الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَأَيْتُ العَرَقَ يَتَحَدَّرُ عَنْ جَبِينِهِ»!
وهل يليق به - وقد زعم أنه شيخ النُقَّادِ - أنْ يأتي بروايات يناقض أولها آخرها وآخرها أولها من غير أنْ يعرض لبيان مفصل الحق فيها؟
السِرُّ في هذا يا أخي القارئ أنَّ المؤلف يأخذ ما يشاء بهواه، وَيَدَعُ ما يشاء بهواه وأنه خطف هذا الكلام خطفاً من كلام بعض المُسْتَشْرِقِينَ (1) الذين يتتبَّعون شَوَاذَّ الروايات ومَنْحُولِهَا، ونسبه إلى ابن حزم كي يُضْفِي عليه شيئاً من القبول.
طَعْنُهُ فِي حَدِيثِ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» :
وفي [ص 37] عرض لحديث «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وذكر ما قاله الحافظ ابن حجر من وُرُودِ الحديث في بعض رواياته بدون «مُتَعَمِّدًا» ، وفي بعضها بذكرها في " الصحيحين " وغيرهما ثم قال:«ولكن من حَقَّقَ النظر وأبعد النجعة في مطارح البحث يجد أنَّ الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين فيه تلك والكلمة «مُتَعَمِّدًا» وكل ذي لُبٍّ يستبعد أنْ يكون النَّبِي قد نطق بها
…
ولعل هذه اللفظة قد تسللت إلى هذا الحديث من طريق الإدراج المعروف عند العلماء، لِيُسَوِّغَ بها الذين يضعون الحديث على رسول الله حسبة - من غير عمد - أو يتكئ عليها الرُواة فيما يَرْوُونَهُ عن غيرهم على سبيل الخطأ أو الوهم أو بسوء الفهم لكي لا يكون عليهم حرج في ذلك، لأنَّ المُخْطِئَ غير مأثوم.
وهكذا نجده لا يقتنع بما قاله الحافظ الكبير ابن حجر ليطلع علينا بهذه الفروض والتمحلات!!
(1) انظر كتاب " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي "[للدكتور علي حسن عبد القادر]: ص 71 لترى أنه خطف هذه الرواية المدسوسة من غير تثبت وتَحَرٍّ.
وإليك بيان مفصل الحق في هذا:
1 -
رُوِي هذا الحديث من طرق متكاثرة عن كثير من الصحابة في " الصحيحين " وغيرهما، حتى قد أوصلها بعض المُحَدِّثِينَ إلى المائة ما بين صحيح وحسن وضعيف، والحق أنَّ الحديث رُوِي بهذا اللفظ من طرق تصل به إلى درجة المتواتر، كما حَقَّقَ ذلك الحافظ في " الفتح "(1)، وأما وصول طرقه إلى هذا العدد الضخم فذلك فيما ورد في مطلق ذَمِّ الكذب على النَّبِي صلى الله عليه وسلم لا في هذا اللفظ بعينه ولا في خصوص هذا الوعيد، ثم إنه لم يصح عن أحد من الخلفاء إِلَاّ عن «عَلِيٍّ» في " الصحيحين " وعن «عثمان» في غير " الصحيحين "، لَا عن ثلاثة من الخلفاء كما زعم المؤلف (2) وقد جاءت كلمة (مُتَعَمِّدًا) في أغلب روايات " الصحيحين "(3) وغيرهما من الكتب المعتمدة، وطرق ذكرها أكثر من طرق تركها وأقوى، فقد وردت في " الصحيحين " عن أنس وأبي هريرة والمُغيرة بن شُعبة وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولم ترد في رواية عَلِيٍّ ولا الزبير بن العوام والقاعدة عند نُقَّادِ الحديث وغيرهم أنه إذا تعارضت الروايات رَجَّحَ الأكثر والأقوى وهنا تُرَجَّحُ روايات ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد، ومن دواعي ترجيح الزيادة أنها جاءت عن الزبير بن العوام في " مستخرج الإسماعيلي " وفي " سنن ابن ماجه "(4)، ومن حفظ حُجَّة على مَنْ لم يحفظ، كما أنَّ الزيادة جاءت في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص وكان قارئاً كاتباً - كما في الصحيح - فروايته أوثق من غيره.
2 -
ما زعمه مِنْ أنَّ هذه الكلمة وضعت لِيُسَوِّغَ بِهَا
…
ألخ غير معقول، ولا أدري - ولا أحد يدري - كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد؟ إنَّ معنى الحسبة أنْ يقصد الواضع وجه الله وثوابه وخدمة الشريعة - على حسب زعمه - بالترغيب في فعل الخير والفضائل، وهم قوم من جهلة الصُّوفِيَّةِ وَالكَرَّامِيَّةِ جَوَّزُوا الوضع في الترغيب والترهيب، فكيف يجامع قصد الوضع عدم التعمد؟!! وتفسير
(1) 1/ 164 وما بعدها.
(2)
المرجع السابق، فقد سرد فيه أسماء من روى عنهم من الصحابة بطريق صحيح أو حسن.
(3)
" صحيح البخاري "، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النَّبِي صلى الله عليه وسلم. " صحيح مسلم بشرح النووي ": 1/ 65 - 70.
(4)
" فتح الباري ": ج 1 ص 162.
الحسبة بأنها عن غير عَمْدٍ غير مقبول ولا مُسَلَّمٍ.
وأما تجويزة أنها أدرجت ليتكئ عليها الرُواة
…
إلخ فمردود، ذلك أنَّ رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة، وإنما ثبت بأدلة أخرى، وقد تقرَّر في الشريعة أنه لا إثم على المخطئ والناسي ما لم يكن بتقصير منه فذكر الكلمة لا يفيد هؤلاء الرُواة شيئاً ما دام هذا أمراً مُقَرَّراً، والسر في ذكرها أنَّ الحديث لما رَتَّبَ وعيداً شديداً على الكذب، والمخطئ والساهي والناسي لا إثم عليهم، كان من الدقة والحيطة في التعبير التقييد بالعمد وذلك لرفع تَوَهُّمٍ الإثم على المخطئ والغالط والناسي، قال الإمام النووي في " شرحه على مسلم " (1):«وَأَمَّا الكَذِبُ فَهُوَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا الإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: شَرْطُهُ الْعَمْدِيَّةُ وَدَلِيلُ خِطَابِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ لَنَا فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ عليه السلام بِالْعَمْدِ لِكَوْنِهِ قَدْ يَكُونُ عَمْدًا وَقَدْ يَكُونُ سَهْوًا مَعَ أَنَّ الإِجْمَاعَ وَالنُّصُوصَ الْمَشْهُورَةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَوَافِقَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى الناسي والغالط، فَلَوْ أَطْلَقَ عليه السلام الكَذِبَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يَأْثَمُ النَّاسِي اَيْضًا فَقَيَّدَهُ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْمُطْلَقَةُ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالْعَمْدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ» .
على أنَّ أئمة الحديث وإنْ قالوا برفع الإثم عن الخاطئ والناسي والغالط فقد جعلوا ما ألحق بالحديث غلطاً أو سهواً أو خطأً من قبيل الشبيه بالموضوع في كونه كذباً في نسبته إلى الرسول، ولا تَحِلُّ روايته إِلَاّ مقترنا ببيان أمره، وإلى هذا ذهب الخليلي وابن الصلاح والعراقي وغيرهم (2)، وقد اعتبره بعض أئمة الجرح - كابن معين وابن أبي حاتم - من قَبِيلِ الموضوع المختلق، وذهب بعض الأئمة إلى أنه من قَبِيلِ المُدْرَجِ، ومهما يكن من شيءٍ فقد جعلوا هذا النوع من الغلط أو الوهم مِمَّا يطعن في عدالة الراوي وضبطه.
3 -
من عجيب أمر هذا المؤلف أنه يتبع طريقة {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} (3) ويترك {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (3) وقد رأيت آنفا ما صنعه فيما نقله عن ابن حزم من حبس عمر رضي الله عنه لثلاثة من كبار الصحابة عن التحدث، وقد صنع هنا في حديث
(1) ج 1 ص 69.
(2)
" مقدمة ابن الصلاح بشرح العراقي ": ص 110.
(3)
[سورة النساء، الآية: 43].
(«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا»
…
إلخ) مثل ما صنع سابقاً، فقد نقل عن الحافظ ابن حجر أنه لا يرى تواتر حديث «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ» إلخ
…
حيث قال - في [ص 42]-: «ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه (جماعة) أنه (متواتر) ونازع بعض مشايخنا في ذلك، لأنَّ شرط المتواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة وليست موجودة في كل طريق منها» . واقتصر على هذا القدر وقد ترك ما ذكره الحافظ عقب هذا وهو ما نصه (1) بالحرف الواحد: «وأجيب بأنَّ المراد بإطلاق كونه متواتراً رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم، وأيضاً فطريق «أنس» وحدها قد رواها عنه العدد الكثير وتواترت عنهم، نعم وحديث عَلِيٍّ رواه عنه ستة من مشاهير التابعين وثقاتهم، وكذا حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، فلو قيل في كل منها: إنه متواتر عن صحابيه لكان صحيحاً، فإنَّ العدد المُعَيَّنَ لا يشترط في المتواتر، بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرُواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت " علوم الحديث " وفي شرح " نخبة الفكر " وَبَيَّنْتُ هناك الرَدَّ على من ادَّعَى أنَّ مثال المتواتر لا يوجد إِلَاّ في هذا الحديث، وَبَيَّنْتُ أنَّ أمثلته كثيرة منها حديث:«مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا» ، والمسح على الخفين، ورفع اليدين، والشفاعة، والحوض، ورؤية الله في الآخرة، و «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وغير ذلك، والله المستعان».
والظاهر أنَّ قوله: «وأيضاً
…
الخ، من كلام الحافظ لا من نقله، فهل بعد هذا الكلام الصريح الذي تَعَمَّدَ المؤلف تركه يزعم أنَّ الحافظ ابن حجر لا يقول بتواتره كما هو فحوى كلامه؟!!
أما ما ذكره في حاشية [ص 39] من «أنَّ أدعياء السُنَّة وعبيد الأسانيد في عصرنا لا يزالون يكابرون في إثبات الزيادة، وكأنهم أعلم بالحديث من ابن قتيبة والبخاري والنسائي والمنذري والخطابي وابن حجر وابن القيم والسيوطي وغيرهم» : فَهُرَاءٌ لا أَرُدُّ عليه، ولكني أقول له: ألَا تستحي من ذكر البخاري وهو الذي خَرَّجَ الزيادة في أكثر رواياته؟ بل ومن ذكر الحافظ ابن حجر الذي أفاض في بيان ثبوتها؟ وصدق النَّبِي الحكيم حيث يقول: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ
(1) ج 1 ص 164 طبعة الأزهرية.