الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[4] دَعْوَاهُمْ أَنَّ المُحَدِّثِينَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا كَثِيرًا لِبَحْثِ الأَسْبَابِ السِّيَاسِيَّةِ التِي قَدْ تَحْمِلُ عَلَى الوَضْعِ فِي الحَدِيثِ النَّبَوِي الشَّريفِ:
قال صاحب ضحى الإسلام ج 2 ص 131، 132 في أثناء الكلام على النقد الداخلي، والخارجي:
نعم، رويت أشياء من هذا القبيل، فابن خلدون - مثلا - يقول: أسباب قلة رواية أبي حنيفة للحديث: «إنه ضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي» (1). وهي عبارة وإن كانت موجزة وغامضة بعض الغموض إلا أنها تدل على هذا الاتجاه وهو عدم الاكتفاء بالرواة، بل عرضها على الطبائع البشرية.
ومن هذا القبيل ما يروى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، [نَقَصَ] مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» قالوا كان أبو هريرة يروي الحديث هكذا «إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ زَرْعً» ويزيد كلب الزرع " فقيل " لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: «أَوْ كَلْبَ زَرْعً» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» . وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي، وهناك أشياء منثورة من هذا القبيل، ولكنها لم تبلغ من الكثرة والعناية مبلغ النقد الخارجي يعني نقد السند ولو اتجهوا هذا الاتجاه كثيرًا، وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول لانكشفت أحاديث كثيرة وتبين وضعها، مثل كثير من أحاديث الفضائل، وهي
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(1)
ذكر الترقيم لكن لم يذكر المصدر في الهامش.
انظر: " تاريخ ابن خلدون "، تحقيق خليل شحادة، 1/ 562، الطبعة الثانية: 1408 هـ - 1988 م، نشر دار الفكر. بيروت - لبنان.
أحاديث رويت في مدح الأشخاص والقبائل والأمم والأماكن
…
» إلخ ما قال.
وإليكم الجواب:
(1)
إن أئمة الحديث نقدوا الروايات نقدًا صحيحًا، وبينوا الصحيح من غير الصحيح، والموضوع من غير الموضوع بحسب القواعد والأصول التي وضعوها لنقد السند - النقد الخارجي أو المتن - النقد الداخلي وفيما قدمت في هذا الكتاب ما يغني عن إعادته، والمحدثون في نقدهم متئدون ومتريثون، وهكذا شأن كل ناقد نزيه يخشى أن يطغى في الحكم أو يحيف عن طريق الحق والصواب، ولكن المستشرقين وأبواقهم ومتابعيهم يريدون من أئمة النقد والتعديل والتجريح أن يكونوا متسرعين وهذا مين، ولن يكون هذا منهم ولا أدري كيف يقول صاحب " الضحى " أنهم لم يتعرضوا كثيرًا لبحث الأسباب السياسية، وقد جعلوا من قواعدهم: عدم قبول رواية أهل الأهواء والمبتدعة من الطوائف المنتسبة إلى الإسلام ومنهم من فصل بين الداعية وغيره، فقبلوا رواية غير الداعية وردوا رواية الداعية وما ذلك إلا لأن احتمال تزيده احتمال قريب، بل أنظر إلى دقتهم في التعويل على البواعث في الجرح ويتمثل ذلك واضحًا جَلِيًّا في تفصيلهم في الراوي الداعية وهو: إن روى ما يؤيد بدعته أو يروي ما يخالفها، فردوا رواية الأول، وقبلوا الثاني، لأن الباعث على التزيد والاختلاق في الأول قريب محتمل، وفي الثاني بعيد جدًا، وكذلك تفصيلهم في الراوي غير الداعية، بين أن يروي ما يؤيد بدعته، أو يردها ويخالفها، فردوا رواية الأول دون الثاني.
كما جعلوا من قواعدهم التي تدل على الوضع: أن يكون الحديث في فضائل عَلِيٍّ، راويه شيعي، أو في ذمه وراويه نَاصِبِيٌّ (1)، أو في ذم أعدائهم وراويه رافضي إلى غير ذلك ولو رجع صاحب " الضحى " إلى الكتب المؤلفة في الموضوعات مثل " كتاب الموضوعات " لابن الجوزي و " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " للسيوطي، و " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة " لابن
(1) ناصبي: هو الذي نصب نفسه لعداوة عَلِيٍّ.
عراق - لوجد أن العلماء انتبهوا غاية الانتباه إلى أحاديث الفضائل في الأشخاص، والأمكنة، والأجناس، والأمم، وَبَوَّبُوا لذلك الأبواب في كتبهم، وقد استغرق ذكر الفضائل في " كتاب اللآلئ " ما يزيد عن مائة صحيفة فكيف بعد ما ذكرناه يستجيز لنفسه أن يقول: إن العلماء لو اتجهوا هذا الاتجاه لانكشفت أحاديث كثيرة، وتبين وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل
…
إلخ!؟.
أما إذا كان يقصد أنهم لم يحكموا على كل ما ورد في الفضائل بالوضع فهذا ما لا نوافقه عليه وما لا نرتضيه لباحث.
واستمع أيها القارئ الحصيف إلى بعض الأمثلة غير ما قدمت ليزداد الأمر وضوحًا، حديث أنس «دَخَلْتُ الحَمَّامَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَعَلَيْهِ مِئْزَرٌ» حكم بوضعه ابن الجوزي وقال: في سنده مجهولون، ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامًا قط، ولا كان عنده حمام. أقول: ولا كانت الحمامات العامة موجودة عند العرب آنذاك، بل استمع إلى قوله في الحديث المكذوب:«لا يُولَدُ بَعْدَ الْمِائَةِ مَوْلُودٌ لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ» فإن قيل: فإسناده صحيح فالجواب أن العنعنة تحتمل أن يكون أحدهم سمعه من ضعيف أو كذاب فأسقط اسمه، وذكر من رواه عنه بلفظ عن، وكيف يكون صحيحًا وكثير من الأئمة السادة قد ولدوا بعد المائة!!
بل استمع إلى العلماء لما نقدوا حديث الهريسة وأنها تشد الظهر وتقوي على الباه، فقد قالوا: إن محمد بن الحجاج اللخمي هو الذي رواه لأنه كان صاحب هريسة وغير ذلك كثير ولكن صاحب " الضحى " لم يكلف نفسه أن يقرأ ويطلع على كتب القوم وكلامهم، وتابع المستشرقين فيما قال.
(2)
وأما حديث ابن عمر مرفوعا «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، [نَقَصَ] مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» وأن أبا هريرة كان يروي الحديث هكذا «إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ زَرْعً» فيزيد «كَلْبَ الزَّرْعِ» ، فقيل لابن عمر: وإن أبا هريرة يقول: «أَوْ كَلْبَ زَرْعً» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إنَّ لأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» ثم يعلق صاحب " الضحى " فيقول: «وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث [النفسي]» فالجوابِِ
عنه من وجوه.
[أ] الزيادة ثابتة عن أبي هريرة رضي الله عنه بالأسانيد الصحيحة القوية التي لا مطعن فيها عند البخاري ومسلم في " صحيحيهما "(1) وغيرهما ولم يتفرد بها أبو هريرة رضي الله عنه بل جاءت من طرق قوية صحيحة عن غيره من الصحابة فقد رواها البخاري ومسلم في " صحيحيهما " عن غير أبي هريرة وهو الصحابي الجليل سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ (2)، - وهو رجل من شنوءة من أصحاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا، وَلَا ضَرْعًا (3)، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» قَالَ: أَنْتَ (4) سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ».
كما روى هذه الزيادة الإمام مسلم اَيْضًا بسنده عن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق يحيى بن سعيد القطان، وهو من هو في نقد المرويات ولفظها: وقال ابن أبي حاتم في حديث عند يحيى: «وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الغَنَمِ، وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ» (5) وكذلك رواها الترمذي في " جامعه " عن عبد الله بن مغفل، والنسائي في " سننه " وابن ماجه في " سننه " ومن ذلك ترى أن الزيادة محفوظة عن غير أبي هريرة، وكل رواية من هذه الروايات وردت عن الصحابي الذي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عدة، مما يبعد كل البعد - إن لم يُحِلْ - أن يكون الصحابي الراوية الحافظ تزيد في الحديث بل قد وردت هذه الزيادة عن ابن عمر نفسه، روى مسلم في صحيحه من طريق شعبة عن أبي الحكم قال سمعت ابن عمر
(1) و (2)" صحيح البخاري ": - كتاب المزارعة - باب اقتناء الكلب للحرث، و - كتاب الذبائح والصيد - باب من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية.
و" صحيح مسلم ": - كتاب المساقاة - باب الأمر بقتل الكلاب - وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها: لا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك.
(3)
ولا ضرعًا: أي ماشية، والمعنى من اقتنى كلبًا لغير حراسة زرع وحراسة ماشية.
(4)
القائل قال: هو الراوي عن سليمان بن أبي زهير وهو السائب بن يزيد وهو من صغار الصحابة.
(5)
" صحيح مسلم ": - كتاب المساقاة - باب الأمر
…
الخ.
يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلَاّ كَلْبَ زَرْعٍ، أَوْ غَنَمٍ، أَوْ صَيْدٍ، يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» (1) وكذلك روى هذه الزيادة عن ابن عمر النسائي قال الإمام النووي: " فَيُحَتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَحَقَّقَهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَادَهَا فِي حَدِيثِهِ الَّذِي كَانَ يَرْوِيهِ بِدُونِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَذَكَّرَ فِي وَقْتٍ [أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم] فَرَوَاهَا وَنَسِيَهَا فِي وَقْتٍ فَتَرَكَهَا، وَالحَاصِلُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَيْسَ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بَلْ وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي رِوَايَتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوِ انْفَرَدَ بِهَ لَكَانَتْ مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً» (2).
[ب] قول ابن عمر ليس فيه ما يدل على الشك فيما رواه أبو هريرة، ولا التشكيك فيه وليس فيه الطعن في صدق أبي هريرة وأمانته، وإنما فيه إشارة للباعث لأبي هريرة على حفظ هذه الرواية وهو أنه كان صاحب زرع، والعادة أن الشخص يحفظ ما يكون له مساس به، ويرحم الله الإمام النووي حيث قال:«[قَالَ الْعُلَمَاءُ]: لَيْسَ هَذَا تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا شَكًّا فِيهَا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَحَرْثٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَه، وَالْعَادَةُ أَنَّ المُبْتَلَى بِشَيْءٍ يُتْقِنُهُ مَا لَا يُتْقِنُهُ غَيْرُهُ وَيَتَعَرَّفُ مِنْ أَحْكَامِهَ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ» .
[ج] مما يؤكد هذا الفهم ويقويه ما كان يكنه ابن عمر لأبي هريرة رضي الله عنهما من التقدير والإجلال له والاعتراف بالحفظ، وقد ثبت أنه كان يترحم عليه في جنازته، ويقول:«كَانَ يَحْفَظُ عَلَيْنَا حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . وذكر البغوي في كتابه " الصحابة " بسند جيد عن ابن عمر أنه كان يقول: «إِنْ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لأَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْفَظَنَا لِحَدِيثِهِ» ، وهل غاب عن ذهن صاحب " الضحى " أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعرفون المداهنة، ولا المراوغة، ولا يخافون في الحق لومة لائم، فلو أن ابن عمر قصد تكذيب أبي هريرة في زيادته لصرح بذلك ولعنفه ابن عمر ما كان ليخشى أبا هريرة، وهو لا حول له ولا قوة!!!
(1)" صحيح مسلم ": - الكتاب والباب السابقان.
(2)
" شرح صحيح مسلم " للنووي: جـ 10 ص 234 وما بعدها.
ثم إني أقول: أليس المعنى الذي لأجله أباح الشارع الحكيم اقتناء كلب الماشية موجودًا اَيْضًا في كلب الزرع؟ فالزيادة ليست منكورة دراية، كما هي ثابتة رواية، ثم إذا كان هناك في الكلام احتمالان: أحدهما احتمال خير، والآخر احتمال شر، أليس الأولى والأليق بالمسلم فضلاً عن الصحابي أن يحمل الكلام على ما هو خير؟ بلى والله، ورضي الله عن الفاروق الملهم المحدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال:«لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِي أَخِيكَ المُؤْمِنِ شَرًّا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الخَيْرِ مَحْمَلاً» !!! الحق أن صاحب " الضحى " جافاه الحق والصواب فيما زعم.
(3)
قول صاحب " الضحى ": نعم رويت أشياء من هذا القبيل: فابن خلدون - مثلاً - يقول: قلة رواية أبي حنيفة للحديث: «إنه ضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي» وهي عبارة وإن كانت موجزة وغامضة بعض الغموض إلا أنها تدلنا على هذا الاتجاه، وهو عدم الاكتفاء بالرواة، بل عرضها على الطبائع النفسية والبيئة الاجتماعية "
والجواب:
الحق أن صاحب " الضحى " حرف النص الذي ذكره ابن خلدون في " مقدمته "، عن معناه المراد وحمله على غير محمله، وابن خلدون لم يرد ما أراده صاحب " الضحى " وهو عدم الاكتفاء بالرواة بل عرضها على الطبائع النفسية والبيئة الاجتماعية.
وإنما أراد مسألة أخرى وهي مسألة العمل بخبر الواحد (1) إذا كان الراوي قد عمل بخلاف مقتضى الحديث أو أفتى بخلاف ما يدل عليه، فأبو حنيفة وأصحابه في مثل هذا يحكمون بضعف الحديث ولو كان صحيحًا.
قال أحد علماء الأصول: «اشترط علماء الحنفية للعمل بخبر الواحد شروطا ثلاثة: أولها: ألا يعمل الراوي بخلاف ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خالف الراوي ما رواه بعمله أو فتواه فلا اعتبار لروايته، بل المعول عليه ما نقل عنه من عمل أو فتوى،
(1) المراد بخبر الواحد ما ليس بمتواتر ولا مشهور.
ووجهوا هذا الاشتراط بأن المفروض أن الراوي من الصحابة عدل ولا يعقل أن يترك لعدل ما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد صح عنده حديث آخر ناسخ له، وإلا كان ذلك طعنًا في عدالته (1) ومن هذا النص يتبين مراد ابن خلدون بمقالته ثم ذكر مذهب المالكية فقال: اشترط المالكية للعمل بخبر الواحد ألا يكون مخالفًا لعمل أهل المدينة (2).
ثم قال: تحت عنوان «مذهب الشافعية» لم يشترط الإمام الشافعي في العمل بخير الواحد ما شرط المالكية، ولا ما شرطه الحنفية، بل شرط فيه صحة السند والاتصال، فإن صح السند واتصل الحديث عمل به خالف عمل أهل المدينة أو لا، اشتهر أو لا.
فإذا عارض الحديث غيره من الأحاديث بحث عن الناسخ فإن وجد عمل به، وترك المنسوخ وإذا لم نجده فإن أمكن الجمع جمع بينهما أو أُوِّلَ بعضها حتى يزول التعارض بينهما وبشرط الاتصال لم يعمل بالحديث المرسل، وهو الذي سقط من سنده الصحابي إلا إذا أنضم إليه دليل آخر يقويه، ومن ثم عمل بمراسيل سعيد بن المسيب لأنه وجدها كلها مروية من طرق أخرى متصلة (3).
ثم ذكر مذهب الحنابلة فقال: إنهم يوافقون الشافعية في عدم اشتراط شيء مما شرطه الحنفية والمالكية وزادوا عليهم أنهم لم يشترطوا الاتصال، بل متى صح السند عملوا به سواء كان متصلاً أو غير متصل، ومن ثم عملوا بالمراسيل، وقدموها على القياس فمذهبهم أوسع المذاهب في العمل بالسنة (4).
والحق في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الجليل الشافعي وهو العمل بالحديث ما دام اتصل سنده، وكان رواته عدولَا ضابطين سواء وافقه الراوي (5) بعمله
(1)" أصول الفقه الإسلامي " للأستاذ الشيخ محمد شلبي: جـ 1 ص 142.
(2)
المرجع السابق: جـ 1 ص 146.
(3)
و (4) المرجع السابق: ص 148.
(5)
" تدريب الراوي بشرح تقريب النواوي ": ص 309.
وفتياه أم لا.
رأي علماء الحديث وعلومه:
قالوا: وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكمًا منه بصحته ولا بتعديل رواته لإمكان أن يكون ذلك منه احتياطا، أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر، وصحح الآمدي وغيره من الأصوليين أنه حكم بذلك وقال إمام الحرمين: إن لم يكن في مسالك الاحتياط، وفرق ابن تيمية بين أن يعمل به في الترغيب وغيره.
ولا مخالفته له قدح منه في صحته، ولا في رواته، لإمكان أن يكون ذلك لمانع من معارض أو غيره، وقد روى الإمام مالك حديث الخيار - يعني في البيع - ولم يعمل به لعمل أهل المدينة بخلافه، ولم يكن ذلك قدحًا في نافع راويه.
وقال ابن كثير: في القسم الأول نظر إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث وتعرض للاحتجاج به في فتياه، أو حكمه، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه.
وأجاب عن هذا العراقي فقال: إنه لا يلزم من كون ذلك الباب ليس فيه غير هذا الحديث أن لا يكون ثم دليل آخر من إجماع أو قياس، ولا يلزم الحاكم أو المفتي أن يذكر جميع أدلته ولا بعضها، ولعل له دليلا آخر، واستأنس بالحديث الوارد بالباب وربما كان يرى العمل بالضعيف وتقديمه على القياس.
***