الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يحفظ القرآن كله في حياة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لما عاد ذلك عليه بالنقيصة، لأن بعض الصحابة على جلالتهم ما كانوا يحفظون القرآن كله في حياة النَّبِيِّ، ثم تهيأ بعد ذلك حفظه كله، وقد قدمت أن أبا هريرة تصدر للعلم والفتوى زمنًا طويلاً، وكيف يتهيأ لمن لم يحفظ القرآن التصدر للعلم والفتوى؟؟.
ثم أتدري أيها القارئ من أين أخذ أنه لم يحفظ القرآن؟ لعله أخذه من تعليقته التي ذكرها في [هامش ص 183] حيث قال: «روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة» ثم علق فقال: فترى أنه لم يصل إلى درجة أحد الموالي!!! فهل هذا منطق يا أصحاب العقول؟!!.
ولو كان في عدم ذكر أبي هريرة في هذا الحديث إهمالا له وإزراء به فماذا يقول في مشاهير الصحابة الذين لم يذكروا في هذا الحديث، ولم يوص النبي بأخذ القرآن منهم كالخلفاء الراشدين وزيد بن ثابت وأبي الدرداء والعبادلة الأربعة وغيرهم ممن كانوا يحفظون القرآن كله؟ فهل نطبق عليهم هذا المنطق الأعرج المعكوس؟!!
أما ما ذكره من قوله: ولكن الأمر جرى على غير ذلك، فهو لا يزيد عن كونه سفاها وسبابا ورجما بالغيب، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم، وفيما قدمته من ردود ما فيه الكفاية.
طَعْنُهُ فِي حَدِيثِ الوِعَاءَيْنِ وَزَعْمِهِ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لأَحَادِيثَ أُخْرَى:
قال في [ص 182] تحت عنوان «حفظ الوعاءين» .
أخرج " البخاري " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ» . وهذا الحديث معارض لحديث رواه الجماعة بألفاظ متقاربة عن علي رضي الله عنه فقد سئل هل عندكم كتاب؟ فقال: «لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة» . وكذا يعارض ما رواه " البخاري " عن عبد العزيز بن رفيع، قال: دخلت أنا وشداد بن معقل، على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له شداد بن معقل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: «ما ترك إلا ما بين الدفتين» ، ولو كان هناك شيء يؤثر به النبي صلى الله عليه وسلم أحد خواصه،
ويحجبه عن سائر أصحابه لكان علي أولى الناس جميعا بذلك، وذلك بأنه ربيبه، وابن عمه، وأول من أسلم، وزوج ابنته ولم يفارقه في سفر ولا حضر، فإن لم يكن عَلِيٌّ فَالصِدِّيقُ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ أو
…
أو
…
إلخ من عدد من الصحابة والصحابيات.
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ:«قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَاّ حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ،
وكيف يكون ذلك؟ وأين يذهب ما رواه " الصحيحان " عَنْ حُذَيْفَةَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَاّ حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» . وقد قال بعض العلماء - كما جاء في " تاريخ ابن عساكر ": «إن اعتقاد ذلك - أي أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كتم عن جميع الصحابة شيئا يؤدي إلى نسبة الخيانة إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم معاذ الله!» .
والجواب:
إن هذا الحديث رواه الإمام البخاري في " صحيحه "، وهو في غاية الصحة رواية ودراية، والمراد بالوعاءين نوعان من الأحاديث التي تلقاها عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فالكلام من قبيل المجاز وهو مجاز معروف مستساغ وأحد الوعاءين - وهو ما يتعلق بأحاديث الأحكام والآداب والمواعظ - قد بَلَّغَهُ حتى لا يكون كاتمًا وأما الآخر وهو ما يتعلق بالفتن والملاحم وأشراط الساعة، والإشارة إلى ولاة السوء، فقد آثر أن لا يذكر الكثير منه حتى لا يكون فتنة لسامعه، أو يسبب له التحديث به الضرر في نفسه أو ولده أو ماله من أمراء السوء، قال العلامة ابن كثير في (1) " البداية والنهاية ":«وَهَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي كَانَ لَا يَتَظَاهَرُ بِهِ هُوَ الْفِتَنُ وَالْمَلَاحِمُ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ النَّاس مِنَ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ، وَمَا سَيَقَعُ التِي لَوْ أَخْبَرَ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا لَبَادَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَرَدُّوا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الحَقِّ» وقال الإمام الحافظ ابن حجر في " الفتح "(2): «وَحَمَلَ العُلَمَاء الوِعَاء الذِي لَمْ يَبُثَّهُ عَلَى الأَحَادِيث التِي فِيهَا تَبْيِينُ أَسَامِي أُمَرَاءَ السُّوءِ وَأَحْوَالِهِمْ وَزَمَنِهِمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَكُنِّي عَنْ بَعْضه وَلَا يُصَرِّح بِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسه مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ:" أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ رَأْس السِّتِّينَ وَإِمَارَة الصِّبْيَان "
(1) ج 8 ص 109.
(2)
ج 1 ص 175.
يُشِير إِلَى خِلَافَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لأَنَّهَا كَانَتْ سَنَة سِتِّينَ مِنَ الهِجْرَة. وَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَاتَ قَبْلهَا بِسَنَةٍ
…
وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّ الأَحَادِيث المَكْتُومَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا وَسِعَهُ كِتْمَانُهَا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ مِنَ الآيَةِ (1) الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ مَنْ كَتَمَ العِلْمَ. وَقَالَ غَيْرهُ: " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعَ الصِّنْفِ الْمَذْكُورِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَة وَتَغَيُّرِ الأَحْوَالِ وَالمَلَاحِمِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَيُنْكِرُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَأْلَفْهُ، وَيَعْتَرِضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ» (2).
وأيا كان تأويل الحديث فليس فيه ما يدل على أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَصَّهُ بشيء على ذلك دون غيره، حتى يرتب المؤلف على الحديث كل هذه الإشكالات التي قالها وهي غير ذات موضوع، ولم نعلم أحدًا قط من علماء اللغة والبلاغة والأدب اعتبر هذا الأسلوب مفيدًا للتخصيص، اللَّهُمَّ إِلَاّ في ذهن هذا المؤلف الذي يزعم أنه أديب، وما هو من أهل الأدب في شيء!.
أما ما ذكره من حديث عَلِيٍّ وابن عباس، فلا دخل لهما بما ذكرناه في تأويل حديث أبي هريرة، فحديثه في واد وحديث عَلِيٍّ وابن عباس في واد آخر، ذلك أن الشيعة ومن على شاكلتهم كانوا يزعمون أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَصَّ آل بيته ولا سيما عَلِيًّا بأشياء لم يطلع غيرهم عليها، فمن ثم سأل السائل عَلِيًّا، وأجابه عَلِيٌّ بما هو الحق والواقع، قال الحافظ ابن حجر (3) في شرحه للحديث الذي أشار إليه المؤلف:
(1) يريد آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [سورة البقرة، الآية: 159]، الآية.
(2)
في حديث ابن مسعود موقوفاً عليه: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَاّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» .
(3)
" الفتح ": ج 1 ص 165.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) قَيْسٌ بْنُ عُبَادٍ (بضم المهملة وتخفيف الموحدة) القَيْسِيُّ الضُّبَعِيُّ (بضم المعجمة وفتح الموحدة) أبو عبد الله البصري قدم المدينة في خلافة عمر وروى عنه وعن علي وعمار وأبي ذر وعبد الله بن سلام وسعد بن أبي وقاص وابن عمرو وأبي بن كعب وغيرهم.
روى عنه ابنه عبد الله وصهره عبد الله بن مطر وابن ابنه النضرة بن عبد الله بن مطر وأبو مجلز والحسن وابن سيرين وأبو نضرة العبدي وغيرهم قال بن سعد كان ثقة قليل الحديث وقال العجلي كان ثقة من كبار الصالحين وقال النسائي وابن خراش ثقة وكانت له مناقب وحلم وعبادة وذكره أبو مخنف عن شيوخه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع بن الأشعث.
انظر: " تهذيب التهذيب " لابن حجر العسقلاني، 8/ 400، ترجمة رقم 713، الطبعة الأولى: 1326 هـ، نشر مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند.
و" تقريب التهذيب "، تحقيق الشيخ محمد عوامة، ترجمة رقم 5582، 1/ 457، الطبعة الأولى: 1406 هـ - 1986 م، نشر دار الرشيد - سوريا
في حديث آخر: «وَاَللَّه إِنِّي لأَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَة هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ» فليس في حديث أبي هريرة ما يعارضه، لأن أبا هريرة لم يقل: إنه أعلم الناس، على أن حذيفة حلف على حسب ظنه، وقد يصدق في ظنه فيكون هو أعلم الناس بالفتن، وقد لا يصدق في ظنه فيكون هناك من أعلم منه بها.
وهكذا يتضح أنه لا تعارض بين الحديثين قط، بل ولا شبهة تعارض، وأما ما ذكره بعد من أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لو كان مُؤْثِرًا أَحَدًا بشيء لآثر عَلِيَّا وَفُلَانًا وَفُلَانًا مِمَّنْ عَدَّهُمْ، فهو كلام خطابي وتمويه لأجل النيل من أبي هريرة.
وأيضا فلا تعارض قط بين حديث أبي هريرة وحديث حذيفة: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ
…
الحديث» لأن حذيفة لم يزعم أن النَّبِيَّ خصه به، ولا أن غيره لم يحفظ مثل ما حفظ، بل عبارته تدل على أن غيره حفظه، ففي الحديث:«حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» وتمام الحديث كما في " مسلم ": «قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ» ولا يخفى على القارئ أن أَبَا رَيَّةَ لم يذكر تتمة الحديث، لأنها تَرُدُّ عليه زعمه وتجعله يغص بريقه.
وقد ورد ما يدل على أن إخبار النَّبِيِّ لهم كان على ملأ منهم، ففي " صحيح مسلم " عَنْ أَبِي زَيْدٍ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ أَخْطَبَ، قَالَ:«صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا» .
وأما ما نقله عن " تاريخ ابن عساكر " من مقالة بعض العلماء فلا أدري ولا غيري يدري ما الحامل له على ذكره؟ ورواية أبي هريرة ليس فيها ما يُشْتَمُّ منه أن النَّبِيَّ كتم شيئًا عن جميع الصحابة، ولا اِدَّعَى أبو هريرة ذلك، وإنما هو من تجنيات أَبِي رَيَّةَ.