المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابع: الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها: - الأعياد وأثرها على المسلمين

[سليمان بن سالم السحيمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: أعياد الكفار والعرب في الجاهلية

- ‌الفصل الأول: أعياد اليهود وعاداتهم فيها

- ‌الفصل الثاني: أعياد النصارى وعاداتهم فيها

- ‌الفصل الرابع: أعياد العرب في الجاهلية وعاداتهم فيها

- ‌المبحث الأول: الدين السائد عند العرب في الجاهلية

- ‌المبحث الثاني: الأعياد المكانية عند العرب في الجاهلية

- ‌المبحث الثالث: الأعياد الزمانية عند العرب في الجاهلية

- ‌الباب الثاني: مشروعية مخالفة الكفار

- ‌الفصل الأول: النهي عن مشابهة الكفار

- ‌المبحث الأول: تعريف التشبه في اللغة والاصطلاح

- ‌المبحث الثاني: أدلة تحريم التشبه بالكفار

- ‌المبحث الثالث: أخباره صلى الله عليه وسلم بوقوع المشابهة في أمته

- ‌المبحث الرابع: أثر مشابهة الكفار

- ‌الفصل الثاني: مشابهة الكفار في أعيادهم

- ‌المبحث الأول: الأدلة على تحريم مشابهة الكفار في أعيادهم

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لوقوع المشابهة في أعياد الكفار

- ‌المبحث الثالث: أثر مشابهة الكفار في أعيادهم

- ‌الباب الثالث: الأعياد المشروعة وآثارها الحميدة

- ‌الفصل الأول: تحديد الأعياد الشرعية

- ‌المبحث الأول: الأعياد الزمانية الشرعية

- ‌المطلب الأول: عيد الفطر والأضحى

- ‌المطلب الثاني الأدلة على أن أيام التشريق وعرفة أيام عيد

- ‌المطلب الثالث: يوم الجمعة

- ‌المبحث الثاني: الأعياد المكانية الشرعية

- ‌الفصل الثاني: بيان أن الله تعالى أغنى المسلمين بأعيادهم الشرعية

- ‌المبحث الأول: ارتباط الأعياد الشرعية بالفرائض الدينية

- ‌المبحث الثاني: اشتمالها على تغذية الروح والبدن

- ‌المبحث الثالث: أثر الأعياد الشرعية في التكافل الاجتماعي

- ‌المبحث الرابع: مقارنة بين الأعياد الشرعية والأعياد الأخرى

- ‌الباب الرابع: الأعياد والمواسم المبتدعة وأثرها السيء

- ‌الفصل الأول: في البدعة

- ‌المبحث الأول: تعريف البدعة في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف البدعة في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث: أسباب انتشار البدعة

- ‌المبحث الرابع: أحكام البدع

-

- ‌الفصل الثاني: بعض البدع والمخالفات التي وقعت في الأعياد الشرعية

- ‌المبحث الأول: بدع ومخالفات في عيدي الفطر والأضحى

- ‌المبحث الثاني: البدع والمخالفات في الجمعة

-

- ‌الفصل الثالث: الأعياد الزمانية المبتدعة

- ‌المبحث الأول: يوم عاشوراء

- ‌المطلب الأول: اتخاذ عاشوراء مأتما

- ‌المطلب الثاني: ـ اتخاذ عاشوراء عيداً:

- ‌المطلب الثالث: ـ السنة في يوم عاشوراء:

- ‌المبحث الثاني: الاحتفال بمولد النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: نشأته وأول من أحدثه في الإسلام:

- ‌المطلب الثاني: صور الاحتفال بالمولد:

- ‌المطلب الثالث: المنكرات التي تحصل في المولد:

- ‌المطلب الرابع: الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها:

- ‌المطلب الخامس: دعوى أن ترك الاحتفال بالمولد ينافي محبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌المطلب السادس: حكم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثالث: صلاة الرغائب

- ‌المطلب الأول: متى أحدثت وصفتها:

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بدعتها

- ‌المبحث الرابع: الاحتفال بالإسراء والمعراج

- ‌المطلب الأول: تاريخ الإسراء والمعراج:

- ‌المطلب الثاني: صفة الاحتفال:

- ‌المطلب الثالث: الأدلة على بدعيتها:

- ‌المبحث الخامس: الاحتفال بليلة النصف من شعبان

- ‌المطلب الأول: أقوال العلماء في ذلك:

- ‌المطلب الثاني: الصلاة الألفية في ليلة النصف من شعبان:

- ‌المبحث السادس: الاحتفال بليلة القدر

- ‌المطلب الأول: فة الاحتفال بها:

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بدعيته:

- ‌المبحث السابع: الاحتفال بعيد الأبرار

- ‌المبحث الثامن: الاحتفال بالهجرة

- ‌المطلب الأول: صفة الاحتفال به

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بدعيته:

- ‌الميحث التاسع: الاحتفال بعيد الغدير

- ‌المطلب الأول: متى احتفل به

- ‌المطلب الثاني: منزلته عند الرافضة والأدلة على ذلك:

- ‌المطلب الثالث: مظاهر الاحتفال به:

- ‌المطلب الرابع: الأد على بدعته

- ‌المبحث العاشر: الاحتفال بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المطلب الأول: منزلته عند الراف1ضة وصورة الاحتفال به

- ‌المطلب الثاني: الأدلة على بطلان هذا العيد:

-

- ‌الفصل الرابع: الأعياد المكانية المبتدعة

- ‌المبحث الأول: اتخاذ القبور أعيادا

- ‌المطلب الأول: زيارة القبور

- ‌المطلب الثاني: النهي عن اتخاذ القبور أعياداً:

- ‌المطلب الثالث: أمثلة لاتخاذ القبور أعياداً:

- ‌المبحث الثاني: اتخاذ الآثار أعياداً

- ‌المبحث الثالث: اتخاذ الأحجار والأشجار ونحوها أعياداً

- ‌المبحث الرابع: المفاسد الناتجة عن تلك الأعياد

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الرابع: الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها:

‌المطلب الرابع: الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها:

لم تكن هناك أدلة صحيحة تشير إلى الاحتفال بالمولد النبوي وجوازه، ولكن من قال بالاحتفال به اعتمدوا على شبة ظنوا وزعموا أنها تشير وتدعو إلى الاحتفال بهذه البدعة وانطلت على كثير من الناس لا سيما العوام منهم، وسنعرض أهم الشبه التي اعتمد عليها أولئك، ثم نبين بطلانها، وأنه لا دليل فيها على هذا العمل وذلك بعد عرضها على كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال سلف هذه الأمة، وإليك بيان ذلك:

- الشبهة الأولى:

ما حكاه السيوطي عن ابن حجر أنه استخرج أصلاً فقال: قد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك فقد اشتملت على محاسن وضدها. فمن تحرى في عملها المحاسن، وتجنب ضدها، كان بدعة حسنة، وإلا فلا.

قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجا موسى، فنحن نصومه شكراً لله تعالى"1.

1 تقدم تخريجه، ص (278)

ص: 308

فيستفاد منه فعل الشكر لله تعالى على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو نبي الرحمة في ذلك اليوم.

وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه، حتى يطابق قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء.

ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم في الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله 1.

ويجاب على هذه الشبهة بما يلي:

أولاً: أن ابن حجر رحمه الله صرح في أول كلامه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، وهذه الجملة من كلام ابن حجر كافية في ذم المولد، إذ لو كان خيراً لسبق إليه الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم 2 فهم خير الناس وأولى الناس باتباعه صلى الله عليه وسلم فكيف يعزب عنهم ذلك؟!

ثانياً: أن تخريج ابن حجر عمل المولد على حديث صوم عاشوراء لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه أول تلك الفتوى بأن ذلك العمل بدعة لم تنقل عن أحد

1 حسن المقصد (63-64)، وانظر: شرح المواهبة اللدنية للزرقاني (1/140)، وانظر: حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لمحمد علوي المالكي (8) .

2 الرد القوى لمحمود عبد الله التويجري (30) .

ص: 309

من السلف الصالح من القرون الثلاثة، فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً؛ إذ لو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف ويفهمه من بعدهم كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه؛ إذ لو كان دليلاً عليه لعمل به السلف الصالح.

فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي - مادام الأمر كذلك - من حديث صوم يوم عاشوراء، أو من نص آخر مخالف لما أجمع عليه السلف من ناحية العمل به وما خالف إجماعهم فهو خطا لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى1. فهم أوْلى الناس وأحرص الناس على اتباعه صلى الله عليه وسلم والهدى فيما كانوا عليه 2.

ثالثاً: أن تخريج المولد على صيام يوم عاشوراء من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين:

أحدهما: أن نعبد الله وحده ولا شريك له.

والثاني: أن نعبده بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع.

1 القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم لإسماعيل الأنصاري (78) .

2 انظر: تفصيل القول في أن الهدى ما كان عليه الصحابة والتابعون. الموافقات للشاطبي (3/41-42) ، وإعلام الموقعين لابن القيم (2/389-392) .

ص: 310

قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 1.

فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب أو مستحب ولا يعبد الله بالأمور المبتدعة 2. فلا يسع المسلم إلا الاتباع.

رابعاً: أن صيام يوم عاشوراء قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ورغبه فيه 3، بخلاف اتخاذ يوم مولده عيداً، فإنه لم يفعله ولم يرغب فيه ولو كان في الاحتفال بالمولد واتخاذه عيداً أدنى شيء من الفضل لبيّنه صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأنه ما من خير إلا ودلهم عليه ورغبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنها وحذرهم منها 4. فبهذا يتبين بطلان هذه الشبهة والتخريج المتكلف المردود.

- الشبهة الثانية:

قال السيوطي بعد ما نقل كلام ابن حجر وظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي، عن أنس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة "5.

1 سورة الجاثية، آية (18-19) .

2 مجموع الفتاوى (1/80) .

3 انظر: السنة في يوم عاشوراء، ص (252) ، من هذا البحث.

4 الرد القوى (32)، وانظر: الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لأبي بكر الجزائري، ص (43) .

5 السنن الكبرى للبيهقي كتاب الضحايا (9/300)، وقال: قال عبد الرزاق، انما تركوا عبد الله بن محرز لحال هذا الحديث. وانظر: ميزان الاعتدال (2/500) ، ومصنف عبد الرزاق كتاب العقيقة (4/329) ، حديث (7960) .

ص: 311

مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله تعالى إياه، رحمة للعالمين، وتشريفاً لأمته كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده باجتماع الإخوان، وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات 1.

- الجواب على هذه الشبهة:

إن هذه الشبهة ساقطة ومردودة؛ وذلك لعدم ثبوت هذا الحديث. قال الإمام أحمد عنه: بأنه منكر 2. وقال النووي: حديث باطل 3. وقال ابن حجر: لا يثبت 4.

- الشبهة الثالثة:

ما نقله السيوطي عن الحافظ شمس الدين الجزري 5 وأنه قال في كتابه المسمى "عرف التعريف بالمولد الشريف " ما نصه: وقد رُؤى أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة

1 حسن المقصد في عمل المولد للسيوطي (64-65) .

2 انظر: تحفة المودود لابن القيم (51) .

3 المجموع للنووي (8/330) .

4 فتح الباري (9/595) ، والتلخيص الحبير (4/147) .

5 هو: محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف أبو الخير شمس الدين الدمشقي الشهير بالجزري، فقيه شافعي من حفاظ الحديث، ولد سنة (751هـ-) وكانت وفاته (833هـ) . انظر: شذرات الذهب (7/204-206) ، والأعلام للزركلي (7/45) .

ص: 312

اثنين، وأمص من بين إصبعي هاتين ماء بقدر هذا، وأشار برأس إصبعه وان ذلك بإعتاقى لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له

فإذا كان أبو لهب الكافر، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم.

ولعمري إنما يكون جزاؤه من المولى الكريم، أن يدخله بفضله جنات النعيم.

وفي ذلك يقول الحافظ شمس الدين بن ناصر الدمشقي 1. وقد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سروراً بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشد:

إذا كان هذا كافراً جاء ذمه

وتبت يداه في الجحيم مخلداً

أتى أنه يوم الاثنين دائماً

يخفف عنه السرور بأحمدا

فما الظن بالعيد الذي طول عمره

بأحمد مسروراً ومات موحداً 2؟

- الجواب على هذه الشبهة من وجوه:

أولاً: أن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به، كما جاء ذلك في

1 هو: محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن محمد بن أحمد القيسي الدمشقي، المعروف بالحافظ ابن ناصر الدمشقي فقيه شافعي مؤرخ، ولد سنة (777هـ)، وكانت وفاته (842هـ) . انظر: ذيل تذكرة الحفاظ (317-325) ، وشذرات الذهب (7/243-344) .

2 حسن المقصد للسيوطي (65-66)، وانظر: حول الاحتفال بالمولد لمحمد علوي المالكي (5-6) ، وعلموا أولادكم محبة رسول الله لمحمد عبده يماني، ص (97) .

ص: 313

فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرحيبه 1. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة 2. وعلى تقدير أنه موصول، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه 3.

ثانياً: أنه لم يصح أن ثويبة أعتقها أبو لهب عند ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان إعتاقها قبل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بزمن طويل كما هو ثابت في كتب التاريخ والسير.

قال ابن سعد 4: بسنده " كانت ثويبة مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها لها فامتنع، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها أبو لهب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وبكسوة حتى جاء الخبر أنها ماتت سنة سبع مرجعه من خيبر 5.

ثالثاً: دلت النصوص الصريحة من كتاب الله عز وجل على أن أعمال الكفار حابطة كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 6.

1 الحيبة: بسكر الحاء المهملة وفتح الباء أي بشر حال، والحيبة والحوبة الهم والحزن. انظر: النهاية لابن الأثير (1/466) . 2 صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب النكاح (9/140) ، حديث (5101) .

3 فتح الباري لابن حجر (9/145) .

4 هو: محمد بن سعد بن منيع الزهري مولاهم، مؤرخ من حفاظ الحديث، ولد في البصرة سنة (168هـ) ، وتوفي في بغداد سنة (230هـ) . تهذيب التهذيب (9/182) ، وتذكرة الحافظ (2/425) .

5 الطبقات لابن سعد (1/108-109)، وانظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (4/258) ، وفتح الباري (9/145) ، والوفاء بأحوال المصطفى لابن الجوزي (1/178-179) .

6 سورة الفرقان، آية (23) .

ص: 314

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} 1.

وأبو لهب يدخل تحت هذه الآيات ضمناً فلا ينتفع بإعتاق ثويبة؛ لأن أعماله كلها حابطة 2.

رابعاً: أن نصوص القرآن دالة على أن العذاب لا يخفف عن الكفار 3. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} 4.

وأبو لهب ممن تنطبق عليه هذه الآية لشدة كفره وعداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذيته له.

كيف لا وقد جاء النص الصريح بذلك كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} 5.

1 سورة إبراهيم، آية (18) .

2 انظر: الرد القوي لحمود التويجري (58-59) .

3 وقد جاء في السنة تخفيف العذاب عن أبي طالب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خاص به، انظر: صحيح البخاري مع الفتح (11/417) كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار حديث (6564) . وصحيح مسلم (1/90-91) ، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، حديث (209) .

4 سورة فاطر، آية (36) .

5 سورة المسد، آية (1-3) .

ص: 315

خامساً: أما أبيات الحافظ الدمشقي. فنحن ندعو للحافظ الدمشقي بالرحمة والمغفرة، ونؤكد معه قوله الصادق:

فما الظن بالعبد الذي طول عمره

بأحمد مسروراً ومات موحداً

فهو رحمه الله يرجو ثواب ربه، بسروره برسول صلى الله عليه وسلم، طول عمره لا أنه يرتجي ثواب سروره بالرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة بعد ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة! ثم إنه رحمه الله يربط رجاء الثواب بموته موحداً الله تعالى بما هو أهله وبما يستحقه من العبادة والتعظيم.. 1.

وبهذا يتبين أنه لا دليل لهم بهذه الشبهة، وأنه لم يثبت أن أبا لهب فرح بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا أنه أعتق ثويبة حال ولادته صلى الله عليه وسلم، بل كان من أشد الأعداء للرسول صلى الله عليه وسلم فتلك دعوى لا برهان عليها.

- الشبهة الرابعة:

أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه، وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود؛ إذ سعد به كل موجود وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين. فقال:"فيه ولدت وفيه أنزل عليّ"2.

وهذا معنى الاحتفال به، والمعنى موجود سواءً كان ذلك بصيام، أم إطعام طعام، أو اجتماع على ذكر، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسماع شمائله الشريفة3.

1 حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالته لعبد الله بن سليمان بن منيع (47) .

2 صحيح مسلم كتاب الصيام (2/820) ، حديث (1160) .

3 حول الاحتفال بالمولد لمحمد علوي المالكي (7) . وانظر: علموا أولادكم محبة رسول الله، د. محمد عبده يماني (98) ، وللعقلاء فقط (160) ، ونفخ الأزهار في مولد المختار لعلي الجندي (181) ، والسنة والبدعة لعبد الله محفوظ محمد الحداد الحضرمي (106) .

ص: 316

- الرد على هذه الشبهة من وجوه:

أولاً: أنه إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول ربه وهو الصوم، وعليه فلنصم كما صام غير أن أرباب الموالد لا يصومونه؛ لأن الصيام فيه مقاومة للنفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب، وهم يريدون ذلك، فتعارض الغرضان، فآثروا ما يحبون على ما يحب الله وهي زلة عند ذوي البصائر والنهي 1.

ويوضح ذلك أن بعض أرباب الموالد نص على كراهة صوم يوم الاثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول بحجة أنه عيد من أعياد المسلمين.

وقد نقل ذلك الحطاب 2 حيث قال: " قال الشيخ زروق 3: في شرح القرطبية صيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح علمه وورعه، وقال: إنه من أعياد المسلمين فينبغي أن لا يصام فيه "4.

وجاء في حاشية الدردير " تنبيه: ومن جملة الصيام المكروه كما قال بعضهم: صوم يوم المولد المحمدي إلحاقا له بالأعياد "5.

1 انظر: الإنصاف لأبي بكر الجزائري (44) ، بتصرف.

2 هو: محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني أبو عبد الله، المعروف بالحطاب، فقيه مالكي من علماء المتصوفين، ولد سنة (902هـ)، وكانت وفاته سنة (954هـ) . انظر: الأعلام (7/58) .

3 هو: أحمد بن أحمد بن محمد عيسى البرنسي الفاسي أبو العباس زروق، فقيه محدث صوفي، وولد سنة (846هـ)، وكان وفاته سنة (899هـ) . انظر: شذرات الذهب (7/363) ، والأعلام (1/91) .

4 مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لأبي عبد الله المغربي، المعروف بالحطاب (2/405) .

5 شرح الدردير لمختصر خليل مع حاشية الدسوقي (1/518)، وانظر أيضاً: الخرشي على مختصر سيدي خليل (1/241) ، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/232) .

ص: 317

وهذا نص في مخالفته صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين ورغب فيه.

وأولئك تعمدوا مخالفته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يتبين بطلان دعوى محبته؛ إذ المحبة في المتابعة لا في الإدعاء.

ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح أنه كذلك.

وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات أو أكثر، وبناءً على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكاً على الشارع وتصحيحاً لعمله وما أقبح هذا إن كان - والعياذ بالله - 1.

ثالثاً: أن صيام يوم الاثنين له خصوصية أخرى، إضافة إلى ما ذكر في الحديث الذي استندوا إليه وذلك أنه يوم تعرض فيه الأعمال، كما تعرض في يوم الخميس، فندب النبي صلى الله عليه وسلم صومه.

كما جاء عن أبي هريرة الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"2.

1 الإنصاف فيما قيل في المولد للجزائري (44) .

2 سنن الترمذي، كتاب الصيام، باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس (3/122) ، حديث (447) ، واللفظ له، وقال: حديث حسن غريب، سنن النسائي، كتاب الصيام، باب صوم الاثنين الخميس (4/201ـ202) ، وسنن أبي داود كتاب الصوم، باب صوم الاثنين والخميس (2/325) ، حديث (5436) ، ومسند الإمام أحمد (5/201)، وقال الألباني: صحيح كما في صحيح سنن الترمذي (1/227) .

ص: 318

فلم يكن الداعي إلى هذا الصوم لكونه يوم ولادته فحسب، بل لأجل أن الأعمال تعرض فيهما وأنه يوم أنزل عليه فيه.

رابعاً: هل النبي صلى الله عليه وسلم عندما صام يوم الاثنين أضاف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب؟ الجواب: لا وإنما اكتفى بالصيام فقط. إذاً ألا يكفى الأمة ما كفى نبيها صلى الله عليه وسلم ويسعها ما وسعه، وهل يقدر عاقل أن يقول: لا؟ إذاً فلِم الافتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه والله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"2. 3.

خامساً: قولهم إن هذا في معنى الاحتفال به والمعنى موجود سواءً كان ذلك بصيام أم أطعام طعام.. الخ.

في هذا القول اتهام خطير لخير هذه الأمة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ورمي لهم بالتقصير، حيث لم يفهموا مقصوده صلى الله عليه وسلم من صيام هذا اليوم فلم يحتلفوا بهذه المناسبة.

وفي هذا يقول الشيخ ابن منيع في رده على المالكي: عندما استدل بهذا الدليل - يقصد المالكي - أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بصيامه يوم ولادته يوحي إلى أمته وفي طليعة الأمة أصحابه وتابعوهم بإقامة احتفال بمولده صلى الله عليه وسلم إلا أنهم من

1 سورة الحشر، آية (7) .

2 تقدم تخريجه، ص (219) .

3 انظر: الإنصاف فيما قبل في المولد للجزائري (44-45) .

ص: 319

الغباء والجهل والبعد عن إدراك مقاصده صلى الله عليه وسلم بمكان حجب عنهم ذلك، حتى جاءت الرافضة والقرامطة والفاطميون ومن نحا نحوهم من أهل البدع والمحدثات، كالمالكي واضرابه، فأدركوا بثاقب بصرهم ونفاذ بصيرتهم وقوة إيمانهم وشدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدركوا مقصده صلى الله عليه وسلم بصيامه يوم الاثنين فدعوا إلى إقامة الاحتفال بالمولد.

حقاً إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. وبالتالي نقول: لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والستة الباقين من العشرة والحسن والحسين وأمهما فاطمة وأمهات المؤمنين أزواجه صلى الله عليه وسلم وغيرهم إنكم لم تقدروا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره كما قدره أولئك المحتفلون فلم تقيموا احتفالات حوليه بذكرى ولادته صلى الله عليه وسلم، كما يوحي بذلك على حد زعم المالكي وفهمه السقيم، حقاً إن الهوى يعمى ويصم 1.

فهذا هو حال من جانب الحق واتبع الهوى يقدح في مَنْ خالفه مِنْ سلف هذه الأمة وخيرها سواءً أراد بذلك أم لم يرد فالله المستعان والهادي إلى الصواب.

- الشبهة الخامسة:

أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 2.

1 انظر: حوار مع المالكي (50-51) .

2 سورة يونس، آية (58) .

ص: 320

فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 1. 2.

الجواب على ذلك: إن القول بذلك تعسف للأدلة بجعلها موافقة للهوى ومجانبة لما عليه هذه الأمة من كبار المفسرين وأئمة علم التفسير الذين نصوا على أن المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ما عنته الآية السابقة لهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3.

قال الطبري في تفسيره لهذا الآية: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك. {بِفَضْلِ اللَّهِ} . أيها الناس الذي تفضل به عليكم هو الإسلام. فبينه لكم ودعاكم إليه {وَبِرَحْمَتِهِ} التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه فبصركم بها معا لم دينكم وذلك القرآن.

{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يقول فان الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وكنوزها 4.

1 سورة الأنبياء له (107) .

2 حول الاحتفال بالمولد لعلوي المالكي (7-8) . انظر: الذخائر المحمدية له (268) ، وعلموا أولادكم محبة رسول الله، د. محمد عبده يماني (98) .

3 سورة يونس، آية (57-58) .

4 تفسير الطبري (15-105) .

ص: 321

وقال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} .

قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: " فضله القرآن ورحمته الإسلام وعنهما أيضاً: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله"1.

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزل من القرآن العظيم على رسوله الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي زاجرا عن الفواحش.

{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس. {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه ".

كقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} 2.

وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 3. وقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى والدين الحق فليفرحوا فانه أولى بما يفرحون به.

{هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة 4.

1 الجامع لأحكام القرآن (8/353) . وانظر: البغوي (2/358) ، والتفسير القيم لابن (307) ،

2 سورة الإسراء، آية (82) .

ص: 322

وقال ابن القيم عند هذه الآية: وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته الإسلام والسنة 1.

وبهذا تبين لطالب الحق أنه لا دليل بهذه الآية وهذا هو حال المبتدعة، فانهم يتعسفون الأدلة لمجارات آرائهم وأهوائهم وإن خالفت ما هو مجمع عليه.

- الشبهة السادسة:

إن المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. 3.

- الجواب: -

أولاً: إذا كان لا يذكر صلى الله عليه وسلم إلا في يوم ولادته فبئست هذا العقيدة وهذا جفاء في حقه صلى الله عليه وسلم فأين دعوى المحبة إذاً؟.

إذا كان لا يصلى عليه إلا في ليلة من ثلاثمائة وست وخمسين ليلة نعوذ بالله من الغفلة والصدود عن الحق.

ثانياً: الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحب في كل وقت وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشراً"4.

1 اجتماع الجيوش الإسلامية (6) .

2 سورة الأحزاب، آية (56) .

3 حول الاحتفال بالمولد (7-8)، وانظر: عملوا أولادكم محبة رسول الله (99) .

4 صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306) ، حديث (408) .

ص: 323

والصلاة والسلام مقترنة عند ذكره صلى الله عليه وسلم في كل وقت وفي كل مناسبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ"1.

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة عيد الأسبوع فقال صلى الله عليه وسلم: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ.."2.

فهل يليق بالمسلم أن لا يصلي عليه صلى الله عليه وسلم إلا في ليلة واحدة من ثلاثمائة وست وخمسين ليلة كلا بل هذا هو الهجران ولا يقول بذلك عاقل وفي ذلك يقول أبو بكر الجزائري:

كون المولد ذكرى.. الخ هذه تصلح أن تكون علة لو كان المسلم لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم عشرات المرات، فتقام له ذكرى سنوية أو شهرية يتذكر فيها نبيه ليزداد بذلك إيمانه وحبه له. أما والمسلم لا يصلي صلاة من ليل أو نهار إلا ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل وقت صلاة ولا يقام لها إلا ويذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلى عليه، إن الذي تقام له ذكرى خشية النسيان هو من لا يذكر أما من يذكر ولا ينسى فكيف تقام ذكرى حتى لا ينسى، أليس هذه من تحصيل ما هو حاصل، وتحصيل الحاصل عبث ينزه عنه العقلاء 3.

1 سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رغم أنف رجل "(5/551) ، حديث (3546)، وقال: حديث حسن صحيح غريب. ومسند الإمام أحمد (1/201) ، والمستدرك للحاكم، كتاب الدعاء (1/549)، وقال: حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح كما في صحيح سنن الترمذي (3/177) .

2 تقديم تخريجه، ص (195) .

3 الإنصاف فيما قيل في المولد (36-37) .

ص: 324

- الشبهة السابعة:

إن المولد أمر يستحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد وجرى به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود الموقوف "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"1.2.

- والجواب من وجوه:

1 -

إن ذلك القول دعوى يعوزها الدليل وهو قول مخالف للحق والصواب، ولقد أنكر ذلك الاحتفال أكابر علماء السلف وقالوا ببدعته وأنه مخالف لما جاء به صلى الله عليه وسلم وكل ما خالف شيئاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مكان له ولا اعتبار بل هو مردود بنص قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"3.

وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4. وقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 5.

فلم يفعله الصحابة ولا تابعوهم ولا القرون المفضلة فكيف يكون أمراً مستحسناً؟

1 مسند الإمام أحمد (1/379) ، وهو موقوف على ابن مسعود وما يزعمه بعض من يحتفل بالمولد على أنه مرفوع فلا يصح. قال ابن حزم عنه في كتابه الأحكام في أصول الأحكام (2/197) ، وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلاً، وأما الذي لا شك فيه فانه لا يوجد البتة في مسند صحيح وإنما نعرفه عن ابن مسعود. وانظر: المقاصد الحسنة للسخاوي (367) ، وكشف الخفاء للعجلوني (2/263) ، والأحاديث الضعيفة للألباني (2/17) .

2 حول الاحتفال بالمولد (12) ، والذخائر المحمدية لمحمد علوي ما لكي (270-271) .

3 تقدم تخريجه، ص (220) .

4 سورة الحشرة (7) .

5 سورة المائدة، آية (3) .

ص: 325

2 -

أن "أل" في كلمة المسلمون للعهد ويبين ذلك السياق حيث جاء فيه " إن الله نظر في قلوب العباد فأختار محمداً فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ " وعليه فالمراد بهذا الأثر إجماع الصحابة واتفاقهم.

ويؤيد ذلك: ما جاء عند الحاكم بزيادة " وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه "1. وفي هذه الجملة بيان للمراد فقد استدل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على استخلاف أبي بكر بإجماع الصحابة.

3 -

إن قيل: أن "أل" للاستغراق فيشمل كل المسلمين فيكون إجماعاً وأهل الإجماع هم أهل الاجتهاد والعلم.

وذلك أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فليزم عليه استحسان العوام وهو باطل بإجماع 2.

قال العز بن عبد السلام - عندما سئل عن ذلك -: " إن صح الحديث فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع 3.

1 المستدرك للحاكم كتاب معرفة الصحابة (3/78-79)، وقال: حديث صحيح ووافقه الذهبي.

2 انظر: الاعتصام للشاطبي (2/152) ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/197) ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/18-19) والبدعة وأثرها السيئ (21-22) ، وأصول في السنن والبدع للعدوي (39-40) .

3 كتاب الفتاوى للعز بن عبد السلام (42) .

ص: 326

الله عنه من أشد الصحابة إنكاراً للبدع وهجراً لأصحابها وهو القائل " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ".

فلما لم يجدوا دليلاً صحيحاً على ذلك الاحتفال جعلوه بدعة حسنة، فاضطرهم انتصارهم لهذه البدعة إلى تعسف الأدلة وجعلها في غير مواضعها حيث صرفوها عن معانيها الحقيقية مخالفين بذلك ما جاء عن سلف هذه الأمة، فمتى تحقق أنه بدعة حسبما شهدوا به على أنفسهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل بدعة ضلالة" وهي نكرة مضافة تعم كل بدعة فليس في الشرع بدعة حسنة، بل إن البدعة تنافي السنة وتنافي الحسنة.

فلسنا في حاجة إلى مثل هذا الفعل الذي لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين هم خير الناس وأحرصهم على اتباعه صلى الله عليه وسلم.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية " ومعلوم أن كلما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات، ولا يقول أحد في مثل هذا: إنه بدعة حسنه "1.

ومن قال بذلك فقد زعم أنه أتى في هذا الدين بخير مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وانه صلى الله عليه وسلم لم يؤد رسالة ربه، وبهذا الزعم خالفوا نص كلام الله عز وجل، حيث قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2.

1 مجموع الفتاوى (27/152) .

2 سورة المائدة (3) .

ص: 327

وكما قيل:

وكل خير في اتباع من سلف

وكل شر في ابتداع من خلف

فيا من تحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم ألا يسعكم ما وسع نبيكم وصحابته رضي الله عنهم، أما تتقون الله سبحانه وتعالى في ذلك القائل {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1.

وإذا كنتم تحتفلون بيوم مولده صلى الله عليه وسلم فاليوم الذي ولد فيه هو بعينه الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه 2.

فيتبين بغاية الوضوح والبيان أن المبتدعة أصحاب هوى، وربما كانوا أصحاب مصالح، فكل ما أوردوه من شبه زعموا دلالتها على بدعتهم إنما هي شبه واهية لا قرار لها ولا ثبات فهي بجانب الأدلة الشرعية الواضحة الصريحة سراب لا حقيقة له، وخيط عنكبوت لا قوة ولا صلابة فيه:{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3.

ومن فكر بعقل سليم باحثاً عن الحق والصواب استرشد إلى أن هذا الفعل بدعة منكرة، ومن كان تابعاً للهوى، ودعاة الضلالة معانداً فلا تزيده الأدلة ووضوحها إلا عناداً واستكباراً عن الحق، والعياذ بالله. (ومن يضلل الله فما له من هاد

1 سورة النور (63) .

2 انظر: المورد في عمل المولد للفكهاني (26-27) ، والمدخل لابن الحاج (2/15) .

3 سورة العنكبوت، آية (41) .

ص: 328