الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[(8)]
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ:
«وهي الشبهة الثانية في تسلسل الشبه» .
والجواب:
أَوَّلاً: إن هذه الشبهة لا تخرج عن سالفتها في التخمين والتظنن والافتراض في المسائل العلمية الخطيرة، وكنا نحب من هذا المشكك في الأحاديث والسنن أن يضع نصب أعيننا جملة من النصوص الصحيحة تدل على أن خلفاء بني أمية وحكوماتهم كانوا يُرَغِّبُونَ الناس في الوضع وأنهم كانوا يؤيدون كل ما يريدون بوضع الأحاديث ومن العجيب من " جولدتسيهر " العالم المحقق عند المخدوعين به من المستشرقين وأبواقهم من المسلمين، الأمين في النقل عندهم، أنه وقد أراد أن يؤيد دعواه، من أن الوضع بدأ في وقت مبكر يذكر ما قاله الصحابي معاوية، للمغيرة بن شعبة «لَا تُهْمِلْ فِي أَنْ تَسُبَّ عَلِيًّا، وَأنْ تَطْلُبَ الرَّحْمَةَ لِعُثْمَانَ، وَأَنْ تَسُبَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ، وَتَضْطَهِدَ مِنْ حَدِيثِهِمْ
…
» فيزيد كلمة أحاديثهم ليصل إلى غرضه، وهاكم النص كما في تاريخ الطبري (1):
فنحن لا نرى في النص ما يشهد له في دعواه، وهكذا تكون أمانة المستشرقين في النقل!! والذي يقرأ هذا الكلام يخيل إليه أن الأمة الإسلامية كانت هُمَّجًا رُعَاعًا في العصر الأول وأن الضمير الإسلامي كان متلاشيًا أو مضمحلاًّ، وإلا فبماذا نفسر أن
(1)" تاريخ الأمم والملوك ": ج 6 ص 141.
العلماء الأتقياء كانوا يضعون أحاديث ضد الأمويين، وأن الأمويين كانوا يقابلونهم بالمثل، ولو أنه في مزاعمه اقتصر على «باب الفضائل والمثالب» لهان الأمر بعض الشيء ولكنه صور للقارئ هذه الصورة الخيالية في جميع شؤون الدين.
ثَانِيًا: ما استند إليه من أنه لا توجد مسألة خلافية دينية أو اعتقادية إلا ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي فردنا عليه:
أننا نمنع أن تكون كل مسائل الخلاف اعتمد فيها أصحابها على أحاديث قوية من الجهتين فكثير من المسائل الخلافية اعتمد فيها أصحابها على أحاديث لا تنهض للاحتجاج بها.
كما أن مجرد الاختلاف والاستناد إلى أحاديث قوية لا ينبغي أن يفسر بالوضع والاختلاف، فللاختلاف في المسائل الفقهية أسباب معقولة، ومحامل صحيحة أفاض في ذكرها العلماء (1).
1 -
فمنها أن يكون الاختلاف من قبيل حكاية الفعل فيما هو من قبيل التوسعة على العباد، فحكى صحابي أنه فعل فعلاً، وحكى آخر أنه فعل غيره، فمثل هذا ليس في الحقيقة تناقضًا لأن الفعلين قد يكونان مباحين جائزين، أو أحدهما مُبَاحًا والآخر مُسْتَحَبًّا، أو مستحبين، أو واجبين يكون في أحدهما كفاية عن الآخر، ومثل ذلك الوتر بإحدى عشرة ركعة، أو بتسع، أو بسبع، أو بخمس، أو بثلاث، أو بواحدة، والثلاث أهي بجلوس واحد وتشهد واحد، أم هي بجلوسين وَتَشَهُّدَيْنِ، ونحو ذلك، فكل ذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاختيار والتوسعة على الأمة، وبكل منها وردت الأحاديث الصحيحة فمن روى أنه أوتر بواحدة فهو صادق، ومن روى أنه أوتر بثلاث فهو صادق وهكذا.
2 -
ومنها أن يكون صحابي سمع حُكْمًا من النبي صلى الله عليه وسلم في قصة، ولم يسمعه
(1) انظر: " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام ابن تيمية، و " حجة الله البالغة ": ج 1 ص 110 وما بعدها للدهلوي.
الآخر واجتهد برأيه في حدود القواعد الشرعية والالتزام بالأصول الاجتهادية، وقد يوافق اجتهاده الحديث، وقد يخالفه، والصحابة لم يكونوا في الملازمة سواء
ولما جاور النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى تفرق الصحابة في الأمصار الإسلامية وقد كان عند بعضهم من الأحاديث ما ليس عند الآخر، وَقَدْ تُعْرَضُ القضية في المدينة أو غيرها من الأمصار فيجدون فيها حَدِيثًا فيحكمون بمقتضاه، ثم تُعْرَضُ فِي مِصْرٍ آخر فلا يجدون فيها عند أحد من الصحابة الموجودين في هذا المصر حَدِيثًا، فيحكم بالاجتهاد ثم يظهر أن في المسألة حَدِيثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم موجودًا عند صحابي آخر فإذا ما نقل عن الصحابة أنهم حكموا في هذه المسألة بما يخالف الحديث الذي لم يطلعوا عليه ونقل إلينا الحديث فلا يكون ذلك قادحًا في الحديث لأنه لم يبلغهم.
3 -
وقد يكون منشأ الخلاف في الرواية اختلاف وجهة النظر في حكاية حال شاهدوها من رسول الله، وإلى هذا السبب يرجع كثير من الخلاف في الرواية وذلك مثل اختلافهم في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حَجَّةُ الوَدَاعِ: أكان النبي صلى الله عليه وسلم قَارِنًا، أَمْ كَانَ مُفْرِدًا، أَمْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، فقد رآه بعضهم وقد أحرم بالحج فروى أنه كان مُفْرِدًا، ورآه بعضهم بعد ما أدخل العمرة على الحج فروى أنه كان قَارِنًا، ومن روى أنه كان مُتَمَتِّعًا فإنما أراد به التمتع اللغوي لا الشرعي.
4 -
وقد يكون منشأ اختلاف الرواية عن الصحابة الاختلاف في فهم المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في طريقة الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض أو في علة الحكم أو في ترجيح نص على نص.
5 -
وقد يكون الاختلاف لأن في الحديث عَامًّا، وَخَاصًّا، وَمُطْلَقَا، وَمُقَيَّدًا، وَمُجْمَلاً، وَمُبَيِّنًا فمنهم من يرى أنه على عمومه، ومنهم من يرى أنه عام مخصوص، ومنهم من يرى أنه على إطلاقه، ومنهم من يرى أنه مقيد إلى غير ذلك، فمن لم يتعمق في الدراسات الإسلامية الأصيلة يظن بادئ الرأي أنه تناقض، وأنه أثر من آثار الوضع والاختلاق، ولو تعمق وَبُحِثَ بَحْثًا مُجَرَّدًا عن الهوى والتعصب لظهر له الحق.