‌الفصل الرابع: الأعياد المكانية المبتدعة

- ‌المبحث الأول: اتخاذ القبور أعيادا

- ‌المطلب الأول: زيارة القبور

- ‌المطلب الثاني: النهي عن اتخاذ القبور أعياداً:

- ‌المطلب الثالث: أمثلة لاتخاذ القبور أعياداً:

- ‌المبحث الثاني: اتخاذ الآثار أعياداً

- ‌المبحث الثالث: اتخاذ الأحجار والأشجار ونحوها أعياداً

- ‌المبحث الرابع: المفاسد الناتجة عن تلك الأعياد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: الأدلة على بطلان هذا العيد:

‌المطلب الثاني: الأدلة على بطلان هذا العيد:

لا يستغرب من الرافضة مثل هذا الفعل فقد كفروا الصحابة إلا النفر اليسير وزعموا أنهم منافقون قد ارتدوا عن الإسلام 1 ولا سيما خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بل لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا لعنهما قربة وعبادة يتقربون بها في كل صباح ومساء 2.

فهل يستغرب من قوم هذا حالهم وهذه عقيدتهم في أفضل خلق الله بعد نبيه صلى الله عليه وسلم ومن اختارهم عز وجل لصحبة نبيه أن يحتفلوا بمثل هذا الاحتفال. ولست في مجال بيان بطلان معتقد الرافضة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدالتهم أشهر من أن تعرف ولا ينكرها إلا جاحد زنديق ولقد بيّن سلفنا الصالح بطلان هذا المعتقد 3 والذي تقدم جزء منه لذا سأقتصر على بيان أن هذا العيد باطل ومحدث ولا أصل له وذلك من وجوه.

1 ـ يتضح من خلال الرواية الواردة في هذا العيد اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقية والجبن، حيث لم يستطع التصريح باسم من ظلم آل البيت، أو الذي أجرم في حقهم ذلك الذي يحتفل بهلاكه ولم يفهم ذلك إلا من راوي

1 انظر: الروضة من الكافي للكليني (8/246-247) ، والرجال للكشي (135) .

2 مفتاح الجنان (113) ، وتحفة العوام لمقبول جديد (422) .

3 انظر: في ذلك الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية (567) وما بعدها، والرد على الرافضة للمقدسي (295) ، وما بعدها، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (468-473) ، ورسالة في الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب (12-20) .

ص: 419

هذه الرواية حذيفة بن اليمان وصاحب الأنوار أنه قال كل هذا في حق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ والسبب في عدم ذكره صلى الله عليه وسلم لذلك خوفه من عمر بن الخطاب، فقد يرتكب عمر عملاً ضده فلم يصرح باسمه مخافة ذلك.

وهذا يشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء من دور النبوة وحتى الوفاة قد اتخذ في حق عمر مذهب التقية وجعل هذا العمل سنة لأمته من بعده {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} 1.

2 ـ قضية رفع القلم عمّن يحتفل بذلك ثلاثة أيام ابتداء من اليوم التاسع من ربيع الأول واعتباره يوم فرح وسرور ولك أن تفعل ما تشاء فيا ترى ما هو الدين الذي يسمح لاتباعه بارتكاب الفواحش من الزنا وسفك الدماء والسرقة والنهب وغير ذلك من الفواحش في فترة من الزمن؟ كل هذا ممكن في معتقد الرافضة بل خاصية لهم في هذه المناسبة.

إضافة إلى إعطاء الأجر والثواب والعتق من النار جزاء ذلك العمل، كل هذا بين البطلان فيالها من وقاحة وسخافة 2.

3 ـ أنه لم ينقل عن أحد من آل البيت أنه احتفل بذلك اليوم كما تزعمه الرافضة وليس من دين الله اتخاذ موت الأنبياء والخلفاء مأتماً ولا أفراحاً بل كان آل البيت يكنون المحبة لأبي بكر وعمر ويرون أنهما أفضل هذه

1 سورة الكهف، آية (5) .

2 انظر: الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام لمحمد منظور نعماني (166-167) .

ص: 420

الأمة بعد نبيها، وكذلك سائر الصحابة رضوان الله عليهم 1 وما هذه الرواية التي أوردها الرافضة في ذلك إلا كذباً وبهتاناً وافتراء على آل البيت وهم جميعاً أبرياء من ذلك كله.

ومما يدل على بطلانه وكذب الرافضة في ذلك هو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن استشهاده في التاسع من ربيع الأول كما تزعم الرافضة، بل كان في ذي الحجة من عام 23 من الهجرة 2.

وهذا يدل على كذب الرافضة وجهلهم وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: " أنهم أكذب الناس في النقليات ومن أجهل الناس في العقليات "3.

وبهذا يتبين بطلان ذلك العيد وأنه لا أصل له في دين الله وإنما ابتدعته الرافضة كيداً للإسلام وأهله وحقداً على الفاروق الذي قضى على مملكة المجوس وأعياد النيران.

ذلك الحقد الذي يتغلغل في أعماقهم، ويطفو على سطح ممارساتهم وعباداتهم بمناسبة أو غير مناسبة، وفيه يتجلى معتقد الرافضة والأساس الذي قام عليه، وإن الإسلام برئ من أولئك ومن فعل فعلهم.

1 انظر في ذلك كتاب الاعتقاد للبيهقي (204) ، وما بعدها، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (4/422) ، والرد على الرافضة للمقدسي (295-311) .

2 الطبقات الكبرى لابن سعد (3/365) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/8) .

3 منهاج السنة لابن تيمية (1/3) .

ص: 421

‌المبحث الأول: اتخاذ القبور أعيادا

‌المطلب الأول: زيارة القبور

المطلب الأول: زيارة القبور:

تنقسم زيارة القبور إلى قسمين: زيارة مشروعة وأخرى ممنوعة:

- أولاً: الزيارة المشروعة:

لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر عن زيارة القبور؛ لأن الناس حديثو عهد بكفر؛ ولأن الوثنية كان منشؤها القبور، إذ نصبت الأصنام والأوثان تعظيماً لبعض أصحاب القبور، فعكفوا على تلك التماثيل وتعهدوها بالزيارة، ومع مرور الزمن وطول الأمد عبدوها من دون الله، فلما تأصل الإيمان بالله في نفوسهم، وتمكنت العقيدة من قلوبهم، وأخلصوا العبادة له جل وعلا، وافردوه بالوحدانية، أذن صلى الله عليه وسلم في زيارتها، حيث قال:"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"1.

فشرعت هذه الزيارة لأمرين:

1 -

تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة"2.

1 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/672) ، حديث (977) .

2 سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور (3/218) ، حديث (3235) ، وسنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور (1/500) ، حديث 1569) .

ص: 428

ويستوي في هذا الأمر - أعني التذكر والاتعاظ - قبر المسلم والكافر، حيث هما سيان في ذلك لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:"استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".

وفي رواية عنه أيضاً قال: "زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكي وأبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور 2 - الدعاء للميت والإحسان إليه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد 2"3.

وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية" 4.

1 صحيح مسلم، كتاب الجنائز (2/671) ، حديث (976) .

2 الغرقد: نوع من شجر العضاة وشجر الشوك، وسمى البقيع بذلك؛ لأنه كان ينبت فيه ثم قطع. انظر: النهاية لابن الأثير (3/362) .

3 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/669) ، حديث (974) .

4 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/674) ، حديث (975) .

ص: 429

فهذه الزيارة الشرعية للقبور تذكر الموت والآخرة والدعاء للميت. قال شيخ الإسلام ابن تيمية " فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارتها بعد النهي وعلل ذلك بأنها تذكر الموت والدار الآخرة وأذن إذناً عاماً في زيارة قبر المسلم والكافر؛ والسبب الذي ورد عليه هذا اللفظ يوجب دخول الكافر، والعلة وهي تذكر الموت والآخرة موجود في ذلك كله. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي قبور أهل البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار، فهذا المعنى يختص بالمسلمين دون الكافرين، فهذه الزيارة وهي زيارة القبور لتذكر الآخرة، أو لتحيتهم والدعاء لهم، هو الذي جاءت به السنة "1.

وهذه الزيارة الشرعية التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم لابد لها من شرطين:

الأول: أن تكون الزيارة بدون شد رحل. لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى"2.

وجه الدلالة: أن هذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب، فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير الثلاثة لا يجوز مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة، ويستحب أخرى. وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يحصى فالسفر إذاً إلى مجرد القبور أولى بالمنع " 3.

1 اقتضاء الصراط المستقيم (2/664-665) .

2 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (3/63) ، حديث (1189) ، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج، أو غيره (2/976) ، حديث (1338) ،

3 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/666) .

ص: 430

الثاني: التزام أدب الزيارة. لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأمر بزيارة القبور " فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً "1.

والهجر: بالضم هو الكلام الفاحش والباطل 2 ومن أعظمه الطواف حولها أو دعاء أصحابها والتقرب إليهم.

قال النووي: وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه أبيح لهم الزيارة، واحتاط صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولا تقولوا هجراً"3.

- ثانياً: الزيارة الممنوعة:

وهي التي لم تتوفر فيها الشروط السابقة أو اختل شرط منها. قال الصنعاني عقب أحاديث الزيارة: " الكل دال على مشروعية زيارة القبور والحكمة فيها، وأنها للاعتبار فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً 4.

قلت: وذلك مثل اتخاذها أعياداً أو الطواف بها أو طلب الدعاء من أصحابها أو الصلاة عندها والعكوف عليها.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"5.

1 سنن النسائي، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور (4/89) ، ومسند الإمام أحمد (5/361) ، والمستدرك للحاكم، كتاب الجنائز (1/376) .

2 انظر: النهاية لابن الأثير (5/245) ، والقاموس المحيط (637) .

3 المجموع للنووي (5/310) .

4 سبل السلام للصنعاني (2/114) .

5 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الصلاة (1/532) ، حديث (435) ، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/377) ، حديث (531) .

ص: 431

وقوله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1.

فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم أنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك " 2.

وقد بدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء للميت بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسوله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد، ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم مشروعاً وعملاً صالحاً ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون 3.

وبهذا تبين الفرق بين الزيارة المشروعة والممنوعة.

1 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الصلاة (1/532) ، حديث (437) ، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/376) ، حديث (530) .

2 اقتضاء الصراط المستقيم (2/668) .

3 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/202) .

ص: 432

‌المطلب الثاني: النهي عن اتخاذ القبور أعياداً:

لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور أعياداً والاجتماع عندها، كما نهى عن ذلك سلف هذه الأمة.

1 -

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنت"1.

2 -

وعن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيدعو، فدعاه فقال ألا أحدثك حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"2.

3 -

عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند

1 سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2/534) ، حديث (2042) ، ومسند الإمام أحمد (2/367) ، وصححه النووي في الأذكار (98) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/654) ، إسناده حسن ورواته كلهم ثقات.

2 مسند الإمام أحمد (2/367) ، واللفظ له والجامع الصغير للسيوطي مع فيض القدير (4/99) ، ورمز لصحته. وصححه الألباني، كما في صحيح الجامع (2/706) .

ص: 433

القبر؟ قلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم"1. فهذه الأحاديث تدل على النهي عن اتخاذ القبور أعياداً.

ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم أنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا بيوتكم قبوراً" أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت ، ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم، كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً"2.

ثم انه أعقب النهي عن اتخاذه عيداً بقوله: "صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم".

1 مصنف ابن أبي شيبه، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/345) ، ومصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم (3/577) ، حديث (6726) .

2 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الصلاة، باب كراهية الصلاة في المقابر (1/528-529) ، حديث (432) ، واللفظ له. وصحيح مسلم، كتاب صلابة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته (1/538) ، حديث (777) .

ص: 434

وفي الحديث الآخر: "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل من قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً 1.

ولكن من أخذ شبهاً من النصارى بالشرك وشبهاً من اليهود بالتحريف، حرف الأحاديث، فقال: هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت.

وقد أجاب على ذلك الإمام ابن القيم بقوله: "وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس، بعد التناقص فقاتل الله أهل الباطل أني يؤفكون، ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته، وكثرة انتيابه بقوله: "لا تجعلوه عيداً" فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان، فإن لم يكن هذا تنقيصاً فليس للتنقيص حقيقة فينا.

ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟ وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثناً

1 اقتضاء الصراط المستقيم (2/657)، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/192) .

ص: 435

يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً 1.

وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ حيثما كنتم" وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف 2.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ثم أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره. فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً.

وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.

فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط 3.

1 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم (3/255) ، حديث (1389) ، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (1/376) ، حديث (529) .

2 إغاثة اللهفان لابن القيم (1/192-193) .

3 اقتضاء الصراط المستقيم (2/659-660)، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/193) .

ص: 436

من هنا يتبين أن من افتتنوا بالقبور والعكوف عندها والتمسح بها والالتجاء إلى أصحابها، أبوا إلا مخالفته صلى الله عليه وسلم ومشاقته، فعمدوا إلى التحريف في الأحاديث وحملها على خلاف الحق لتأييد باطلهم، فكانوا أعلم من صحابته صلى الله عليه وسلم بزعمهم - فوقعوا في الشرك المحبط للعمل زاعمين أن ذلك تعظيم لساكني هذه القبور فجعلوا لكل قبر موسماً وموعداً يجتمعون فيه وينتابونه من وقت لآخر.

فأشبهوا اليهود والنصارى وشاركوا أهل الجاهلية في ذلك فاتخاذ القبور أعياداً من مسائل الجاهلية، وعمل من أعمالها 1.

1 انظر: مسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (123) .

ص: 437

‌المطلب الثالث: أمثلة لاتخاذ القبور أعياداً:

كما تقدم أن العيد المكاني هو أن تقصد مكاناً ما للاجتماع فيه والإتيان إليه من وقت لآخر للعبادة أو لغيرها.

فمن قصد قبراً في وقت مخصوص ومعلوم وجعل له موسماً ينتابه من وقت لآخر فقد اتخذه عيداً؛ وذلك أن القبوريين يقصدونها ويجتمعون عندها في مواسم معينة، ولا سيما الأيام الفاضلة، أو التي يزعمون فضلها وهذا هو بعينه الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تتخذوا قبري عيداً". وهو داخل تحت قوله أيضاً: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبورهم أنبيائهم مساجد".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وذلك أن بعض القبور يجتمع عندها في يوم من السنة ويسافر إليها أما في المحرم، أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة أو غيرها. وبعضها يجتمع عنده في يوم عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة وبعضها في النصف من شعبان، وبعضها في وقت آخر، بحيث يكون لها يوم من السنة، تقصد فيه ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة أو مزدلفة ومنى في أيام معلومة من السنة، وكما يقصد المصلي المصر يوم العيدين، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد 1.

1 اقتضاء الصراط المستقيم (2/729-730) .

ص: 438

قلت: وفي الغالب أن هذه الزيارة وتلك الاجتماعات المحددة والمعنية في السنة تكون يوم ولادة صاحب القبر أو وفاته، حيث يذهب في هذا التاريخ إلى مرقده فيجتمع عنده، وتقام المراسم الخاصة بذلك الاحتفال وهو ما يعرف بالموالد والأعراس.

وذلك أن أرباب القبور يزعمون أن زيارة الولي أو الصالح والاحتفال به هو الدليل الأكبر والشاهد الملموس على أن هذا الولي "صاحب القبر" مازال يعيش في قلوب الناس، يكرمونه ويدعونه، ويلتمسون لديه العون على حل مشاكلهم وأن هذا العمل طاعة وقربة يثاب فاعلها، كما يحصل لهم في هذا الاحتفال اللهو والمجون والفسحة والتسلية بحجة أنه يوم عيد لصاحب القبر.

وإليك مثالاً لتلك الموالد وطريقة إحيائها، وما يفعل فيها وليكن هذا المثال الاحتفال بمولد البدوي 1 الذي يعد من أعظم الأولياء عند زواره والاحتفال به من أكبر المواسم التي تشد إليها الرحال، ليتضح فيه جلياً كيف اتخذ قبره عيداً ووثناً، يعبد من دون الله والعياذ بالله.

وذلك أن مراسم الاحتفال تكون في ساحة المسجد وحوله ويقصده الناس من جميع الجهات فتقدم فيه النذور والقربات وتقام فيه الصلوات، وتعقد المجالس والحلقات، فتزدحم مدينة طنطا بالزائرين بهذه المناسبة، وتضرب

1 هو: أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني أبو العباس البدوي، المتصوف صاحب الشهرة في الديار المصرية وإليه تنسب الطريقة الأحمدية، كما يعرف بأبي اللثامين السطوحي، وأصله من المغرب، ولد سنة (596هـ) ، وطاف البلاد وأقام بمكة والمدينة ودخل مصر، وكانت وفاته بطنطا (675هـ) . انظر: شذرات الذهب (5/345) ، والطبقات للشعراني (1/162) ، والأعلام (1/175) .

ص: 439

الصواني والخيام حول هذا المشهد ويشارك في هذا الاحتفال أصحاب الشعوذة والراقصات والعازفون لعرض أعمالهم على الجماهير الحاضرة. وتقوم الدولة بتنظيم هذا الاحتفال، وحفظ الأمن، والنظام فيصدر تصريح بإقامته من وزارة الأوقاف من كل عام، ويستمر لمدة سبعة أيام.

وإليك وصفاً لهذا الاحتفال وما يقع فيه كما يحكيه محمد فهمي عبد اللطيف حيث قال: إذا ما صدر التصريح بإقامة المولد الأحمدي وأعلن ذلك في كآفة البلاد، توافد الناس من شتى الجهات في الموعد المحدد، فيقيمون الخيام ويضربون السرادقات في ساحة المولد، ويرضى أصحاب العوائد بدفع أي أجر يطلبه منهم المالكون للأرض لإقامة خيامهم عليها، وتقام الخيام والسرادقات الخاصة، بأهل الريف حول ساحة المولد والضواحي المجاورة لها، أما الخيام والسرادقات الخاصة بالحكومة وشيوخ الطرق وأرباب العوائد فإنها تقام في الساحة، وتسمى هذه البقعة بالسحابة

وبالقرب من الساحة تقام سارية خشبية عالية تسمى بالصاري ويقدر متوسط ما يقام من الخيام عادة في هذا المولد بنحو خمسة آلاف خيمة.

وفي اليوم الأول للمولد يطوف مأمور البوليس بطنطا في موكب من الجنود معلناً افتتاح المولد، ويسمى هذا الموكب بركبة الحاكم.

ومن أول ليلة للمولد تقام حلقات الذكر حول الصاري، ويعتبر هذا الصاري جامعة المناكر والمفاسد، وللناس فيه عقائد عجيبة مريبة، فبينما يعتقد بعضهم أن زيارة هذه الخشبة تعادل زيارة السيد البدوي نفسه إذ يعتقد آخرون

ص: 440

أن السيد يجلس فوقها أيام المولد ليشرف على زواره ويتعرف عليهم. ويجزم الكثيرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم يزور هذه الخشبة فجر يوم الاثنين قياماً بواجب السيد البدوي عليه.

ولن يروعك في حياتك أسوأ مما تشهد من هول حول هذا الصاري، إذ يتراكم حوله خليط من الكتل البشرية على حال لا ترضي عاقلاً من العقلاء ولا متديناً بأي دين، فيختلط الرجال بالنساء والكبار بالصغار، ويتحلق حول الصاري كثير من المساليب والحمقى ورواد الفسوق، وكبار العصاة المجرمين المدمنين للحشيش وما إليه من الكيوف، ويسمي العامة هؤلاء بالمجاذيب، ويعتقدون أن لهم عند ربهم ما يشاءون، وينخرط هؤلاء كل ليلة في مجالس الذكر التي يقيمونها حول هذا الصاري وهي أشبه ما تكون بحفلات الرقص الخليع..

وقبل هذا يعمدون حال وصولهم إلى ضريح البدوي، فيطوفون به طواف القدوم على نحو ما يفعل القاصدون لحج بيت الله الحرام ويقولون أن هذه كانت سنة الشيخ عبد العال خليفة السيد، ولهم في هذا الاحتفال بدع شتى 1.

من هذا العرض لصورة الاحتفال بمولد البدوي يتضح لنا كيف اتخذ قبره عيداً ووثناً حيث جعلوا له وقتاً معيناً وموسماً محدداً ينتابونه فيه.

1 انظر: السيد البدوي ودولة الدراويش في مصر لمحمد فهمي عبد اللطيف (131-136) ، وقاموس العادات والتقاليد لأحمد أمين (387-388) .

ص: 441

وهذا الفعل محاكاة لليهود والنصارى باتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، حيث يقصدون العبادة عندها، وهو بعينه ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، فأرباب الموالد لا يقصدون المشاهد والقبور إلا طلباً للبركة أو الاستغاثة أو الدعاء، فيذبحون لها ويطوفون بها ويمرغون الخدود على أعتابها، وهذا الفعل محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مناف لكلمة التوحيد؛ لأن العبادة لا تكون إلا لله عز وجل، ومن صرف نوعاً من أنواعها فقد وقع فيما يناقض "لا إله إلا الله".

وما يفعله أولئك نابع من عقيدة أن الأولياء لهم التأثير في الكون "كما يزعم الصوفية"، وأن الاحتفال بموالد الأولياء والعكوف على قبورهم من الدين وأنه قربة، فالذين لا يحتفلون بالأولياء ولا يزورون قبورهم ولا يقدمون النذور لها محجوبون من رحمة الله وبركته، بل من لم يفعل هذه الموالد قد يسلب منه الإيمان وتصيبه الأمراض والأسقام؛ بسبب امتناعه أو اعتراضه على حد زعمهم.

ولا تظن أن هذا القول تجن على أصحاب الموالد، أو هو من نسج الخيال، بل هذه هي حقيقة تلك الاحتفالات ولنسمع ما يرويه الشعراني 1 في طبقاته معللاً سبب حضوره لمولد سيده البدوي في كل عام، حيث قال: " وسبب حضوري مولده كل سنة أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي 2 رضي

1 هو: عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني أبو محمد من علماء المتصوفين صاحب الطبقات الكبرى، ولد في قلقشند بمصر سنة (898هـ)، وكانت وفاته بالقاهرة سنة (972هـ) . انظر: شذرات الذهب (8/732) ، والأعلام (4/180) .

2 محمد الشناوي شيخ الشعراني، توفي بالقاهرة سنة (932هـ) . انظر: الطبقات الكبرى للشعراني (1/120-122) .

ص: 442

الله عنه أحد أعيان بيته رحمه الله، قد كان أخذ عليّ العهد عند القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه وسلمني إليه بيده فخرجت اليد الشريفة من الضريح، وقبضت على يدي وقال سيدي يكون خاطرك عليه وأجعله تحت نظرك فسمعت سيدي أحمد رضي الله عنه من القبر يقول: نعم ثم أني رأيته بمصر مرة أخرى هو وسيدي عبد العال، وهو يقول: زرناً بطنطا ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك 1.

هذه بعض الأسرار التي جعلت عبد الوهاب الشعراني يهتم بمولد سيده ويمضى أيضاً في تخريفاته وتعليلاته لحضور المولد، ولا تستغرب فهذا حال من استحوذ عليه الشيطان واتبع الهوى، حيث قال:"تخلفت عن ميعاد حضوري للمولد سنة 948، وكان هناك بعض الأولياء، فأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه، كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ويقول أبطأ عبد الوهاب ما جاء"2.

ولم يكتف الشعراني بذلك حتى زعم أن الأحياء والأموات يحضرون الاحتفال بمولد سيده عند ضريحه، بل ويحضره النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والأولياء 3.

وقد استطرد الشعراني في سرد هذا الهراء وهذه الحكايات الخرافية في الدعوة إلى حضور مولد سيده البدوي ولننظر في حال من ينكر المولد،

1 الطبقات الكبرى للشعراني (1/161) .

2انظر: المصدر السابق (1/161) .

3 انظر: المصدر السابق (1/161) .

ص: 443

أو حضوره عند الشعراني حيث قال: أخبرني شيخنا الشيخ محمد الشناوي رضي الله عنه أن شخصاً أنكر حضور مولده فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعره تحن إلى دين الإسلام فاستغاث بسيدي أحمد رضي الله عنه. فقال: بشرط ألا تعود فقال: نعم فرد عليه ثوب إيمانه.

فهذه نتيجة من ينكر مولد البدوي، أو يمتنع عن حضوره كما يزعم الشعراني أما من يحضره فالبدوي يحفظه ويرعاه ويشمله بشفاعته ويغفر خطيئته حيث قال: وعزّة ربي ما عصى أحد في مولدي إلا تاب وحسنت توبته 1.

بمثل هذا الهراء والكذب الصراح انتشر صيت البدوي، وهذا هو أسلوب كآفة الصوفية الدراويش في إثبات كرامات من يزعمون له الولاية وبهذه الدعايات الخرافية الأسطورية استطاعوا أن يجعلوا لمولد البدوي قداسة في النفوس المريضة كأنها قداسة الحج إلى بيت الله الحرام بل أشد.

" ومن الذي لا يتلهف على حضور مولد البدوي بعد أن يعلم أنه كما يزعم الشعراني وأضرابه يكون مجمعاً للنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصالحين من مشارق الأرض ومغاربها ومن وراء البحار والجبال، ومن الذي يجرؤ على أن يتطاول فينكر ما يقع في هذا المولد من المآثم والمناكر أو يجحد النفحات والبركات بعد أن يسمع قصة " السبعين الأسودين " 2. وحكاية: الشوكة التي اعترضت في

1 المصدر السابق (1/162) .

2 المصدر السابق (1/161-162) .

ص: 444

حلق العالم تسعة أشهر " 1. وأسطورة " الفقيه الذي سلب العلم والإيمان " إلى آخر ما يهرف به الشعراني وأمثاله 2

ويتجلى من كلام الشعراني عقيدة تفضيل الولي على النبي، وذلك أن الأنبياء يحجون إلى البدوي في مولده، ولا يستغرب مثل هذا من الصوفية فقد ادعوا ما هو أعظم من ذلك من الألوهية والربوبية.

وبتلك الدعاوى أصبح مئات الألوف من أتباع السيد يرهبون التخلف عن مولده، ويخشون إن هم قصروا في عادة من عاداتهم نحوه، أو أبطأوا في النذور والقرابين أن يبطش بهم حتى استدعى الأمر من بعض الذين لا يملكون الأموال التي تفي بمتطلبات ذلك الاحتفال أن يقترضوا بالربا للقيام بالزيارة وحضور المولد.

فالفقراء يستدينون للإيفاء بتلك النذور والقربات والعمال يكدحون فيضيقون على أنفسهم، مع وجود الحاجة إلى ذلك المال من أجل الإيفاء بلوازمها.

مثل هذا العمل هو الذي أثار مشاعر حافظ إبراهيم حتى قال أبياته المشهورة التي ينتقد فيها تلك الحال:

أحياؤنا لا يرزقون بدرهم

وبألف ألف ترزق الأموات

من لي بحظ النائمين بحضرة

قامت على أرجائها الصلوات

1 المصدر السابق (1/161-162) .

2 انظر: السيد البدوي ودولة الدراويش (124) ، والسيد البدوي بين الخرافة والحقيقة الدكتور / أحمد صبحي منصور (309) .

ص: 445

يسعى الإمام لها ويجري حولها

بحر النذور وتقرأ الآيات

ويقال هذا القطب باب المصطفى

ووسيلة تقضي به الحاجات 1

وبهذا العمل أصبح مشهد البدوي تشد إليه الرحال ويفعل عنده ما يفعل عند المشاعر من أعمال الحج من طواف وذبح وغيره، بل أصبح البعض يطلق عليه الكعبة مضاهاة للبيت الحرام، بل قد يفضله البعض الآخر كما يدل عليه قوله قائلهم:

هو الجوهر المكنون في معدن الرضا

بأسراره حلت شموس الحقيقة

هو الكعبة الفراء إذ الغراء بالتياذه

تحط الخطايا عن أناس وجنة 2

وحتى يقتنع الزوار بأن ضريح البدوي كالكعبة تماماً رصع أرباب الموالد ودعاة الوثنية مقامه بحجر أسود يتمسح ويتبرك به.

وفي ذلك يقول صاحب الجواهر السنية ومن كراماته، أي البدوي أن حجراً أسود مثبتاً في ركن قبته تجاه وجه الداخل من الجهة اليمنى، وفيه موضع قدمين شاع بين الناس وذاع واستفاض وملأ البقاع والأسماع أنه أثر قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من زار الأستاذ يتبرك بمحل القدمين 3.

قلت: فصاروا يتمسحون به كما كانت العرب في الجاهلية تفعل بالأحجار والأوثان والأصنام التي كانوا ينصبونها.

1 ديوان حافظ إبراهيم (318) .

2 البدوي بين الحقيقة والخيال (293) ، نقلاً عن الجواهر السنية لعبد الصمد الأحمدي (119) .

3 المصدر السابق (294) ، نقلاً عن الجواهر السنية للأحمدي (83) .

ص: 446

أما النذور فهي الهدف الأسمى لسدنة الضريح والدعاة إليه سواءً كانت تلك النذور عيناً أو نقداً. وقل أن يخلو ضريح من صندوق للنذور وذلك أن المناسك والمشاعر حوله لا تنتهي إلا بإيداع بعض الأموال فيه.

وعجل البدوي الذي يجهز ويطاف به حول الضريح في موكب معروف ومشهور 1.

وقد بلغت قيمة ما أودع من الحصيلة النقدية في صندوق ضريح البدوي في عام 1984م مليوناً، و 200 ألف جنيه، والنذور العينية في حدود هذا المبلغ، فضلاً على ما يحصل من اختلاس أو تلاعب في الأموال قبل إيداعها 2.

من أجل هذه السيولة المالية جاءت المحافظة على مثل هذه الأضرحة وتلك المشاهد والدعوة إلى أحياء الموالد لها، إضافة إلى ما يزعمون أن فيها رواجاً للتجارة الاقتصاد.

فعلم أن النظرة مادية صرفة من بعض القائمين على هذه الأضرحة وتلك الموالد، ولم يلتفتوا إلى الجانب الديني أو المحافظة على العقيدة السليمة ونبذ

1 انظر: الفتاوى لمحمود شلتوت (238-239) ، والسيد البدوي بين الحقيقة والخرافة (296) ، وقال الدكتور / عبد الواحد في كتابه غرائب النظم والتقاليد والعادات (79) ، وله عجول تسمى عجول السيد تربي بعناية فائقة وينزلها الفلاحون منزلة تقرب من منزلة التقديس، فلا يمسها أحد بأذى حتى ولو أكلت من غير ملك صاحبها، أو تسببت في الأضرار بآدمي، ويحجون بها إلى طنطا عند اقتراب مولد السيد البدوي ليذبحوها أمام ضريحه.

2 انظر: الله توحيد وليس وحده لمحمد الأنور أحمد البلتاجي (303-305) ، نقلاً عن جريدة الأهرام العدد (35819) ، في 14/4/1405هـ الموافق 6 يناير 1985م، والحياة الاجتماعية في الفكر الإسلامي، الدكتور / أحمد شلبي (220) .

ص: 447

الشرك، فضلاً عن علمهم بأن هذه الموالد مبدءة للمفاسد الأخلاقية ومجمع لكل رذيلة، وجلب المصالح للمجتمع كما يزعمون أو لبعض الأفراد لا يبرر مثل هذا العمل المنافي للدين الحنيف والأخلاق المستقيمة، فيتحتم إبطال هذه الموالد وهدم تلك الأضرحة والمشاهد، والقاعدة الشرعية تنص على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

فمما تقدم من هذا العرض لمولد البدوي وما يفعل عند ضريحه يتضح كيف اتخذ وثناً يعبد من دون الله، وأصبح يحج إليه كما يحج إلى الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة، حيث جعلوه متصفاً بصفات المشاعر التي تؤدى فيها أعمال الحج فوصفوه بالكعبة الغراء، وأنه يقصد للزيارة وتقام فيه الشعائر كما تقدم فيه النذور والقربات والتي تكون بمقابل الهدي، وبتلك الدعاوى والصفات اكتسب هذه المشابهة، بل قد يكون أعظم عند أربابه

مما حدا بالسخاوي وهو في القرن التاسع أن يذكر قول الغوغاء 1 " جاء الحجاج السنة لسيدي أحمد من الشام وحلب ومكة.. أكثر من حجاج الحرمين "2.

وما يفعل عند قبر البدوي يفعل عند قبر غيره من الأولياء المزعومين من حيث الطواف، والتمسح بأعتابها، والنذر، وغير ذلك من أمور العبادات التي لا تصرف إلا لله، وقد وقفت على ذلك وليس من رأى كمن سمع، وقلّ أن

1 ضعفاء العقول والجهلة من الناس. انظر: القاموس المحيط (1015) .

2 التبر المسبوك في ذيل السلوك للسخاوي (176) .

ص: 448

تجد بلداً إسلامياً إلا وله أولياءه المزعومون الذين تشد إليهم الرحال ويطاف على مشاهدهم وتقدم إليهم النذور والقربات وتجعل لهم الموالد والأعياد.

" بل إن لغالب الأضرحة مواسم وأعياداً أسبوعية خلاف الموالد تسمى بالحضرة كليلة الثلاثاء ويومه للإمام الحسين رضي الله عنه، وليلة السبت ويومه للإمام الشافعي رحمه الله، وهكذا لكل ولي عندهم وقت معلوم تجتمع فيه العامة والخاصة من الرجال والنساء ومعهم الأطفال لزيارته على الوجه المعروف 1.

والقبور التي أفتتن بها الضلال واتخذوها أعياداً أكثر من أن تحضر 2 وما أوردته هنا ما هو إلا غيض من فيض، والله المستعان.

1 الإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ (185) .

2 للإطلاع على أمثلة من ذلك. انظر: تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم المباركات لأبي حسين نور الدين علي بن أحمد السخاوي الحنفي. ونزهة الأنصار في فضل علم التاريخ والأخبار المشهور بالرحلة الورثيلانية لحسين بن محمد الوريثلاني. ومساجد مصر وأولياؤها الصالحون للدكتورة سعاد ماهر محمد. والتصوف في تهامة لمحمد بن أحمد العقيلي.

ص: 449

‌المبحث الثاني: اتخاذ الآثار أعياداً

والمراد بالآثار مقامات الأنبياء والصالحين وهي: الأمكنة التي قاموا فيها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه، لكنهم لم يتخذوها مساجد. فمن تتبع تلك الآثار وشد إليها الرحال للعبادة فقد اتخذها عيداً.

وذلك أنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصدها للعبادة، كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحوه ذلك 1.

وقد عمت البلوى وطمت ولاسيما في هذا العصر، حيث التشبث بأي أثر يزعم أنه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لأحد الصحابة، أو الصالحين فشدوا الرحال إليها وتبركوا بها وجعلوا لها أعياداً في أوقات معلومة يرتادونها فيه، وذلك مثل ما يفعله بعض الناس من الذهاب إلى غار حراء أو موضع مولده صلى الله عليه وسلم أو غار ثور أو بيعة الرضوان، أو أن يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغيرها التي يقال فيها مقامات للأنبياء أو الصالحين. وهذا الفعل بين البطلان وقد أنكره الصحابة.

1 -

فعن معرور بن سويد قال كنت مع عمر بين مكة والمدينة فصلى بنا الفجر فقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} 2.

1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/742) .

2 سورة الفيل، آية (1) .

ص: 450

و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} 1. ثم رأى أقواماً ينزلون فيصلون في مسجد فسأل عنهم فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من مر بشيء من المساجد فحضرته الصلاة فليصل وإلا فليمض" 2.

فكره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وسلم عيداً وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل ذلك 3.

2 -

أمره رضي الله عنه بقطع شجرة الرضوان 4 لما رأى الناس يذهبون إليها مخافة الفتنة والوقوع في الشرك.

فقد روى ابن سعد بسنده عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها الرضوان، فيصلون عندها، قال: فبلغ عمر بن الخطاب فأوعدهم

1 سورة قريش، آية (1) .

2 مصنف عبد الرزاق، باب ما يقرأ في الصبح في السفر (2/118-119) ، حديث (2734)، وانظر: البدع والنهي عنها لابن وضاح (41-42) ، والحوادث والبدع للطرطوشي (148) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوسل والوسيلة (117) ، صحيح الإسناد. وقال ابن حجر في فتح الباري (1/569) ، أنه ثابت عن عمر رضي الله عنه.

3 اقتضاء الصراط المستقيم (1/744) .

4 هي الشجرة التي حصلت تحتها المبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلح الحديبية وذلك عندما بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولاً لأخبار قريش أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً، فجاء الخبر إليه صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوا عثمان بن عفان فدعي حينئذٍ صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، وهي تقع في الحديبية التي تبعد (22) كيلاً إلى الشمال الغربي من مكة، وتعرف الآن بالشميسي وفيها مسجد الرضوان. انظر: تفسير ابن كثير (4/186) ، وتفسير القرطبي (16/276) ، ومعجم البلدان (2/229) ، ونسب حرب للبلادي (350) .

ص: 451

فيها وأمر بها فقطعت 1. وقد علل ابن وضاح سبب قطع عمر رضي الله عنه لها مخافة الفتنة عليهم 2.

وفي ذلك يقول السفاريني 3: "ولما كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن ناساً يذهبون إلى الشجرة فيصلون تحتها ويتبركون بها فأمر رضي الله عنه بها فقطعت وأخفى مكانها خشية الافتتان بها، ولما وقع تحتها من الخير فلو بقيت لما أمن من تعظيم أهل الجهل لها حتى ربما أفضى بهم جهلهم إلى أن بها قوة نفع وضر كما هو مشاهد من شأن الناس في هذه الأزمان، ومذ أزمان من تعظيم ما هو دونها من الشجر والبقاع 4.

فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله في كتابه عند قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 5.

فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها 6.

1 الطبقات الكبرى لابن سعد (2/100) ، وقال ابن حجر في فتح الباري (7/48) ، إسناده صحيح.

2 البدع والنهي عنها لابن وضاح (42)، وانظر: الحوادث والبدع للطرطوشي (137) .

3 هو: محمد بن أحمد بن سالم السفاريني النابلسي الحنبلي عالم بالحديث والأصول والأدب، ولد سنة (1114هـ) بسفارين من من قرى نابلس، وكانت وفاته فيها سنة (1188هـ) . انظر: تاريخ الجبرتي (1/468) . والأعلام (6/14) .

4 لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/366) .

5 سورة الفتح، آية (18) .

6 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/210) .

ص: 452

3 -

أما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الشأن 1 فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم، من المهاجرين والأنصارأنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون من فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد.

وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات.

فلو كان هذا الفعل عند الصحابة رضي الله عنهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فانهم اعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"2.

وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع. وقول الصحابي إذا خالفه نظيره، ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ 3.

1 أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي قد سلكها اتفاقاً لا قصداً. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/742) .

2 تقدم تخريجه، ص (219) .

3 اقتضاء الصراط المستقيم (2/745ـ748) .

ص: 453

ولم يكن من مذهب السلف تتبع الآثار والإتيان إليها، وفي ذلك يقول ابن وضاح:"كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ماعدا قباء واحداً" أهـ.

وقال أيضاً: "دخل سفيان مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به" 1 أهـ.

فهذا هو مذهب السلف تجاه الآثار؛ لأن تتبعها وشد الرحال للعبادة إليها بدعة في الدين وأحداث فيه ومحاكاة لأهل الكتاب، مما يكون وسيلة إلى الشرك وذريعة إليه.

وما يدعوا إليه البعض في زماننا هذا من الاعتناء بتلك الآثار وتعظيمها خشية أن تندثر ويجهلها الناس ولاسيما في مكة والمدينة. مثل: غار حراء وجبل ثور ودار مولده صلى الله عليه وسلم وبيعة الرضوان وصلح الحديبية وأشباهها؛ وذلك بتعمير ما تهدم منها، والدعوة إلى تعبيد الطرق إليها واتخاذها مزارات ووضع لوحات إرشادية لتعريف الزائرين بها، ويضرب المثل باعتناء دول أوروبا بآثارهم ومشاهدهم.

ويجاب على ذلك بأن هذه الدعوى بينة البطلان لكل من كان عالماً بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه من بعده، وذلك أنهم لم يكونوا يقصدون شيئاً من هذه الأمكنة.

1 والبدع والنهي عنها (43)، وانظر: الحوادث والبدع للطروطشي (137) .

ص: 454

فقد مكث صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، فلم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء، ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر وحج حجة الوداع ومعه جماهير المسلمين، وهو في ذلك كله لا هو ولا أحد من الصحابة يأتي غار حراء، ولا يزوره ولا شيئاً من البقاع التي حول مكة ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات.

كما أنه لم يشرع لأمته زيارة موضع مولده ولا زيارة موضع بيعة العقبة ولا زيارة الغار الذي بجبل ثور ولا غيرها من الآثار. ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعاً ومستحباً يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة، فقد اتبع غير سبيلهم وشرع من الدين ما لم يأذن به الله 1.

فتعظيم هذه الآثار بتلك الوسائل مخالفة صريحة لسلف هذه الأمة كما يترتب عليه مشابهة الكفار في تعظيم آثار أنبيائهم وصالحيهم واتخاذها معابد ومزارات.

فإذا عظمت مثل هذه الآثار المذكورة وعبدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار عظماء الكفار وإنما تزار للتعبد والتقرب إلى

1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/796-798) ، ومجموع الفتاوى له (26/132) و (27/134-150) و (500/501)

ص: 455

الله بذلك، فنكون بهذه الإجراءات قد أحدثنا في الدين ما ليس فيه وشرعنا للناس ما لم يأذن به الله وهذا هو نفس المنكر الذي حذر الله عز وجل منه في قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1. وحذر منه صلى الله عليه وسلم بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2.

وتعظيم الآثار لا يكون بالأبنية والكتابات والتأسي بالكفرة، وإنما يكون باتباع أهلها في أعمالهم المجيدة وأخلاقهم الحميدة وجهادهم الصالح قولاً وعملاً، هكذا كان السلف يعظمون آثار سلفهم الصالح. أما تعظيمها بالأبنية والزخارف ونحو ذلك فهو خلاف هدي السلف الصالح، وإنما ذلك سنة اليهود والنصارى ومن تشبه بهم؛ وبهذا يتبين بطلان تلك الدعوى وما شاكلها وأنها مخالفة للشريعة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وسد ذرائع الشرك والبدع وحسم الوسائل المفضية إليه 3.

وبهذا يتضح لمن أراد الحق أن تتبع الآثار وشد الرحال إليها للعبادة من اتخاذها أعياداً وهو بدعة في الدين، فضلاً عن كونه مشابهة لأهل الكتاب الذين حرفوا دينهم وتلاعبوا به، فحذار أخي المسلم أن تكون أسير التقليد والتشبه بهم فتقع في براثن الشرك والرذيلة، فالدين الإسلامي حرص على أن تظهر

1 سورة الشورى، آية (21) .

2 تقدم تخريجه، ص (220) .

3 انظر: فتاوى ومقالات الشيخ عبد العزيز بن باز (1/395-396،405-412) .

ص: 456

بالمظهر السوي الذي اختاره لك رب العزة والجلال، ولا يكون ذلك إلا بتحقيق ما أمر به واجتناب ما نهى عنه فاحرص على ذلك تنل الكرامة والسعادة.

ومن أعظم من أفتتن باتخاذ الآثار أعياداً وأوثاناً الرافضة ولاسيما الآثار التي يزعمون لآل البيت فوضعوا الأحاديث المكذوبة في ذلك، واختلقوا القصص والأساطير على آل البيت ونسبوها إليهم؛ ترويجاً لبدعتهم، ونشراً لشركهم ورتبوا الثواب الجزيل لمن زارها أو تقرب إليها، كل ذلك لإوراء شهوات نفوسهم وملذاتها.

فمما أوردوه في تفضيل الكوفة ما رواه الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: " مكة حرم الله وحرم رسول الله وحرم أمير المؤمنين عليهم السلام الصلاة فيها بمائة ألف صلاة والدرهم فيها بمائة ألف درهم، والمدينة حرم الله وحرم أمير رسوله وحرم أمير المؤمنين صلوات الله عليهما، الصلاة فيها بعشرة آلاف صلاة والدرهم فيها بعشرة آلاف درهم، والكوفة حرم الله وحرم رسوله وحرم المؤمنين عليهما السلام الصلاة فيها بألف صلاة والدرهم فيها بألف درهم" 1 أهـ.

ولم يكتفوا بذلك بل تطاولوا على الكعبة المسجد الحرام فجعلوا كربلاء أفضل منها. فعليهم من الله ما يستحقون.

كما جاء ذلك عن المفضل في ذكر الكوفة وقيام مهديهم المزعوم فيها، حيث قال له أبو عبد الله على حد زعمه: " يا مفضل إن البقاع تفاخرت ففخرت

1 الفروع من الكافي للكليني، كتاب الحج (4/586) .

ص: 457

كعبة البيت الحرام على بقعة كربلاء فأوحى الله إليها أن أسكتي كعبة البيت الحرام ولا تفتخري على كربلاء فإنها البقعة المباركة التي نودي موسى منها من الشجرة وأنها الربوة التي آوت إليها مريم والمسيح عليهما السلام.. ثم أخذ يسرد الخصائص والفضائل التي تميزت إلى أن قال: وأنها خير بقعة 1.

في ذلك يقول قائلهم:

ومن حديث كربلاء والكعبة

لكربلاء بان علو الرتبة

وغيرها من سائر المشاهد

أمثالها بالنقل ذي الشواهد 2

من هنا جاء حجهم إلى كربلاء والنجف لاعتقادهم انهما أفضل بقاع الأرض، وهذا بعض معتقدهم في الأماكن والآثار وما هو إلاّ مثال من ظلمات بعضها فوق بعض، ومن أطلع على كتبهم أدرك ذلك 3. فالقوم من أكذب الناس وأعظمهم شركاً وأبعدهم عن التوحيد؛ وذلك أن مبنى الشرك والبدع على الكذب والافتراء، والرافضة الكذب دينهم والافتراء ديدنهم 4.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مبنياً حكم من شد الرحال إلى مثل هذه الآثار: فمن سافر إلى بقعة غير بيوت الله التي يشرع السفر إليها ودعا غير الله فقد جعل نسكه وصلاته لغير الله عز وجل، وإذا كان السفر إلى بيوت الله غير

1 الرجعة لأحمد بن زين الدين الأحسائي (185-186) .

2 مفتاح الجنان لعباس القمي (377) .

3 انظر: المصدر السابق (371-660) ، وبحار الأنوار للمجلس (97/102) ، والمجلدات (98-99) .

4 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/751) .

ص: 458

الثلاثة المساجد ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة، بل قد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد، وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها، وتدعى من دون الله 1.

قلت: فكيف بالسفر إلى مثل هذه الآثار التي لم تثبت ولم يعلم صحتها. ومن فعل مثل هذا فقد ابتدع في الإسلام ولم يعرف شريعة الإسلام وما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسد أبواب الشرك.

1 انظر: مجموع الفتاوى (27/360) ، والجواب الباهر في زوار المقابر (36-37) .

ص: 459

‌المبحث الثالث: اتخاذ الأحجار والأشجار ونحوها أعياداً

1.

وذلك مثل أن يقصد شجرة أو حجراً أو بقعة ويخصها بالعبادة وهي لا فضل لها في الشريعة أصلاً ولا فيه ما يوجب تفضيلها، بل هي كسائر الأمكنة أو دونها.

فقصد تلك الأمكنة أو قصد الاجتماع عندها لصلاة أو دعاء أو ذكر ونحوه ضلال بين البطلان 2.

وذلك أنه نظير ما كان يتخذه المشركون من الأصنام والأوثان التي كانوا يقصدونها للتقرب إلى الله عندها، حيث كان لكل قوم صنم أو وثن أو تمثال في بقعة معينة يقصدونه ويخصونه بالزيارة في مواسم معينة من السنة كما ذكر الله ذلك في كتابه حيث قال:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 3.

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " يقول الله مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان واتخاذهم لها بيوتاً مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام 4.

1 إن اتخاذ مثل ذلك أعياداً شرك أكبر وذلك أن الأعياد المحدثة تتفاوت في حكمها فمنها البدعي ومنها الشركي كهذه.

2 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/642) .

3 سورة النجم، آيات (19-22) .

4 تفسير ابن كثير (4/253) .

ص: 460

فكانت هذه الأصنام اللات والعزى ومناة أشهر الطواغيت عند العرب، حيث اتخذوها أعياداً يقصدونها في وقت محدد من العام. وقد نهينا عن مشابهة الكفار كيف والعيد من أهم خصائص الدين؟.

ومن اتخذ شيئاً في ذلك فقد اتخذ له ذات أنواط لما جاء في الحديث عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1. لتركبن سنن من كان قبلكم} 2.

وذات أنواط كما ذكر الأزرقي 3 شجرة عظيمة يعظمها أهل الجاهلية ويذبحون لها ويعكفون عندها يوماً وكان من حج منهم وضع زاده عندها ويدخل بغير زاد تعظيماً لها 4.

1 سورة الأعراف، آية (138) .

2 سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم (4/475) ، حديث (2180)، وقال: حديث حسن صحيح. ومسند الإمام أحمد (5/218) ، والمصنف لعبد الرزاق، باب سنن من كان قبلكم (11/369) ، حديث (20763) ، والسنة لأبي عاصم بتحقيق الألباني (1/37) ، حديث (76)، وقال الألباني: إسناده حسن.

3 محمد بن عبد الله بن أحمد محمد بن الوليد بن عقبة، أبي الوليد الأزرقي مؤرخ يماني الأصل، توفي سنة (250هـ) . انظر: الفهرست لابن النديم (162) ، والأعلام (6/222) .

4 أخبار مكة للأزوقي (1/130)، وانظر: تفسير القرطبي (7/73) ، ومعجم البلدان لياقوت (1/273)، وقال: إنها قريبة من مكة.

ص: 461

فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو الشرك بعينه 1.

وفي ذلك يقول الطرطوشي: انظروا - رحمكم الله تعالى - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها 2.

وقال الحافظ أبو شامة: عند ذكره للبدع: ومنها ما قد عم به البلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحد ممن اشتهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائص الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي بين عيون وشجر وحائط 3.

وبهذا يتضح أن الاعتقاد بمثل هذه الأشياء من الأنصاب التي هي من عمل الشيطان وقد أمر الله سبحانه وتعالى باجتناب ذلك وعلق الفلاح بهذا الاجتناب. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ

1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/644) ، وإغاثة اللهفان لابن القيم (1/205) .

2 الحوادث والبدع للطرطوشي (33) .

3 الباعث على إنكار البدع لأبي شامة (25-26)، وانظر: الأمر بالاتباع للسيوطي (53) .

ص: 462

وَالْمَيْسِرُ1 وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ2 رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3

قال ابن القيم: فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين من شجرة أو عمود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك.

والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته 4 "5.

فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواءً كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية، أو جبلاً أو مغارة، وسواءً قصدها ليصلي عندها أو ليدعوا عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسك عندها بحيث

1 هو: القمار واللعب بالقداح. انظر: النهاية لابن الأثير (5/296) ، والقاموس المحيط (643) .

2 القداح التي كانت في الجاهلية عليها مكتوب الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له، فإذا أراد سفراً أو أمراً مهماً أدخل يده وأخرج منها زلماً فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف عنه ولم يفعله. انظر: النهاية لابن الأثير (2/311) .

3 سورة المائدة، آية (90) .

4 صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر (2/666) ، حديث (969) .

5 إغاثة اللهفان لابن القيم (1/209) .

ص: 463

يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عيناً ولا نوعاً 1.

وذلك أن التفضيل، والتخصيص من حكم الشارع ولا يجوز التعبد إلا بما جاء به الشرع فمن خصص مكاناً للتعبد عنده فقد اتخذه عيداً وخالف شريعة سيد المرسلين التي جاءت بإخلاص العبادة لله وحده ونبذ الشرك ومظاهرة، وما يكون وسيلة إليه.

1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/644) .

ص: 464

‌المبحث الرابع: المفاسد الناتجة عن تلك الأعياد

إن للأعياد المكانية المحدثة الأثر السيئ على الأمة الإسلامية لاشتمالها على مفاسد عظيمة تسخط الرب وتحبط العمل من صرف أنواع العبادة لغير الله ذلك الفعل الذي يندى له الجبين ويغضب لأجله كل من في قبله ذرة إيمان، وغيرة على التوحيد، وذم وتقبيح للشرك وأهله، حيث نفت تلك الأعياد توحيد العبادة الذي من أجله خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب.

ومع كون أرباب تلك الأعياد وقعوا في أعظم ذنب عصي الله به وهو الشرك نجدهم قد وقعوا في سفاف الرذائل من انحلال الأخلاق ونبذ المكارم والمحاسن، كل ذلك حصل بفساد العقيدة؛ لأن بفسادها تفسد الأخلاق، وقمة الأخلاق تتمثل في التطبيق الحق للإسلام وأوله إصلاح العقيدة فبصلاحها يصلح الفرد والمجتمع وبفسادها يقع الانحلال والاختلال، وبما أن أصحاب هذه الأمكنة شرعوا طبق أهوائهم أعياداً ومواسم يحتفلون بها فأطلقوا العنان لأنفسهم في تلك المواسم فوقعوا في الإثم والفجور والمفاسد العظيمة التي أجملها فيما يلي:

1 -

الصلاة إليها سواءً كانت قبوراً أو شجاراً، أو آثاراً والطواف بها وتقبيلها واعتقاد النفع والضر فيها وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم والتي لا تطلب إلا من رب العالمين عز وجل.

2 -

الافتتان بها والسفر إليها.

ص: 465

3 -

مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد وتتبع آثارهم.

4 -

محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومناقضة ما شرعه في هذه الأمكنة.

5 -

تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله حتى قلت أهمية الكعبة البيت الحرام والمشاعر المقدسة عند أرباب القبور والآثار.

6 -

عمارتها وجعل القباب والمشاهد عليها وتعطيل المساجد وعدم توقيرها.

7 -

إماتة السنن وإحياء البدع 1.

8 -

إنفاق الأموال في النذور والقربات على تلك الأمكنة مع وجود الفقر والحاجة.

9 -

اجتماع الرجال والنساء واختلاطهم وما ينتج عن ذلك من وجود الفجور وفعل الفاحشة، كما حكى ذلك المقريزي في ذكر الاحتفال بمولد إسماعيل بن يوسف الأنبابي 2 عند ضريحة. فقال: كان فيه من المفاسد ما لا يوصف ووجد في المزارع مائة وخمسون جرة فارغة من جرار الخمر التي شربت في الخيم سوى ما حكي عن الزنا واللياطة 3.

1 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/194-198) .

2 هو: إسماعيل بن يوسف بن محمد الأنبابي كان أبوه صاحب الزاوية بامبابه على الطريقة السطحوية، توفي سنة (790هـ) . انظر: أنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر (2/297) .

3 السلوك لمعرفة الملوك للمقريزي (3/576)، وانظر: نزهة النفوس والأبدان للصيرفي (1/169) .

ص: 466

وقال الجبرتي 1: عند ترجمة عبد الوهاب العفيفي: 2 ثم انهم ابتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة يدعون إليه الناس.. فيملؤون الصحراء والبستان فيطأون القبور ويؤقدون النيران ويصبون عليها القاذورات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون 3.

فهذه بعض الآثار ولا ذنب أعظم ولا مفسدة أقبح مما يفعل في تلك الأعياد شرك وشرب خمر وزنا ولواط، كبائر اجتمعت ومفاسد انتشرت وعقول عطلت، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل، وزعموا أن كل ذلك مغفور ببركة المكان أو صاحب ذلك القبر.

فالشيطان هو الذي زين لهم ذلك العمل وأملى عليهم تلك التأويلات والتعليلات للخروج من هذه المآثم بالمغفرة والثواب على حد قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} 4. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 5. عن الحق واتباعه فشرعوا لأنفسهم ما وافق الهوى مما أوقعهم في ذلك.

1 هو: عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، مؤرخ مصر، ومدون وقائعها وسير رجالها في عصره، ولد سنة في القاهرة سنة (1167هـ) وكانت وفاته فيها (1237هـ) . انظر: الاعلام (3/304) .

2 هو: عبد الوهاب بن عبد السلام بن أحمد بن حجازي العفيفي المالكي البرهاني، توفي سنة (1172هـ) . انظر: تاريخ الجبرتي (1/302-303) .

3 المصدر السابق (1/304) .

4 سورة محمد، آية (25) .

5 سورة محمد، آية (23) .

ص: 467

وهذا الفعل لا يصدر إلا ممن أخذ شبهاً من اليهود أو النصارى من أهل البدع والشرك، فكانوا أبعد الناس عن توحيد الله، فبئس هذا الاعتقاد وذاك المسلك.

قال ابن القيم رحمه الله: ومن له خبرة بما بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد ما بين المشرق والمغرب وانهم على شيء والسلف على شيء 1.

فيا أرباب الموالد والأعياد مكانية كانت أو زمانية ألا يسعكم ما وسع أفضل خلق الله سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة فثوبوا إلى رشدكم وتوبوا إلى بارئكم وانظروا إلى ما فيه نفعكم في الدنيا والآخرة فلا نجاة إلا باتباع شرعه صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه والإخلاص والمتابعة في القول والاعتقاد والعمل، وما هذه النكبات التي تحيط بالمسلمين إلا نتيجة حتمية للابتعاد عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا رفعة ولا عزة إلا بالتمسك بهما. والله المستعان.

1 إغاثة اللفهان، (1/205) ، وهذا في عصره رحمه الله القرن السادس، فما بالكم في هذا العصر !! .

ص: 468

الخاتمة

هذا وبعد أن منّ الله على بإتمام هذا البحث فإني أختمه بأهم النتائج التي توصلت إليها وهي كما يلي:

1 -

إن العيد اسم يطلق على كل اجتماع يحدثه الناس أو يعتادونه في زمان معين، أو مكان معين أو هما معاً، سواءً كان ذلك في الأسبوع أو الشهر أو السنة.

2 -

إن الأعياد من أهم الخصائص التي تتميز بها الديانات ولكل ديانة أعيادها وأفراحها النابعة من أصل الاعتقاد فيها.

3 -

إن أعياد الكفار لا تثبت على حال لا من ناحية العدد والوقت ولا من ناحية الاحتفال بها فهي باطلة وقصورها واضح بيّن، حيث إن قوامها اللهو وإطلاق العنان للشهوة بما يتنافى مع الفضائل والأخلاق، ويعارض الفطر السليمة.

4 -

إن احتفال بعض المسلمين بعيد ميلاد المسيح أو النيروز أو شم النسيم أو عيد الأم، ونحو هذه الأعياد تشبه بأهل الكتاب ومن تشبه بقوم فهو منهم.

5 -

وجوب مخالفة الكفار في عاداتهم وأعيادهم، وما هو من خصائصهم.

6 -

إن في الله شرع للمسلمين من الأعياد الزمانية والمكانية، ما يغنيهم والتي اشتملت على خيري الدنيا والآخرة.

ص: 469

7 -

إن الأعياد الشرعية اتصفت بالشمولية والاستقرار والثبات في كلّ، فهي ثابتة في العدد والتسمية كما أنها ثابتة في الوقت وكيفية الاحتفال بها.

8 -

انه لا بدعة حسنة، وأن البدعة كل ما خالف السنة، فلا محمود فيها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

9 -

إن البدع تتفاوت في أحكامها فمنها ما هو كفر ومنها ما هو دون ذلك

10 -

وقوع بعض البدع والمخالفات من بعض المسلمين في الاحتفال بالأعياد الشرعية مما قلل من أهدافها.

11 -

ابتداع بعض المسلمين للأعياد الزمانية والمكانية على غرار أعياد الكفار، وهي ما تعرف بالذكريات، وكان أول من ابتدعها واشتهر بها فيما اطلعت عليه الفاطميون وذلك في أواخر القرن الرابع الهجري والذي أستطيع أن أقول إن العصر الفاطمي كان قاموساً للأعياد والمواسم المبتدعة وغيرها من أعياد الكفار.

12 -

بدعية اتخاذ يوم عاشوراء مأتماً أو عيداً.

13 -

إن أول من ابتدع الاحتفال بالمولد النبوي وسائر الموالد الأخرى الفاطميون

14 -

بدعية صلاة الرغائب التي تكون في ليلة أول جمعة من رجب وأنها أول ما أحدثت بعد سنة 480هـ.

15 -

بدعية الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج والتي يزعمون أنها في السابع والعشرين من رجب.

ص: 470

16 -

بدعية الاحتفال بليلة النصف من شعبان.

17 -

بدعية الاحتفال بليلة القدر والذي يكون في السابع والعشرين من رمضان.

18 -

بدعية الاحتفال بعيد الأبرار في الثامن من شوال.

19 -

بدعية الاحتفال بغدير خم الذي يعد أهم الأعياد عند الرافضة والذي يزعمون أن فيه حصلت الإمامة والوصية لعلي رضي الله عنه.

20 -

بدعية احتفال الرافضة بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي يتضح فيه معتقد الرافضة تجاه صحابة الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

21 -

إن من أعظم الفتن في هذا العصر اتخاذ القبور والآثار أعياداً وتعظيمها وتفضيلها على الكعبة والمشاعر المقدسة.

22 -

أن الأعياد الزمانية والمكانية المبتدعة كان لها الأثر السيئ على المسلمين، حيث يقع فيها من الشرك والمفاسد الكثيرة ما الله به عليم، فضلاً عن عدم الاهتمام بالأعياد الشرعية، بل قد يفضل البعض تلك الأعياد عليها.

هذا وأسأل الله أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم وأن يوفقني لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقني حسن الاعتقاد في القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 471