الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الأعياد المكانية عند العرب في الجاهلية
أعياد العرب المكانية في الجاهلية كثيرة جداً، وهي تكمن في مواضع أصنامهم وأوثانهم وأمكنة طواغيتهم وسأقتصر على ما كان مشهوراً بالتعظيم كمثال للأعياد المكانية.
فكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال وتتخذ عيداً ثلاثة " اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " وقد ذكرها سبحانه وتعالى في كتابه. فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1.
وكل واحدة من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب، والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة: مكة والمدينة والطائف.
فكانت اللات لأهل الطائف: ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجيج، فلما مات عكفوا على قبره مدة، ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية سموها بنية الربة2.
وقيل كانت اللات: صخرة منقوشة، وهي أحدث من مناة، وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك، وكانوا قد بنوا عليها بناءً، وكانت
1 سورة النجم، آية، (19-22) .
2 اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/653) .
قريش وجميع العرب تعظمها، وبها كانت العرب تسمى زيد اللات وتيم اللات، وفيها يقول الشاعر:
فإني وتركي وصل كأس كالذي
…
تبرأ من لات، وكان يدينها
فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة ابن شعبة فهدمها وحرقها 1، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة لما افتتحت الطائف2.
أما العزى: فكانت لأهل مكة قريباً من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون.
وهي أحدث من اللات ومناة، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وقد حمت لها شعباً من وادي حراض3، يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة.
ولها منحر ينحر فيه هداياها، يقال له الغبغب4، فكانوا يقسمون لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها.
وكان سدنتها بنو شيبان بن جابر بن مرة حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه عقب فتح مكة فأزالها، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم مالها وخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها فيئست العزى أن تعبد5.
1 الأصنام لابن الكلبي (16-17)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/253) ، والسيرة النبوية لابن هشام (1/85) .
2 السيرة النبوية لابن كثير (4/61) .
3 وهو وادٍ قرب مكة، انظر: معجم ما استعجم للبكري (2/433) .
4 انظر: معجم البلدان لياقوت (4/185) .
5 الأصنام لابن الكلبي (17-20) ، والسيرة لابن هشام (1/83-84) ، والبداية والنهاية لابن كثير (4/314-315) ، وتفسير القرطبي (17-99-100) .
أما مناة: فكانت لأهل المدينة يهلون لها شركاً بالله تعالى، وكانت حذو قديد الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل1، وهي أقدم من اللات والعزى، وكانت العرب جميعاً تعظمه وتذبح حوله، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج.
فلم يزل على ذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه عام الفتح فهدمها وأخذ ما كان لها. وقيل: إن الذي هدمها أبو سفيان بن حرب2.
وكانت للعرب مواسم من السنة مخصوصة للاجتماع في هذه الأماكن الثلاثة، تقصدها من كل فج وتعظمها كتعظيم الكعبة مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها لعلمهم أنها بيت إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده3.
ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئاً من الأصنام إعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة4.
قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ} 5.
وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر؛ لأنها أشهر من غيرها6.
1 أخبار مكة للأزرقي (1/125) ، ومعجم البلدان لياقوت (5/204-205) .
2 الأصنام لابن الكلبي (13،15) ، والسيرة لابن هشام (1/85) ، وتفسير ابن كثير (4/354) .
3 بلوغ الأرب للألوسي (1/346) .
4 الأصنام لابن الكلبي (27) .
5 سورة النجم، آية (19-20) .
6 تفسير ابن كثير (4/353) .
قلت: ومن تلك الأصنام ذو الخلصة، وهو بيت باليمن لخثعم وبجيله فيه نصب يعبدونها ولهم فيه من السنة موسم عيد1
وسدنتها بنو أمامة من باهلة بن أعصر ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعث إليه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فهدمه2.
روى ذلك البخاري في صحيحه بسنده عن جرير بن عبد الله قال: "كان في الجاهلية بيت يقال له ذو الخلصة، وكان يقال له الكعبة اليمانية أو الكعبة الشامية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنت مريحي من ذي الخلصة؟ قال فنفرت إليه في خمس ومائة فرس من أحمس قال: فكسرناه، وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيناه فأخبرناه فدعا لنا ولأحمس"3.
وهذا غير ذي الخلصة الذي نصبه عمرو بن لحي أسفل مكة، والذي كانوا يلبسونه القلائد ويهدون إليه الشعير والحنطة ويجعلون عليه بيض النعام ويذبحون عنده 4.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصنام ستعبد من دون الله في آخر الزمان وجعل ذلك من علامات الساعة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة"5.
1 معجم البلدان لياقوت (2/383) ، وبلوغ الأرب للألوسي (1/346) .
2 الأصنام لابن الكلبي (34-36) ، والسيرة لابن هشام (1/86) .
3 صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي (7/131) ، حديث (3823) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى"1.
ولم تكن الأعياد المكانية عند العرب في الجاهلية مقتصرة على الأصنام، بل كان الحج إلى مكة من أهم مواسمهم وأعيادهم، حيث يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل ومختلف الأماكن للتقرب إلى الأصنام وللتلاقي في ظروف أمن وسلام لا يحل فيها قتال ولا اعتداء ولا لغو ولا فحش، ويقوم أهل مكة بخدمة الوافدين والضيوف وتمر أيام خالية من غدر واعتداء وقتل وأخذ بثأر، يلبس فيها الناس خير ما عندهم من لباس ويتحلون بأحسن صورة فإذا انتهت الأيام عادوا إلى ديارهم2 وهم بذلك يدخلون السرور والفرح على أنفسهم وأنفس آلهتهم بحسب اعتقادهم، وتقترن هذه الاحتفالات بذبح القرابين كل يذبح على قدر طاقته ومكانته، فيأكل منها في ذلك اليوم من لم يتمكن من الحصول على اللحم في أثناء السنة لفقره وحاجته فهي أيام يجد فيها الفقراء لذة ومتعة وعبادة3، فهذه مظاهر الاحتفال بالأعياد المكانية عند العرب.
1 صحيح مسلم، كتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة (4/2230) .
2 انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد على (5/101) .
3 المصدر السابق (6/351) .