الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه القوى الروحية الخارقة الكامنة في الإسلام وفي قلوب المسلمين هي التي جعلت الإسلام والمسلمين يصمدون أمام تكالب قوى الشر والبغي والعدوان عليهم في القرنين الأخيرين، وعادت الصليبية المسيحية كما كانت، بل وأكثر مما كانت، وظهرت قوى شر أخرى غير الصليبية، وهي الصهيونية المخربة المدمرة، التي فاق تخريبها للبلاد، وتقتيلها للعباد كل تخريب وتقتيل وتدمير في القديم والحديث.
إن هذه القوى الروحانية الخارقة الكامنة في الإسلام، وفي قلوب المسلمين هي التي ستجعل الإسلام يستعصى على كل نائل منه، ويستعظم على كل من يريدون به شَرًّا، وهي التي ستجعل المسلمين يصمدون أمام الأعداء، وسيستمر هذا الدين الحق والفئة المعتنقة له المنافحة عنه حتى تقوم الساعة، وها أنا ذا قد بلغت، فاللهم فاشهد.
تَوْصِيَاتٌ وَتَمَنِّيَاتٌ:
[1]
على المشتغلين بالسنن والأحاديث في كل قُطْرٍ، وَمِصْرٍ وما أكثرهم أن تكون بينهم رابطة تجمعهم، ووشيجة توحد بين صفوفهم، ومقاصدهم، والعالم الإسلامي من المحيط الهادي شَرْقًا إلى المحيط الأطلسي غَرْبًا فيه جماعات كثيرة قائمة على خدمة السنة النبوية الشريفة، ولو أن هذه الجماعات تعارفت وتآلفت، وتعاونت على خدمة السنة النبوية لكان من وراء ذلك خير كثير.
إن خدمة السنة النبوية من هذه الجماعات المنتشرة في كل قطر ومصر يحتاج إلى التخطيط، ووضع المناهج التي تتبعها في خدمة الأصل الثاني من أصول التشريع، وكلما كان التخطيط مُحْكَمًا، وكلما كانت المناهج واضحة، والسبل إلى ذلك محددة، أثمرت هذه الجماعات المتعددة ثمرتها وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
فلو أن هذه الجماعات التي قامت لخدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت لها لقاءات واجتماعات سنوية في كل قطر من أقطار الإسلام لكان من وراء ذلك التعارف
وعدم التناكر، والتعاون على هذا العمل الجليل والله تبارك وتعالى يقول:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وأي بر أبر من خدمة كتاب الله، ومن خدمة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
إن علماء الحديث في العصور الأولى حققوا هذا التعاون وهذا التعارف عن طريق الرحلات المتعددة والشاقة في سبيل لقاء الشيوخ، وتلقي الحديث، وجمعه، إن علماء الحديث وأمثالهم قد ضربوا في باب الارتحال في هذا المضمار الشريف مِنْ لَدُنْ عصر الصحابة إلى أن تم جمع الأحاديث والسنن - مثلا عليا لا تزال تعرفها لهم الأجيال المتعاقبة بالإعظام والإكبار، وهو أمر تنفرد به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم.
وقد رحل سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري شَهْرًا في سبيل سماع حديث ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وهو الصحابي الجليل عبد الله بن أُنَيْسٍ (2) رواه البخاري في " الصحيح " تَعْلِيقًا.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ اَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يَبْلُغْنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ فِي الْقِصَاصِ (3) ، وَكَانَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ بِمِصْرَ ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلاً فَسِرْتُ حَتَّى وَرَدْتُ مِصْرَ، فَقَصَدْتُ إِلَى بَابِ الرَّجُلِ [الَّذِي بَلَغَنِي عَنْهُ الْحَدِيثُ]» ، فذكر القصة.
وأخرج الطبراني من حديث مسلمة بن مخلد (4) قال: «أَتَانِي جَابِرٌ، فَقَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَرْوِيهِ فِي السَّتْرِ عَلَى المُسْلِمِ» ، فذكره.
ورحل السيد الجليل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر الجهني بسبب حديث واحد اَيْضًا، رواه أحمد بسند منقطع.
(1)[سورة المائدة، الآية: 2].
(2)
بضم الهمزة وفتح النون، وسكون الياء على صيغة المصغر الجهني حليف الأنصار.
(3)
المراد بالقصاص المقاصة في الأعمال.
(4)
بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وفتح اللام المشددة، صحابي صغير سكن مصر، ووليها مدة، وكانت وفاته سنة اثنتين وستين.
وروى أبو داود في " سننه " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فِي حَدِيثٍ.
وعلى هذا الدرب الواضح، وعلى هذه السنة الحميدة سار التابعون ومن جاء بعدهم من أئمة العلم في الحديث.
روى الخطيب البغدادي عن عبيد الله بن عدي قال: «بَلَغَنِي حَدِيثٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَخِفْتُ إِنْ مَاتَ أَنْ لَا أَجِدهُ عِنْدَ غَيْرهِ، فَرَحَلْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الْعِرَاقَ» .
وروى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: «إِنْ كُنْت لأَرْحَلُ الأَيَّام وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ» .
وأخرج الخطيب عن أبي العالية قال: «كُنَّا نَسْمَع عَنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ» .
قال الشعبي في مسألة أفتى فيها: «أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى المَدِينَةِ» .
وقد روى " الدارمي " بسند صحيح عن بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ:«إِنْ كُنْتُ لأَرْكَبُ إِلَى المِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، [لأَسْمَعَهُ]» (1).
وقال أبو قلابة: «لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا مَالِي حَاجَةً إِلَاّ رَجُلٌ عِنْدَهُ حَدِيثٌ يَقْدَمُ فَأَسْمَعُهُ مِنْهُ» .
فإذا كان هذا حدث في العصور الأولى على قلة الظهر، وقلة المال، وبعد الشقة، وعذاب السفر فما بالنا لا يحدث بيننا التعارف والتعاون في هذا العصر الذي توفرت فيه وسائل الراحة في الأسفار، وقربت فيه وسائل الأسفار البعيد، ويسرت العسير، وأذهبت الكثير من عذاب الأسفار.
(1)" فتح الباري ": جـ 1 ص 174، 175.
[2]
على هذه الجماعات التي تقوم بخدمة السنن والأحاديث النبوية أن تكون فيما بينها جماعات، كل جماعة تقوم بخدمة السنن والأحاديث في ناحية من النواحي فجماعة تقوم على إحياء كتب التراث الإسلامي في الحديث وعلومه وجماعة تقوم على شرح كتب الحديث التي لم تشرح إلى الآن، أو شرحت ولكن الشروح جاءت موجزة وغير وافية ويأتي في المقدمة من هذه الكتب " صحيح مسلم "، و" مسند أحمد "، و " سنن النسائي " و " سنن ابن ماجه " ونحوها. وجماعة تقوم على دراسة الأحاديث المشكلة سواء أكان إشكالها من حيث تعارض ظواهرها، أو من حيث ما يبدو ظاهرًا من مخالفتها للعقول أو مخالفتها للمشاهدة، أو مخالفتها لما وجد ويجد من علوم فلكية وكونية وتكوين رأي فيها موحد بعد الدراسة والبحث والتمحيص، والموازنة وذلك حتى لا يتعرض الشباب الإسلامي اليوم لبلبلات فكرية بسبب ما يقع بين الكاتبين في هذه الأحاديث المشكلة من اختلاف في الجواب بناء على الاختلاف في الثقافة والاختلاف في التفكير.
إن أعداء الإسلام أو إن شئت فقل: أعداء الأحاديث والسنن إنما يدخلون إلى الطعن فيها من هذه الأحاديث المشكلة، وذلك كما رأيتم فيما ذكرنا من شبه.
والشباب المسلم اليوم ليس عنده من الثقافة والعلم بالأحاديث ومن الحصانة الدينية ما يدرأ عن قلبه، وعقله، وتفكيره هذه الشبه.
وهؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا نحن الشيوخ، وإذا تركناهم تتناوشهم هذه الشبهات وتلك التشكيكات فقد عرضناهم للفتنة، وهؤلاء الشباب هم ذخيرة الإسلام وعدته في المستقبل فعلينا المحافظة على عقائدهم ما استطعنا، والحيلولة بينهم وبين أسباب الفتنة.
وجماعة تقوم على تيسير دراسة الحديث وعلومه على الشباب اليوم وإذا كان الطلبة المتخصصون في الحديث يصعب عليهم الرجوع إلى مصادر الحديث الأولى، وإلى قراءة كتب الشروح لاستعصاء فهمها عليهم فما بالكم بغيرهم ممن ليسوا من طلبة الحديث؟!.
وذلك بتأليف كتب أو كتيبات يراعى فيها عدم التعقيد في العبارة وإشراقة الأسلوب وحسن البيان وجودة العرض حتى نحبب دراسة الحديث وعلومه.
…
[3]
أن تقوم جماعات من العلماء المتخصصين في السُنَّةِ وعلومها، والمشتغلين بخدمتها عن طريق الحب لها، والاقتناع بفوائدها وجدواها بقراءة كتب الأحاديث والسنن على غرار ما كان يقوم به العلماء المحدثون في القرون الأولى ابتغاء وجه الله تعالى لا رغبة في مال ولا في وظيفة.
فهذا يقرأ " صحيح البخاري "، بسنده ومتنه، وبيان ما فيه من فوائد حديثية ويشرح غريبه، وما فيه من فقه، وعلم، وتوجيهات تربوية واجتماعية وخلقية، ونفسية، وذاك يقرأ " صحيح مسلم " بسنده ومتنه وما يشتمل عليه من الأسرار الحديثية التي تتبدى في المتابعات والشواهد، وما يشتمل عليه من الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية
وثالث يقرأ " سنن أبي داود " على هذا الغرار، ورابع يقرأ " سنن النسائي " على هذا الغرار، وخامس يقرأ " جامع الترمذي " على هذا الغرار وسادس يقرأ " سنن ابن ماجه "، ويحاول شرحها ما استطاع.
وسابع يقرأ " مسند أحمد "، وثامن يقرأ " سنن الدارقطني "، وتاسع يقرأ " مستدرك الحاكم "، وعاشر يقرأ " سنن البيهقي ".
وهكذا كل كتاب من كتب الحديث يقوم بدراسته حق الدراسة عالم خبير به أو جملة من العلماء.
ويا حبذا لو ألقيت هذه الدروس في الجوامع والمساجد التي يغشاها جميع الناس، ولا يرد عنها أحد.
وقد يسألني سائل فيقول: ومن أين يتعيش هؤلاء المنقطعون لدراسة الحديث؟!
والجواب: أنهم يتعيشون مما كان يتعيش منه السلف الصالح من علماء هذه الأمة وكانت الكثرة الكاثرة منهم ترى حرمة أخذ الأجرة على التحديث بل وعلى العلم، وكثير من الأئمة في التفسير والحديث والفقه والأصول وغيرها كانوا يرضون بالقليل وبحسبهم الأجر من الله، والخلود مع الخالدين في جنات النعيم، على أن في أموال الكثيرين من المسلمين، وفي خزائن الدول الإسلامية من أموال الزكوات وغيرها ما يقوم بهذا الواجب، ومن الأموال التي فاضت عليها من بركات الأرض والسماء ما يجعل هؤلاء العلماء في رغد من العيش وبحبوحة في الحياة.
بل وفي الأموال المخصصة للجامعات الإسلامية - وما أكثرها - ما يقوم بحاجات هذه الجماعات من العلماء.
وإن خدمة كتاب الله، وخدمة سُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات على الدول الإسلامية وعلى الجامعات الإسلامية.
[4]
أن تقوم كل جامعة من الجامعات الإسلامية بتفريغ جماعة من العلماء الكبار المخلصين لخدمة كتاب الله وخدمة سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن توفر لهم كل وسائل الراحة المالية والنفسية والمعيشية، وذلك على غرار ما تصنع الدول الغير إسلامية في رعاية أعضاء المجالس العلمية، وتهيئة كل الوسائل لعلمائهم الكبار المتفرغين للدراسة والبحث فمن ثم عظم إنتاجهم، وكثرت مباحثهم المفيدة، وأثروا العلم إثراء نافعًا عظيمًا.
…
[5]
إن الجامعات الإسلامية - وما أكثرها - بوضعها الحالي لن تخرج عالمًا يرجع إليه في العلم في أي فرع من فروعه، والقضاء والفتوى والخطابة والوعظ، وذلك لأن الدراسة فيها لم تقم على دراسة العلم للعلم كما هو الشأن في العصور الإسلامية الذهبية الأولى وإنما أضحت الدراسة في الجامعات تقوم على خطف العلم خطفًا،
وذلك لإيجاد جيل من المدرسين والموظفين الذين يشتغلون في وظائف الدولة.
إن الكثير من المتخرجين اليوم من الجامعات الإسلامية لا تهمهم إلا الورقة أو إن شئت فقل الإجازة، أو الشهادة التي تهيئ لهم العمل في الدولة وماذا تعني ساعات، أو سويعات في دراسة علم من العلوم تحتاج دراسته دراسة تحقيقية إلى سنوات؟.
بل ماذا تغني المذكرات التي عم داؤها الجامعات الإسلامية - ولا أستثني عن الكتب المطولات؟ إلا كما تغني الذبالة عن المصباح، والوشل عن البحر.
إن من الشجاعة الأدبية والفضيلة الإنسانية أن تراجع الجامعات نفسها في مناهجها وفي طريقة تدريسها، وفي الغرض من إنشائها وأذكر القائمين على هذه الجامعات ولا أستثني - بمقالة الفاروق - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - في خطابه لسيدنا أبي موسى الأشعري في القضاء وآدابه «وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالأَمْسِ ثُمَّ هُدِيتَ فِيهِ إِلَى رُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ نَفْسَكَ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الحَقَّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي البَاطِلِ» أو كما قال.
وصلى الله تبارك وتعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
وكتبه
خادم القرآن وعلومه والسنة وعلومها
محمد بن محمد أبو شهبة
***