الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الله فيما شرع وحكم.
إذا علمنا كل ذلك - وقد دَلَّلْنَا فيما سبق - أَيْقَنَّا أنَّ الرواية بالمعنى لم تَجْنِ على الدِّينِ، وأنها لم تُدْخِلْ على النصوص التحريف والتبديل كما زعم بعض المُسْتَشْرِقِينَ وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُمْ، وأنَّ الله الذي تَكَفَّلَ بحفظ كتابه قد تَكَفَّلَ بحفظ سُنَّة نبيِّه من التحريف والتبديل، وقَيَّضَ لها في كل عصر من
ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين، فذهب الباطل الدخيل، وبقي الحق مورَدًّا صافياً للشاربين {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (1).
والآن لنشرع في الرَدِّودِ والدفاع، ومن الله أستمدُّ العونَ والتوفيقَ.
نَقْدٌ إِجْمَالِيٌّ لِكِتَابِ أَبِي رَيَّةَ:
في رمضان من عام 1364 هـ (أغسطس عام 1945) نشر الأستاذ «محمود أَبُو رَيَّةَ»
مقالاً بـ " الرسالة " العدد «633» تحت عنوان «الحَدِيثُ المُحَمَّدِي» ضَمَّنَهُ آراءه في بعض مباحث الحديث، وذكر أنها خلاصة كتاب سينشر، فلما قرأته وجدت فيه عُزُوفاً عن الحق والصواب في بعض ما كتب، فأخذتُ بالقلم وكتبت رَدًّا أرسلتُ به إلى " الرسالة " فنشر بالعدد «642» وقلت في ختام الرَدِّ:«وحيث إنَّ المقال خلاصة كتاب سينشر، فإني لأهيب بالأستاذ أنْ يراجع نفسه في بعض الحقائق التي تَكَشَّفَتْ له، وليكر على الكتاب من جديد بالتمحيص والتدقيق، وعلم الحديث ليس بالأمر الهَيِّنِ، والبحث فيه يحتاج إلى صبر وأناة وتمحيص وتدقيق» وقد أبى الكاتب أنْ يُسَلِّمَ بكل ما أخذته عليه، فكتب رَدًّا على رَدِّي نشر بـ " الرسالة " العدد «654» وذكر في مقدمة رَدَّهِ أنَّ مقالي «ينزع إلى الحق ويطلبه، وأنه يستحق العناية ويستأهل الرَدَّ» ثم تَرَيَّثَ الأستاذُ في نشر ما عَنَّ له من فصول هذا الكتاب فقلتُ: لعلَّه راجع نفسه.
وفي عامنا هذا (1377 هـ - 1958 م) طلع علينا الأستاذ «أَبُو رَيَّةَ» بكتاب تحت عنوان: " أضواء على السُنَّة المحمدية " فقرأت الكتاب قراءة باحث مُتثبَّتٍ مُستبصرٍ، فإذا هو صورة مُكَبَّرَة لما أوجز في مقاله القديم، وإذا بالمؤلف لم يُغَيِّرْ
(1)[سورة سبأ، الآية: 49].
من أفكاره إِلَاّ في القليل النادر، فعزمت على الرَدِّ عليه رَدًّا مُسْهَباً ولا سيما أنَّ الكتاب أحدث بلبلة في الأفكار عند من لم يتعمَّقوا في دراسة السُنَّة، وقوي عزمي على الرَدِّ رغبات الكثيرين من الفضلاء الذين لا يزالون يذكرون ردِّي الموجز القديم، وحُسْنُ ظَنِّهِمْ بِي.
وقد رأيت أنْ أنشر هذه الرُّدُودَ على صفحات مجلة الأزهر " الزهراء "، وأي مجلة أحق بمثل هذه البحوث من مجلة الأزهر؟ وهي لسان الأزهر وحاملة لواء الإسلام والتعريف به والذبِّ عنه، وإليها يسكن المسلمون في جميع أقطار الأرض.
وقد آثرت أنْ أقدِّم بين يَدَيْ النقد التفصيلي للكتاب صورة موجزة، وإنْ شئتَ فَقُلْ خطوطاً عريضة تعطينا فكرة عن الكتاب وطريقة مؤلِّفه ومنهجه في البحث، وإليك البيان:
1 -
إنَّ المؤلف يدَّعي دعاوى عريضة ولا يُدَلِّلُ عليها، أو يحاول أنْ يُدَلِّلُ عليها، فيعوزه الدليل، أو يستدل فيأتي الدليل قاصراً عن الدعوى .. وذلك مثل ما ذكره في ص (5) من: «أنَّ علماء الحديث قد بذلوا أقصى جُهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته .. على حين أهملوا جميعاً أمراً خطيراً كان يجب أنْ يعرف قبل النظر في هذا العلم ودرس كتبه - ذلك هو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تَحَدَّثَ به النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وهل أمر بكتابة هذا النص بلفظه عند إلقائه أو تركه ونهى عن كتابته؟ وهل دَوَّنَهُ الصحابة ومن بعدهم أو انصرفوا عن تدوينه؟ وهل ما روي منه قد جاء مطابقاً لحقيقة ما نطق به النَّبِي - لفظاً ومعنى - أو كان مخالفاً له؟
…
ويعلم الله والراسخون في العلم أنَّ كل ما ادَّعَى أنهم أهملوه جميعاً قد قتلوه بحثاً وبذلوا فيه غاية الوسع.
ومثل ما ذكره في [ص 7] من: «أنه وجد أنه لا يكاد يوجد في كُتُبِ الحديث كلها - مِمَّا سَمَّوْهُ صحيحاً أو حسناً - حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومُحْكَمِ تركيبه
…
».
ومثل قوله في [ص 13]: «ولما كان هذا البحث لم يعن به أحد من قبل
…
رأيت أنْ أسوِّي منه كتاباً مُبَوَّباً جامعاً أذيعه على الناس حتى يكونوا على بَيِّنَةٍ من أمر الحديث المحمدي».
وفي الحق أنه ما مِنْ بحث عرض له إِلَاّ قد أشبع العلماء فيه القول، وَلِنَدَعْ التدليل إلى مقام التفصيل.
2 -
أنَّ المؤلف اعتمد في التدليل على بعض ما ذهب إليه على كلام المُسْتَشْرِقِينَ!! وأي والله المُسْتَشْرِقِينَ، وذلك كما فعل في ص 81، 171، 172 وكيف خَفِيَ على المؤلف الحصيف أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ - إِلَاّ القليل منهم - يحملون الضغن للإسلام والمسلمين، وأنهم نَفَثُوا سمومهم في بحوث ادَّعُوا أنها حُرَّةٌ نزيهة - وما هي من النزاهة في شيء - وأنَّ من مقاصدهم تقويض صرح الإسلام الشامخ، وذلك بتقويض دَعَامَتَيْهِ القرآن والسُنَّة؟ وأنهم لما عَزَّ عليهم التشكيك في القرآن - على كثرة ما حاولوا - رَكَّزُوا معظم جهودهم في السُنَّة بحُجَّةِ عدم تواترها في تفصيلها، فلبسوا الأمر على بعض الناس حتى كان من أثر ذلك ما يطلع علينا بعض الباحثين في الأحاديث النبوية بين الحين والحين - ومنهم الأستاذ المؤلف - من آراء مبسترة جائرة، ويشهد الله أنها مصنوعة في معامل المُسْتَشْرِقِينَ، ثم اسْتَوْرَدَهَا هؤلاء فيما اسْتَوْرَدُوا من أفكار وادَّعَوءهَا لأنفسهم زُوراً وبُهْتَاناً.
3 -
إنَّ المؤلف أفاض في بعض المباحث وأكثر من النقول وذلك لكي يُرَتِّبَ عليها ما يريد من نتائج هي أبعد ما تكون مترتبة عليها، وذلك كما صنع في مَبْحَثَيْ الرواية بالمعنى وضررها الديني واللغوي والأدبي، بينما أوجز إيجازا مخلا في بعضها كما فعل في مَبْحَثَيْ العدالة والضبط وهل تعلم أنَّ هذين المَبْحَثَيْنِ اللَّذَيْنِ يقوم عليهما علم الرواية ونقد المرويات في الإسلام لم يحظيا من الكتاب إِلَاّ ببضعة أسطر؟
والذي يظهر لي أنه أمر مقصود من المؤلف، ذلك أنه لو ذكر شروط العدالة والضبط على ما أصلها وقعدها أئمة الحديث وصيارفته، لعاد ذلك بالنقض على كثير مِمَّا ذكره المؤلف في كتابه من استنتاجات لا تسلم له.
ولا أكون مغالياً أو متعصِّباً إذا قلت: إنَّ الأصول التي وضعها علماء أصول الحديث لنقد المرويات، هي أرقى وأدقَّ ما وصل إليه العقل البشري في القديم والحديث وسأفيض في بيان ذلك عند النقد الموضوعي إنْ شاء الله.
4 -
من عجيب أمر هذا المؤلف أنه يستشهد بأحاديث موضوعة، ما دامت تساعده على ما يريد ويهوى من آراء.
وذلك مثل ما فعل في [ص 29] من استشهاده بما روي أنَّ عمر حبس ابنَ مسعود وأبا موسى وأبا الدَرْدَاءَ في المدينة على الإكثار من الحديث فإنه خبر ظاهر الكذب والتوليد - كما قال ابن حزم - ونِسْبَتُهُ رِوَايَتَهُ إلى ابن حزم ليس من الأمانة العلمية في النقل.
ومثل حديث عرض السُنَّة على القرآن فهو موضوع باتِّفاق الأئمة.
على حين حاول أنْ يُشَكِّكَ في أحاديث صحيحة ثابتة مثل حديث «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» فقد نقده من ناحية متنه مُوهِمًا اختلافه [ص 252].
وطعن في حديث «الإسراء والمعراج» وحَمْلِ موسى محمدا- عَلَيْهِمَا الصَلَاةُ وَالسَّلَامُ - على مراجعة ربه، واعتبر ذلك من الإسرائيليات [ص 126].
كما اعتبر ذكر المسجد الأقصى في حديث «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَاّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» من الإسرائيليات [ص 129]، والإمام ابن تيمية وهو من أئمة المنقول والمعقول وينقل عنه المؤلف كثيراً في كتابه، احتجَّ بهذا الحديث ولم يُبْدِ عليه أي مأخذ من المآخذ، وهو من الأحاديث التي اتفق عليها الشيخان البخاري ومسلم، إلى غير ذلك مِمَّا ستعلم الكثير منه عندما نتعرَّض للنقد التفصيلي.
ولا أكاد أعلم للمؤلف سلفاً في الطعن في هذه الأحاديث من الأئمة، اللَّهم إِلَاّ أنْ يكون السادة المُسْتَشْرِقُونَ وَهِيَ شَنْشَنَةٌ نَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ.
وإنَّ مِمَّا يؤسف ويدهش أنه اعتبر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه البخاري وغيره «إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن» خرافة من خرافات كعب الأحبار امتدَّت إلى تلميذه عبد الله بن عمرو [ص 114]. ولا أدري كيف يتَّفق هذا وقول الحق تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (1).
5 -
جارى المؤلف المُسْتَشْرِقِينَ حينما تكلَّم عن العصبية المذهبية والسياسية في فصل «الوضع» فحكم على كل ما يَدُلُّ على فضيلة لصحابي أو يشهد لفكرة أو رأي أنه موضوع، وهو تصرف لا يرتضيه المُنْصِفُونَ المُتَثَبِّتُونَ ولا ترتضيه قواعد البحث النزيه المستقيم، فمن ثَمَّ طعن في كثير من الأحاديث الصحيحة في الفضائل، وغير
(1)[سورة الأعراف، الآية: 157].
معقول ألَاّ يكون لصحابة النَّبِي الذين مَثَّلَهُمْ في التوراة والإنجيل - فضائل في جملتهم، وألَاّ يكون لبعضهم من الفضيلة والمِيزَةِ ما ليس للآخر، فَادِّعَاءُ أنَّ كُلَّ ما ورد في الفضائل، أو كُلَّ ما يشهد لفكرة أو رأي موضوع إفراط وإسراف في الحُكْم بغير دليل، وكذلك ادعاء أنَّ كُلَّ ما ورد في الفضائل ونحوها صحيح تفريط وتقصير في البحث، فلم يبق إِلَاّ الطريق الوسط العدل، وهو الطريق الذي يهتدي فيه الباحث بصحيح النقد وصريح العقل إلى التمييز بين الصحيح وغير الصحيح، وبيان المقبول من المردود، وهذا هو ما صنعه جهابذة الحديث وأئمة النقد في موقفهم من أحاديث الفضائل ونحوها.
6 -
لقد تحامل المؤلف تحاملاً لا يرتضيه المُنْصِفُونَ لذي دِينٍ وَخُلُقٍ على صحابي من صحابة رسول الله وهو أبو هريرة رضي الله عنه، ونحن لا نَدَّعِي العصمة لأحد من البشر، حاشا الأنبياء، ولكنا نريد أنْ نُنَزِّلَ للناسَ منازلهم في الفضل والعلم، ولا نَحْجَرُ على العقول، فلكل باحث أنْ ينتقد ويبدي ما يشاء من آراء في حدود قواعد النقد الصحيحة، ولكنا نُحِبُّ للناقد أنْ يأخذ نفسه بأدب النقد، وأنْ يراعي النُّصْفَةَ، وأنْ يكون عفيف القول، كريم التعبير، مُتَرَفِّعاً عن الإسفاف، كما هو الشأن في العلماء، وقد كان سلفنا الصالح يختلفون ويتجادلون، ولكنَّهم كانوا يُحَلِّقُونَ في سماوات من العِفَّةِ وَالتَرَفُّعِ عن الهجر من القول، والإنصاف وعدم التَجَنِّي.
ولا أدري كيف استباح المؤلف لقلمه، فضلاً عن أدبه، أنْ يرمي أبا هريرة بكل جارحة من القول تعليقا على كلمة لسيدنا أبي هريرة قالها تَحَدُّثاً بنعمة الله (1)، قال المؤلف ما نصه ص 187: «ولقد اسْتَخَفَّهُ أَشَرُهُ وَزَهْوُهُ - يعني أبا هريرة - وَنَمَّ عليه أصله، ونحيزته، فخرج عن حدود الأدب والوقار! مع هذه السيدة الكريمة فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان يحلم به: إني كنت أجيراً لبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقتُ بهم، وإذا نزلوا خدمتهم والآن تزوَّجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني
…
إلخ».
(1) في " الإصابة " عن مُضَارِبْ قال: «كنتُ أسير من الليل فإذا رجل يُكَبِّرُ، فقلتُ: ما هذا؟ قال: كثر شكر الله على أنْ كنتُ أجيراً لبُسرة بنت غزوان» ثم ذكر القصة.
ومِمَّا أخرجه ابن سعد أنه قال: أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي، فكانت تكلفني أنْ أركب قائماً وأورد حافياً، فلما كان بعد ذلك زَوَّجَنِيهَا اللهُ، فكلفتها أنْ تركب قائمة وأنْ تورد حافية.
ويعلِّق الباحث الأديب على هذه العبارة، فيقول بالهامش ما نصه: انظر إلى هذا الكلام الذي تعرَّى عن كل مروءة وكرم، واتَّسم بكل دناءة ولؤم، فتجده يُبَاهِي بِامْتِهَانِ زوجه والتَشَفِّي منها، وهل يفعل مثل ذلك رجل كريم خرج من أصل عريق (1).
وبحسبي أنْ أضع هذه العبارات، التي نضحت بها نفس المؤلف الأديب بين يدي القُرَّاءِ، وسأدع الحُكْم عليه، لمحكمة الأدب السامي، والضمير الإنساني، وسيكون الحُكْم - لا ريب - قاسياً.
هذا إلى ما جاء في تضاعيف كتابه من رمي المنتصرين لِلْسُنَّةِ، المخالفين له في آرائه بالحَشْوِيَّةِ حيناً، وبالمُقَلِّدَةِ والجَامِدِينَ حيناً آخر، إلى غير ذلك مِمَّا ينبغي أنْ يُنَزَّهَ التأليف والنقد عنه.
هذا وليطمئن المؤلف أَبُو رَيَّةَ، أني لن أتعرَّض لعقيدته ومذهبه ونشأته، ولا لكرم أصله أو عدم كرمه، ولا لمروءته أو عدم مروءته، إلى غير ذلك مِمَّا تناول به السَيِّدَ الجليل أبا هريرة، فقد أخذت نفسي منذ أمسكت بالقلم أنْ أَتَرَفَّعَ عن مثل هذه السفاسف .... ! والسباب والشتم إنما هي بضاعة العاجز الذي لا يسعفه المنطق السليم والحُجَّة الدامغة ولن يرى مني إِلَاّ النقد الموضوعي للكتاب.
ومن الله أستمد العون والتوفيق، فاللَّهُمَّ أَعِنْ وَسَدِّدْ.
(1) هذا ما قاله أَبُو رَيَّةَ في السيد أبي هريرة، وقال الإمام ابن إسحق فيه:«كَانَ وَسِيطاً فِي دَوْسٍ» ، فانظر فرق ما بين المقالتين. والوسيط: الرجل الفاضل ذو النسب العريق.