الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعذَّر فهمه وتدبُّره، وقد كان الصحابة ومن جاء بعدهم يعلمون هذه الحقيقة.
روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: «إِنَّكَ [امْرُؤٌ] أَحْمَقُ!! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟» ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: «أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَإِنَّ السُنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ» . وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: «كَانَ الوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَحْضُرُهُ «جِبْرِيلُ» بالسُنَّة التي تُفَسِّرُ ذلك.
وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: «الْقُرْآنُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ» . وقال الإمام أحمد: «إِنَّ السُنَّةَ تُفَسِّرُ الكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ»
اسْتِقْلَالُ السُنَّةِ بِالتَشْرِيعِ:
وقد تستقل السُنَّة بالتشريع أحياناً وذلك كتحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها أو خالتها، وتحريم سائر القرابات من الرضاعة - عدا ما نص عليه في القرآن - إلحاقاً لهن بالمحرَّمات من النسب، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وتحليل ميتة البحر، والقضاء باليمين مع الشاهد إلى غير ذلك من الأحكام التي زادتها السُنَّة عن الكتاب (1).
حُجِيَّةُ السُنَّةِ:
وقد اتفق العلماء الذين يعتد بهم على حُجية السُنَّة، سواء منها ما كان على سبيل البيان أو على سبيل الاستقلال، قال الإمام الشوكاني:«إِنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلَالَهَا بِتَشْرِيعِ الأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلَاّ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي الإِسْلَامِ» (2).
(1)" مقدمة تفسير القرطبي ": ج 1 ص 37 - 39.
(2)
" إرشاد الفحول " للشوكاني: ص 29.
وصدق «الشوكاني» فإنه لم يخالف في الاحتجاج بالسُنَّة إِلَاّ الخوارج والروافض، فقد تمسَّكوا بظاهر القرآن وأهملوا السُنن، فضلُّوا وأضلُّوا، وحادوا عن الصراط المستقيم.
وقد استفاض القرآن والسُنَّة الصحيحة الثابتة بحُجية كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (2).
. قال ميمون بن مهران: «الرَدُّ إِلَى اللهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَدُّ إِلَى الرَّسُولِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ» .
وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وما قضى به النَّبِي صلى الله عليه وسلم يشمل ما كان بقرآن أو بِسُنَّةٍ، وقد دلَّت الآية على أنه لا يكفي في قبول ما جاء به القرآن وَالسُنَّةِ الإذعان الظاهري بل لا بُدَّ من الاطمئنان والرضا القلبي.
وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) فقد جعل سبحانه وتعالى طاعة الرسول من طاعته، وحذَّر من مخالفته فقال - عَزَّ شَأْنُهُ -:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) فلولا أنَّ أمره حُجَّةٌ ولازم لما تَوَعَّدَ على مخالفته بالنار.
(1)[آل عمران، الآية: 31].
(2)
[سورة النساء، الآية: 59].
(3)
[سورة النساء، الآية: 65].
(4)
[سورة النساء، الآية: 80].
(5)
[سورة النور، الآية: 63].
(6)
[سورة الأحزاب، الآية: 21].
وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) فقد جعل سبحانه أمر رسوله واجب الاتباع له، ونهيه واجب الانتهاء عنه.
وأما الأحاديث فكثيرة منها: ما رواه أبو داود في " سننه " عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا إِنَّنِي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ إِلَاّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْقِبَهُمْ (2) بِمِثْلِ قِرَاهُ» . قال الإمام الخطابي: قوله: «أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّ معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلوِّ مثل ما أعطي من الظاهر المتلوِّ
والثاني: أنه أوتي الكتاب وحياً يُتلى، وأوتي من البيان مثله أي أذن له أن يُبَيِّنَ ما في الكتاب فيعم ويخص، ويزيد عليه ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن».
وقوله: «يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ
…
» يحذِّر بهذا القول من مخالفة السُنن التي سنَّها مِمَّا ليس له من القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تمثَّلوا بظاهر القرآن وتركوا السُنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيَّروا وضلُّوا، وأراد بقوله:«مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ» أنه من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه (3).
وقد دلَّ الحديث على معجزة لِلْنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -فقد ظهرت فئة في القديم والحديث إلى هذه الدعوة الخبيثة وهي الاكتفاء بالقرآن عن الأحاديث، وغرضهم هدم نصف الدين أو إنْ شئت فقل: تقويض الدين كله، لأنه إذا أهملت الأحاديث والسُنن فسيؤدِّي ذلك - ولا ريب - إلى استعجام كثير من القرآن على الأمَّةِ وعدم
(1)[سورة الحشر، الآية: 7].
(2)
روي مشدَّداً ومخفَّفاً من المعاقبة أي يأخذ من أموالهم بقدر قراه.
(3)
" تفسير القرطبي ": ج 1 ص 38.
معرفة المراد منه، وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن فَقُلْ: على الإسلام العفاء.
وفي حديث العرباض بن سارِيَّةَ مرفوعاً: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» . رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خطب في حَجَّةِ الوَدَاعِ فقال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي تَرَكْتُ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» . وروى مثله الإمام مالك في " الموطأ ".
وهي صريحة في أنَّ السُنَّة كالكتاب يجب الرجوع إليها في استنباط الأحكام وقد أجمع الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - على الاحتجاج بالسُنن والأحاديث والعمل بها ولو لم يكن لها أصل على الخصوص في القرآن ولم نعلم أحداً خالف ذلك قط فكان الواحد منهم إذا عرض له أمر طلب حكمه في كتاب الله، فإن لم يجده طلبه في السُنَّة، فإن لم يجده اجتهد في حدود القرآن والسُنَّة وأصول الشريعة.
وقد وضع لهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم -هذا الأساس القويم بإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقد قال له: «بِمَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ» . قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو» . فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
وقد فهم الصحابة رجوع جميع ما جاءت به السُنَّة إلى القرآن من قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
روى البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن مسعود قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوسْتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» ، فقالت أم يعقوب:«مَا هَذَا؟» فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «[وَمَا لِي] لا َأَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قَالَتْ: «وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُهُ» ، قَالَ:«وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، [أَمَا قَرَأْتِ]: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2)» .
(1) و (2)[سورة الحشر، الآية: 7].