الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الأحاديث الواردة في النيل والفرات
…
فقد بينت فيما سبق المراد منها وأن لها مَحْمَلاً صَحِيحًا مَقْبُولاً، وأن المراد منها المجاز لا الحقيقة، وهو مجاز مستساغ لغة وشرعًا.
اِسْتِشْهَادُ أَبِي رَيَّةَ بِكَلَامِ السَيِّدْ مُحَمَّد رَشِيدْ رِضَا فِي " تَفْسِيرِهِ
":
قال في [ص 216] انتهى العلامة السيد رشيد رضا في " تفسيره " بعد أن طعن في أحاديث أشراط الساعة وأمارتها مثل الفتن والدجال والجساسة وظهور المهدي وغير ذلك إلى هذه النتائج القيمة.
1 -
أن النَّبِيَّ لم يكن يعلم الغيب وإنما أعلمه الله ببعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه وهو قسمان صريح ومستنبط.
2 -
لا شك أن أكثر الأحاديث قَدْ رُوِيَ بالمعنى
…
فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه وربما وقع في فهمه الخطأ، لأن هذه أمور غيبية، وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها
…
إلخ ما قال.
الرَدُّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ السَيِّدِ مُحَمَّد رَشِيدْ وَأُسْتَاذِهِ الإِمَامِ:
1 -
أما أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب وإنما أعلمه الله ببعض الغيوب .. فهذا ما لا نخالف فيه ولا ننكره ولكنا نقول: إن ما أخبر به من أشراط الساعة وأخبار الفتن هو مِمَّا أعلمه الله إياه وصدق الله حيث يقول: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (1).
2 -
ما يتعلق بالرواية بالمعنى فقد حَقَّقْتُ القول فيها فيما سبق وبينت أن احتمال الخطأ أو التغيير في الأحكام والدلالات هو احتمال عقلي وأن من اطلع على شروط الأئمة في تجويز الرواية بالمعنى وشدة تحري الرواة للحق والصواب وتحزرهم من الخطأ يقطع بأن احتمال الغلط أو التغيير يعيد غاية البعد.
3 -
وأما ما وضعه أصحاب العصبيات المذهبية والسياسية والمتظاهرين بالصلاح والتقوى فقد نقده العلماء نَقْدًا عِلْمِيًّا نزيها وبينوا زيفه، وما خفي عليهم شيء منه.
(1)[سورة الجن، الآيتان: 26، 27].
4 -
وأما أن بعض الأحاديث الموضوعة لم تعرف إِلَاّ باعتراف واضعها، فزعم غير صحيح من كل وجه فالاعتراف إنما هو أمارة وقرينه، وَالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عند الأئمة فقد السند والمتن، ولو لم يعترف هؤلاء لوصل العلماء بملكاتهم التي اكتسبوها من مزاولة النقد وبقواعدهم الدقيقة التي وضعوها إلى تمييز الحق من الباطل والخطأ من الصواب، وليس أدل على ذلك من أنهم لم يعتبروا الإقرار قَطْعِيًّا في الدلالة على الوضع لجواز أن يكذب في هذا الإقرار نفسه كما قرروا ذلك في كتبهم.
5 -
وأما ما نقله عن الأستاذ الإمام محمد عبده من أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم وما كل مسلم مؤمن صادق وما كانوا يفرقون في الأداء بين ما سمعوه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أو من غيره، فعلى تسليم ثبوته عنه فهو - على إطلاقه - غير صحيح، والمؤلف حريص على أَنْ يُحَمِّلَ الكلام ما لا يتحمل.
ومِمَّا نحب أن نسجله بهذه المناسبة أن الأستاذ الإمام لم يتضلع من السُنَّةِ وعلومها تضلعًا يجعله في عداد أئمتها فمن ثم وقع في بعض الأخطاء حينما يعرض لبعض الأحاديث، كما أحب أن أذكر المؤلف ومن على شاكلته بأن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، وبكلمة إمام دار الهجرة مالك بن أنس:«كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ إِلَاّ صَاحِبُ هَذَا المَقَامِ» . يريد النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
وأنا مع إكباري للأستاذ الإمام وتلميذه السيد محمد رشيد رضا إِلَاّ أني أرى ويرى كل باحث منصف - أنه ليس كل ما يقولانه حَقٌّ وَحُجَّةٌ فَهُمَا بَشَرٌ، وكل بشر عرضة للصواب والخطأ والسيد رشيد مع كونه عَالِمًا بِالسُنَّةِ وبالأحاديث إِلَاّ أن له مواضع زلت قدمه فيها والعصمة لله ولرسله.
6 -
وأما ما عرض له من أن الصحابة كلهم عدول قاعدة أغلبية فقد قدمت ما فيه الكفاية في هذا فيما سبق وأما أن بعض المنافقين كان يتظاهر بالإسلام وأحكموا النفاق ومرنوا عليه حتى خفي أمرهم على النَّبِيِّ وأصحابه استدلالاً بقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (1) فليس في الآية استمرار عدم
(1)[سورة التوبة، الآية: 101].
العلم بحالهم بل فيها ما يشعر بأن الله سيفضحهم ويكشف أمرهم لنبيه والمؤمنين المرة بعد المرة فالمراد بالمرتين التكثير كقوله سبحانه: {ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (1).
والآية تشعر باطلاع الله - سبحانه نَبِيَّهُ على أحوالهم ولا سيما وقد ورد في الرواية ما يؤيد ذلك أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في " الأوسط " وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة خطيبا، فقال: «قُمْ يَا فُلَانُ فَاخْرُجْ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، اخْرُجْ يَا فُلَانُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ» ، فَأَخْرَجَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَضَحَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ شَهِدَ تِلْكَ الجُمُعَةَ لِحَاجَةٍ كَانَتْ لَهُ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ المَسْجِدِ فاخْتَبَأَ مِنْهُمُ اسْتِحْيَاءً أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ، وَظَنَّ أَنَّ النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا، واخْتَبَئُوا هُمْ مِنْ عُمَرَ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ عِلْمَ بِأَمْرِهِمْ، فَدَخَلَ عُمَرُ المَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ لَمْ يَنْصَرِفُوا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ، فَقَدْ فَضَحَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ اليَوْمَ، فَهَذَا العَذَابُ الأَوَّلُ، وَالعَذَابُ الثَّانِي عَذَابُ القَبْرِ» وفي رواية ابن مردويه عن أبي مسعود الأنصاري:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلاً» .
7 -
وأما قوله فيما نقل عنه: «فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا فمن صدق رواية مِمَّا ذكر ولم يجد فيها إشكالاً فالأصل فيها الصدق ومن ارتاب في شيء منها أو ورد عليه بعض المرتابين أو المُشَكِّكِينَ إشكالاً في متونها فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات أو خطأ الرواية بالمعنى أو غير ذلك مِمَّا أشرنا إليه.
فهو كلام حق في ذاته وقد قاله المُحَقِّقُونَ في الأمارات التي تعرف بها الأحاديث الموضوعة ولكن الخطأ إنما يعرض في التطبيق فما يكون مشكلاً عنده لا يكون مشكلاً عند آخر، وما يتراءى لبعض الناس أنه مخالف للسنن الكونية قد لا يكون مخالفًا عند التحقيق والتدقيق، وما يعتبره البعض مخالفًا للقطعي أو للحس قد لا يعتبره الآخر كذلك، فَمِنْ ثَمَّ دخلت المغالط الكثيرة على المؤلف وغيره مِمَّنْ عرضوا لنقد الحديث، وذلك لأنهم جعلوا جل غايتهم التزييف والهدم، فمن ثم تلمسوا أَوْهَى الأسباب، وركبوا كل صعب في سبيل إظهار بعض الأحاديث بمظهر
(1)[سورة الملك، الآية: 4].