الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنرجع فنصححها بعد أن كذبناها وحكمنا بوضعها؟ أم ماذا نصنع؟.
إن هؤلاء الحاقدين على السنن والأحاديث يريدون أن نتخذ من الأحاديث ملعبة وملهاة، نكذب اليوم ما صححه العلماء بالأمس، ونصحح اليوم ما كنا كذبناه بالأمس!! هذا ما لا يكون ولن يكون - إِنْ شَاءَ اللهُ - ما دامت سنة الله في الكون أن لا يخلى أي عصر من دعاة إلى الحق ومنافحين عنه حتى يأتي أمر الله، وصدق المبلغ عن رب العالمين حينما قال:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ [لَا يَضُرُّهُمْ] مَنْ خَالَفَهُمْ»
…
«حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ» " رواه البخاري ومسلم (1) وهذه الطائفة ستبقى ظاهرة على الحق بالإيمان واليقين، والحجج والبراهين، ولن يضيرهم من خالفهم بإذن الله وتأييده ونصره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أَحَادِيثُ سِحْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-:
ومن الأحاديث التي ثار حولها الجدل، وأثيرت عليها الشبه من قديم الزمان إلى يومنا هذا أحاديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهي أحاديث صحيحة في غاية الصحة رواها الشيخان:" البخاري " و " مسلم " وغيرهما من أصحاب كتب الحديث ودواوينه وإليكم بيان ما أثير حولها، وبيان وجه الحق في هذا
رِوَايَاتُ الشَّيْخَيْنِ: البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٍ:
روى البخاري، ومسلم في " صحيحيهما " بسنديهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها واللفظ للبخاري - قالت: قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ (2)، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ (3) بْنُ الأَعْصَمِ،
(1)" صحيح البخاري ": - كتاب المناقب - باب 28، و - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ
…
» الخ، ورواه الإمام مسلم في: - كتاب الإمارة - باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ز
(2)
بنو زريق: بطن من الأنصار مشهورين من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار، وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف، وإخاء وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرأوا منهم، وكانت هذه القصة بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة، ودخول المحرم عام سبع.
(3)
لَبِيدٌ: بفتح اللام وكسر الباء الموحدة.
حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ، وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ (1) - وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا، وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ:" يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ (2) أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ (3) [فِيهِ]؟، أَتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا (4) عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ (5) عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ (6) [فَقَالَ]: مَطْبُوبٌ (7)، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ (8) قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ (9)، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ (10). قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ (11) " فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ:«يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ (12)، أَوْ كَأَنَّ رُؤُوسَ نَخْلِهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ» (13) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: «قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا» (14) فَأَمَرَ بِهَا (15)[فَدُفِنَتْ](16).
(1) أو: شك من الراوي.
(2)
أي أعملت.
(3)
أي أجابني فيما دعوته فجعل الدعاء بمثابة الاستفتاء، والجواب بمثابة الفتوى، والمجيب بمثابة المفتي، أو المعنى أجابني [فيما] سألته عنه، لأن دعاءه كان لأجل أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه.
(4)
هو جبريل.
(5)
هو ميكائيل.
(6)
يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفيد التفخيم أي: الرجل الكامل في الرجولية وفي كل شيء.
(7)
أي مسحور.
(8)
أي سحره.
(9)
مشط: بضم الميم وتكسر وسكون الشين المعجمة فيهما، والمشاطة: بضم الميم وفتح الشين المعجمة ما يسقط من الشعر إذا سرح.
(10)
الجُفُّ: بضم الجيم والفاء المشددة: وعاء الطلغ ويقال له: الحب اَيْضًا بالباء الموحدة.
(11)
بئر كان للأنصار.
(12)
النُقَاعَةُ: بضم النون وفتح القاف المخففة، هو الماء الذي تنقع فيه الحناء ويكون أحمر.
(13)
العرب يشبهون الشيء القبيح المستكره برؤوس الشياطين وفي الكتاب المعجز المبين في وصف الشجرة الزقوم {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [سورة الصافات، الآية: 65].
(14)
أي خشية أن يقع بين المسلمين وبين اليهود وحلفائهم من الأنصار شر لو أني أظهرت ذلك وأعلنته.
(15)
بها أي البئر فدفنت أي فطمت وعفي عليها.
(16)
" صحيح البخاري ": - كتاب الطب - باب السحر، و " صحيح مسلم ": - كتاب الطب والمرض والرقيا - =
وروى الشيخان بسنديهما في " صحيحيهما " عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: واللفظ للبخاري:
سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ، وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي، دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ:«أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟» قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ [يَا رَسُولَ اللَّهِ؟] قَالَ: " جَاءَنِي رَجُلَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ
…
» الحديث، إلا أنه قال في هذه الرواية:«فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ» (1) وفيها قول عائشة رضي الله عنها قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: «لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي، وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ (2) عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا» وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ.
وروى البخاري قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ (3)، يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ (4)، عَنْ عُرْوَةَ، فَسَأَلْتُ هِشَامًا، عَنْهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ (5)، قَالَ سُفْيَانُ (6): وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا، فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟، أَتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ
= باب السحر.
(1)
هو بئر ذروان عينه ولكثرة الاستعمال خففوا الهمزة، ثم حذفوها وحذفوا الياء فصار: ذروان.
(2)
أُثَوِّرَ: بضم الهمزة وفتح الثاء المثلثة وكسر الواو المشددة، آخره راء أي أثير وأسبب.
(3)
ابْنُ جُرَيْجٍ: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الإمام العدل الثقة.
(4)
هذا يدل على أن الحديث رواه غير هشام، وأنه كان مشهورًا معروفًا عند آل عروة.
(5)
يعني يظن أنه يقدر على مباشرة نسائه فإذا قرب لم يجد شيئًا كما هو شأن المعقود، وهذه الرواية أزالت الإبهام بغير المراد في الروايات الأخرى.
(6)
معنى بالسند المذكور للحديث، وليس من قبيل التعليق وهو نص على أنه مدرج في الحديث. ُُُُُُُُُُ
ما يخالفها إلا باليقين كالحديث المتواتر، ولا يكتفي في ذلك بالظن.
[2]
إن الحديث يخالف القرآن الكريم الذي هو متواتر ويقيني في نفي السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث نسب القول بإثبات السحر له إلى المشركين وَوَبَّخَهُمْ على زعمهم هذا، قال تعالى:{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ (1) تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَسْحُورًا، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (2).
[3]
إنه لو جاز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخيل أنه يفعل الشيء، وما فعله لجاز عليه أن يظن أنه بلغ شَيْئًا وهو لم يبلغه أو أن شَيْئًا ينزل عليه، ولم ينزل عليه، واستحالة ذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
الرَدُّ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ:
إن الحق لا يُعْرَفُ بالرجال ولكن الرجال هو الذين يعرفون بالحق، وفي كلام أبي الحسن على:«اعْرِفْ الحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ» .
والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ليس أبا عذرتها (4) في هذا إنما هو متابع لمن سبقه من رؤساءا الاعتزال وأمثالهم ومن نهج نهجهم، وإذا كان هذا الذي يتمسح بأقوال العلماء لا يعرف الحق إلا بالرجال فلنجاره في هذا ولنبين له ولأمثاله أن الأخذ بالحديث الصحيح وعدم رده وتأويله بما يوافق العقل، والنقل المتواتر مذهب جماهير العلماء سَلَفًا وَخَلَفًا، ورد الأحاديث الصحيحة لأدنى شبهة، ولتوهم مخالفتها للعقل،
(1) إِنْ: بكسر الهمزة وسكون النون نافية.
(2)
[سورة الفرقان، الآيتان: 8، 9].
(3)
[سورة الإسراء، الآيتان: 47، 48].
(4)
يقال: فلا أبو عُذْرَتِهَا يعني أول من قاله.
أو القرآن أو العلم ليس من التحقيق العلمي في شيء، والأحاديث الصحيحة الموثوق بها، وإن كانت لا تفيد يقينًا في العقائد الثانوية (1) لكنها تفيد غلبة الظن فيها، ونحن لا نخالف في أن العقائد الأساسية في الإسلام كإثبات الصانع جل جلاله، والتوحيد، وإثبات البعث وإثبات رسالة الرسل لا يكتفى فيها إلا بما يفيد القطع واليقين.
ولئن كان الإمام الشيخ محمد عبده قد أنكر حديث السحر فقد أثبته واعترف بصحته رواية ودراية أئمة كِبَارٌ، هم أرسخ قَدَمًا في العلم، والجمع بين المعقول، والمنقول منه، كالأئمة المازري، والخطابي، والقاضي عياض، وابن تيمية: تقي الدين أحمد الحافظ الناقد المُحَدِّثُ، وابن القيم، وابن كثير، والنووي، والحافظ الناقد ابن حجر، والقرطبي والآلوسي وغيرهم ممن لا يحصيهم العد.
[2]
إن الذين صححوا حديث السحر كالبخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث وكل من جاء بعدهم من أهل العلم قالوا: إن ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم نوع من الأمراض الجسمانية والعوارض البشرية التي تجوز على الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وقد روى الحديث من طرق عدة في " الصحيحين " وغيرهما، وعن غير واحد من الصحابة منهم: عائشة، وابن عباس، وزيد بن أرقم وغيرهم مما يبعد عنه احتمال الغلط أو السهو أو الكذب ن وقد رُوِيَ [الحديث] من طرق بلفظ:«حَتَّى [إِنَّهُ] لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُُُُُُُُُُ» ولكن قد وردت بعض الروايات في " الصحيح " بما يزيل ما في هذه الرواية من إيهام، وهي رواية الإمام العادل الثقة سفيان بن عيينة أحد جبال الحديث والعلم في هذه الأمة الإسلامية وقد رواها إمامان كبيران من شيوخ الإمام البخاري: أحدهما شيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر الجعفي أبو جعفر البخاري المعروف بِالمُسْنَدِيِّ - بفتح النون - قال فيه ابن حجر: «ثِقَةٌ حَافِظٌ جَمَعَ المُسْنَدَ مِنَ العَاشِرَةِ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ» (2) وذلك في كتاب الطب
(1) وذلك كسؤال الملكين وإثبات عذاب القبر ونعيمه، وما ورد في وصف الحشر، والنشر والصراط وأنه مضروب بين ظهراني جهنم، أما العقائد الأساسية أو إن شئت فقل الأولية فقد بينتها.
(2)
" تقريب التهذيب ": جـ 1 ص 447.
باب هل يستخرج السحر. وثانيهما هو الإمام الحُميدي عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي القرشي المكي أبو بكر ثقة حافظ، يعتبر من أجل أصحاب ابن عيينة من العاشرة، مات سَنَةَ تسع وعشرة ومائتين (1) وقيل بعدها، قال الحاكم:«كَانَ البُخَارِيُّ إِذَا وَجَدَ الحَدِيثَ عَنْ الحُمَيْدِيِّ لَا يَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ» ولفظ رواية سفيان: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُرَى (2) أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ» قَالَ سُفْيَانُ: «وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ» (3).
وهذه الرواية هي التي بنبغي أن يُعَوَّلَ عليها، ولذلك قال الإمام القاضي عياض:«يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد [بِالتَّخْيِيلِ] الْمَذْكُور أَنَّهُ يَظْهَر لَهُ مِنْ نَشَاطه مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِق عَادَته مِنْ الاِقْتِدَار عَلَى الوَطْء، فَإِذَا دَنَا مِنَ المَرْأَة فَتَرَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ شَأْن المَعْقُود» (4) وقواعد البحث العلمي الصحيح فيما إذا كانت هناك روايتان: إحداهما موهمة خلاف المراد والثانية: ليست موهمة أن نحكم ف المراد الرواية الغير الموهمة.
وعلى هذا لا يكون هناك إخلال بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وينهار الأساس الذي بنوا عليه إنكار الحديث.
[3]
وأما أن الحديث مخالف للقرآن فغير مُسَلَّمٌ، لأن المشركين لم يريدوا بقولهم:{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَسْحُورًا} (5). أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى أدركه بعض التغير مدة، ثم شفاه الله، وإنما أرادوا أنه يصدر عن خيال وجنون في كل ما يقول وما يفعل، وآن ما جاء به ليس من الوحي فغرضهم إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بنبي، ومعروف من شأن الكفار أنهم ما كانوا يثبتون على قول ولا على حال فمرة كانوا يقولون شاعر، ومرة يقولون كاهن، وثالثة كانوا يقولون ساحر، وأخرى أنه مسحور،
(1)" تقريب التهذيب ": جـ 1 ص 415.
(2)
روى: يُرَى بضم الياء أي يُظَنُّ، وروي بالفتح أي يعلم ومعنى «يَأْتِي النِّسَاءَ» أي يقدر على إتيانهن أي مباشرتهن وهذا قد يحدث من غير مرض فما بالكم مع وجود المرض الجسماني.
(3)
لأنه يخالف طبيعة الإنسان وفطرته في سكنه إلى زوجته، واطمئنانه إليها، وصدق سفيان فيما قال.
(4)
" فتح الباري بشرح صحيح البخاري ": جـ 10 ص 227 طبعة السلفية.
(5)
[سورة الفرقان، الآية: 8].
وهكذا الباطل لجلج لا يثبت أهله على قول ولا حال.
[4]
وأما قولهم: إذا جاز أن يتخيل ما ليس بواقع واقعًا في غير أمور الدين لجاز ذلك في أمور الدين فهو مردود بما قدمناه في بيان المراد من الحديث وأن السحر أَثَّرَ في جسمه لا في عقله، ولو سلمنا لهم ما تدل عليه الرواية بحسب ظاهرها لما تم لهم ما أرادوا، لأن قياس أمور الوحي والرسالة على أمور الدنيا قياس مع الفارق فإنه بالنسبة لأمور الدين معصوم من الخطأ والتغيير والتبدل، ولا عصمة له في أمور الدنيا، فللرسول صلى الله عليه وسلم اعتباران: اعتبار كونه بشرًا، واعتبار كونه رسولاً، فبالاعتبار الأول يجوز على سائر البشر، ومنه أن يسحر وبالاعتبار الثاني لا يجوز ما يخل بالرسالة لقيام الدليل العقلي، والنقلي على العصمة منه.
ثم ما رأى المنكرين للحديث فيما ثبت في القرآن منسوبًا إلى نبي الله موسى عليه السلام من أنه تخيل في حبال السحرة وعصيهم أنها حيات تسعى، فهل ينكرون القرآن القطعي المتواتر؟! وهل أخل تخيله هذا بمنصب الرسالة والتبليغ؟!.
وإذا كان لا مناص لهم من التسليم بما جاء به القرآن، فلم اعتبروا التخيل في حديث السحر مُنَافِيًا للعصمة ولم يعتبروه في قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام منافيًا للعصمة؟! أفيدونا يا قوم!!!.
لقد شاء اللهُ سُبْحَانَهُ - ولله الحكمة البالغة - أن يبتلي أنبياءه بشتى أنواع الابتلاء ليعلم الناس أنهم بشر مثلهم فلا يرفعوهم إلى درجة الألوهية، وليزداد ثواب الأنبياء، وتعظم منازلهم عند الله تعالى بما يقاسونه وما يتحملونه في سبيل تبليغ الدين والرسالات.
ولا أحب أن أطيل بذكر بعض أقوال الأئمة الجامعين بين علمي المعقول والمنقول ولكني سأجتزئ بنقلين اثنين:
كَلَامٌ قَوِيمٌ لِلإِمَامِ المَازَرِي (1) رحمه الله:
قَالَ الإِمَامُ المَازِرِيُّ: «أَنْكَرَ [المُبْتَدِعَةُ] هَذَا الحَدِيثِ - يريد حديث السحر - وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَيُشَكِّكُ فِيهَا، قَالُوا وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ [فَهُوَ] بَاطِلٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيز هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا [شَرَعَهُ] مِنْ الشَّرَائِعِ إِذْ يُحْتَمَل عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ (2)، وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ» ، قَالَ: «وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ، لأَنَّ الدَّلِيل قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ، فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيل [عَلَى خِلَافه] بَاطِل.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِبَعْضِ الأُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لأَجْلِهَا، وَلَا كَانَتْ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلهَا فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا [يَعْتَرِضُ] البَشَر كَالأَمْرَاضِ، فَغَيْرَ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَعَ عِصْمَتهِ عَنْ مِثْل ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ»، قَالَ:«وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّ المُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتَهُ وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلإِنْسَانِ فِي المَنَام فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي اليَقِظَةِ» (3).
كَلَامٌ فِي المَوْضُوعِ قَيِّمٌ لابْنِ القَيِّمِ (4):
قال الإمام ابن القيم بعد أن ذكر الأحاديث الدالة على سحر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وهذا الحديث
(1) هو الإمام أبو عبد الله بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري - بفتح الزاي - نسبة إلى مازرة أو مازر بلد بجنوب جزيرة صقلية، الفقيه المالكي، وقد وصل إلى درجة الاجتهاد في المذهب وقد شارك في علوم كثيرة وله مؤلفات منها " المعلم بشرح صحيح مسلم " وقد أكمله القاضي عياض وسماه " إكمال المعلم ". توفي سَنَةَ ست وثلاثون وخمسمائة.
(2)
ثَمَّ: اسم يشار به إلى المكان البعيد مثل: هنالك، وهو ظرف لا يتصرف.
(3)
" فتح الباري ": جـ 10 ص 226، 227.
(4)
هو الإمام المحدث المفسر الفقيه شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي المتوفى سَنَةَ 751 هـ وهو من أصحاب الإمام ابن تيمية، له كتب كثيرة، نافعة، مفيدة منها:" زاد المعاد في هدي خير العباد "، و " إعلام الموقعين " و " الطرق الحكمية "، و " مفتاح السعادة "، و " طريق الهجرتين "، وغيرها.
الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مُصَنَّفًا مُنْفَرِدًا حمل فيه على هشام - يعني ابن عروة بن الزبير - وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال: غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء قال: لأن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسحر فإنه تصديق لقول الكفار {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَسْحُورًا} .
قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين.
قال: وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم فإن هشامًا من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رَدَّ حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ (1).
وقد رواه غير هشام عن عائشة (2)، وقد اتفق أصحاب " الصحيحين " على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة، والقصة مشهورة عن أهل التفسير والسنن، والحديث، والتاريخ، والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين إلى أن قال: والسحر الذي أصابه كان مَرَضًا من الأمراض عارضًا شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك، ولا عيب بوجه، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمي عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه، وجحش شقه، وهذا من البلاء الذي يزيد الله به رفعة في درجاته وقيل كرامته، وأشد الناس بلاء الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا من القتل والضرب والشتم، والحبس، فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا (3) وهو ساجد
(1) يعني علم الحديث رواية ودراية، وصدق ابن القيم فهم لا يعرفون من الحديث وعلومه إلا ظاهرًا منه، وأغلب أخطائهم في رد الأحاديث ناتج - علم الله - من جهلهم.
(2)
يعني بالواسطة فإن هشامًا يرويه عن أبيه، عن عائشة. أقول: وممن رواه عن عائشة عمرة بنت عبد الرحمن التابعية العالمة الفقيهة.
(3)
هو الكيس الذي يكون فيه جنين الناقة: المشيمة
…