الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإني لأقول:
إنَّ هذا القول فيه إسراف وشطط في الحُكْم فليست الكثرة من الأحاديث من آثار التطور في الإسلام، وأنها لا تمثل الواقع في نسبتها إلى النَّبِي
- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - كما زعم كاتب هذه المادة في " دائرة المعارف الإسلامية " بل الكثرة من الأحاديث المدونة ثابته بطرق الإثبات الموثوق بها، وَمُتَلَقَّاةٌ عن النَّبِي وقد احتاط أئمة الحديث عند جمعه غاية الاحتياط وعنوا بنقد السند والمتن عناية فائقة، كما وضحت ذلك فيما سبق بما لا يدع مجالا للشك في هذا، وَمَيَّزُوا المقبول من المردود، وكان لهم إلى جانب ما وضعوا من أصول وقواعد لنقد المرويات مَلَكَةً خاصة يُمَيِّزُونَ بها بين الغث والسمين، ونحن لا ننكر ما كان للخلافات السياسية والمذهبية والكلامية من أثر في وضع الأحاديث، ولكن الذي ننكره غاية الإنكار أنْ تكون الكثرة من الأحاديث المُدَوَّنَة من آثار الوضع والاختلاق.
طَعْنُهُ فِي مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه
-:
وفي ص [91] ذكر فصلا عنوانه «معاوية والشام» ذكر فيه ما وضع في فضائل معاوية - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - وبلاد الشام، وذكر في حق هذا الصحابي الجليل أنه من الطلقاء ومن المُؤَلَّفَةِ قلوبهم.
وقد غاب عنه أنَّ الكاتبين في تاريخ الصحابة ذكروا عن الواقدي وابن سعد أنه أسلم بعد الحُديبية قبل الفتح وأنه أخفى إسلامه مخافة أهله (1) وأنه كان في عُمْرَةِ القضاء مسلماً، وإذا كان هو وأبوه من المُؤَلَّفَةِ قلوبهم في رأي البعض، ففي رأي الكثيرين أنه ليس من المُؤَلَّفَةِ قلوبهم، قال أبو عمر بن عبد البر: معاوية وأبوه من المُؤَلَّفَةِ قلوبهم ذكره في ذلك بعضهم وهو يشعر بأنَّ الكثيرين لا يريدون هذا الرأي، ولذا نجد الحافظ المُحَقِّقَ ابن حجر لم يذكر في ترجمته شيئاً من هذا، وإنما ذكر في ترجمة أبيه أنه من المُؤَلَّفَةِ قلوبهم، ومهما يكن من شيء فقد أسلم وحسن إسلامه، وكان أحد كتبة الوحي بين يدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وكان له جهاد مشكور في نشر دعوة الإسلام وتوسيع فتوحاته، ولم تعرف عنه دخلة في إيمانه ولا ريبة في إخلاصه لإسلامه.
(1)" الاستيعاب ": ج 3 ص 395 على هامش " الإصابة ": ج 3 ص 433، و " فتح الباري ": ج 6 ص 82.
ونحن لا نشك أنه وضع في فضائله أحاديث كثيرة، وكيف وقد أحصى الأئمة كل ذلك، وكلنا نُجِلُّهُ عن أنْ يكون له دخل فيما وضع في فضائله وفضائل الشام، بل وعن الرضا به، ولئن قال الإمام اسحق بن راهوية: أنه لم يصح في فضائل معاوية شيء، فقد ذكر له الإمام الكبير البخاري بعض فضائله، ولا يضيره كون الإمام البخاري آثر التعبير في حقه بلفظ «باب ذكر معاوية رضي الله عنه» ولم يقل «باب فضل معاوية» كما صنع في غالب الأبواب، فقد صنع مثل هذا في فضل العباس وابنه عبد الله رضي الله عنهما (1) كما لا يضيره أن البخاري رحمه الله لم يخرج حديثاً مرفوعاً على شرطه في فضله وأنه خرج في " صحيحه " حديثين موقوفين عن ابن عباس رضي الله عنه أحدهما يثبت الصُحْبَةَ، والثاني الفقه في الدين، وبحسب معاوية فضلاً عند المنصفين أنْ يكون صحابياً وفقيهاً، ثم إنَّ عدم ثبوت حديث في فضائله مرفوعاً إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم على شرط البخاري لا ينفي ثبوت أحاديث في فضائله خَرَّجَهَا غير البخاري من أصحاب الكتب المعتمدة، وقد ذكر المؤلف نفسه حديثين مرفوعين في فضائله رواهما الترمذي، وهما من أصح ما ورد في فضائله، وقد عرض لما ورد في فضائله الحافظ الناقد ابن كثير في " البداية والنهاية " (2) وبين الموضوع من غيره ثم قال:«ثُمَّ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مَوْضُوعَةً بِلَا شَكٍّ فِي فَضْلِ مُعَاوِيَةَ، أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا، وَاكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الأَحَادِيثِ الصحاح والحِسَانِ والمستجادات عما سواها من الموضوعات وَالْمُنْكَرَاتِ» وإذا فليس من الإنصاف في البحث أنْ نجعل كل ما ورد في فضائله موضوعاً وأنْ نجرده من كل خصيصة وفضل.
وأيضا فإننا لا ننكر ما وضع في فضل الشام وغيرها من البلاد المشهورة وكذلك لا ننكر أنَّ أحاديث الأبدال التي عرض لها مدسوسة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم كما نَبَّهَ على ذلك نُقَّادُ الحديث وجهابذته، وإنْ كان البعض قد أثبت بعضها، ولكن الذي ننكره البتة أنْ يكون معاوية رضي الله عنه هو الذي أوحى بهذا الاختلاق، وأنْ يكون له ضلع فيه، وإليك غمزه ولمزه في [ص 94] قال: «وما كاد معاوية يذكر - يعني في خطبته التي خطبها لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن سَنَةَ 41 هـ -
(1)" فتح الباري ": ج 6 ص 62، 80.
(2)
ج 8 ص 210 وما بعدها.
أنَّ الشام هي أرض الأبدال حتى ظهرت أحاديث مرفوعة عن هؤلاء الأبدال ثم ذكرها».
ومِمَّا يلقم المؤلف حجراً وينفي الظنة والتُّهمة عن معاوية رضي الله عنهما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من أنَّ لفظ الأبدال لم يَرِدْ إِلَاّ في حديث شامي منقطع الإسناد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وقال: إنَّ الأشبه أنه ليس من كلام النَّبِي، ومن العجيب حقاً أن المؤلف نقل كلام ابن تيمية ضمن نقله عن السيد رشيد رضا رحمه الله في تزييف أحاديث الأبدال من [ص 95 - 99]، فلو أنَّ هذا الحديث كان مروياً عن معاوية لقلنا معه: لعل وعسى: ولكن الأمر كما ترى، وقد حاول السيد رشيد أنْ يُبَيِّنَ أنَّ الحديث المروي عن علي رضي الله عنه على فرض ثبوته ليس المراد الأبدال بالمعنى المعروف عند الصُّوفِيَةِ، ولكن المُحَرِّفِينَ وَالمُتَزَلِّفِينَ هم الذين حملوه على هذا، ومن أعجب العجب اَيْضًا أنَّ المؤلف ينقل نقولاً يستجودها، وهي في الواقع ونفس الأمر تَرُدُّ ما يعتنقه ويهواه من آراء مبتسرة، وقد فعل ذلك في مواضع كثيرة من كتابه.
وقُصَارَى القول أنَّ أئمة الحديث وصيارفته قتلوا المرويات بحثاً، وأفنوا أعمارهم فيها، ولم يَدَعُوا رواية في الفضائل وغير الفضائل إِلَاّ وبَيَّنُوا مكانها من الصحة أو الحسن أو الضعف والاختلاق، وبحسبك أنْ تستعرض الكتب التي أُلِّفَتْ في الأحاديث الموضوعة، وستتبين صدق ما أقول، فهم لم يُقَصِّرُوا في خدمة السُنَّة وتزييف الزائف منها، ولكن المُتَأَخِّرِينَ هم الذين قصرت بهم الهِمَمَ عن العلم بما دونه، فمن ثم وقعوا في كثير من الأخطاء والأغلاط، قال في [ص 101]:«إنَّ وُضَّاعَ الحديث وضعوا أحاديث تسوغ لهم ما يضعون» ثم قال: «وأورد ابن حزم في " الأحكام " عن أبي هريرة مرفوعا قال: «إِذَا حَدَّثْتُمْ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُوَافِقُ الْحَقَّ فَخُذُوا بِهِ حَدَّثْتُ بِهِ أَوْ لَمْ أُحَدِّثْ» . وعنه اَيْضًا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَلَغكُمْ عَنِّي مِنْ َقْوٍل حَسَنٍ لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا قُلْتُهُ» ونحن لا نشك - ولا أي عاقل - في أنَّ هذين الحديثين وما على شاكلتهما - تناقضاً وتهافتاً - موضوعان، وأنَّ نظرة فاحصة إلى المتن لَتَدُلُّنَا على أنَّ هذا لا يصدر عن معصوم فضلا عن عاقل، فكيف يتأتى من أعقل العقلاء أنَّ ما لم يقله ما دام حسناً فقد قاله؟! بل كيف يأمر بالأخذ بحديث حَدَّثَ به أو لم يُحَدِّثُ؟ إنَّ هذا لعجب عُجاب!