الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[(12)]
الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ:
وهي «الشبهة الثانية عشر» .
والجواب عن هذه الشبهة:
[1]
يظهر لي أن هذا المستشرق الذي تابعه على أفكاره وآرائه الخاطئة معظم المستشرقين - قرأ في كتب المحدثين ولكن لم يجد القراءة، وقذف بنفسه في بحر السُنَّةِ الواسع حتى كاد أن يبتلعه اليم، فصار يسبح على غير هُدًى، ويضرب ذات اليمين، وذات الشمال يحاول أن يصل إلى بر السلامة، وما هو بمستطيع.
ولئن أصاب المستشرقون في بعض المباحث الأدبية فما أكثر خطأهم حين يبحثون في السُنَّةِ، وإذا كان علماء الإسلام المشتغلين بالحديث اليوم ممن وضعوا العلوم الإسلامية من لدن نشأتهم لا يصلون إلى بعض الحقائق المتعلقة بالحديث إلا بعد طول الدرس والبحث واستفراغ الوسع فما بالك بهؤلاء الغرباء عن الإسلام وعلومه حينما يتعرضون للبحث في الحديث، فإذا اجتمع إلى ذلك خُبْثُ الطَّوِيَّةِ، وسوء الغرض من دراساتهم الإستشراقية وحرصهم على النيل من القرآن ومن السُنَّةِ تكون النتيجة كثرة الأغلاط والأخطاء في بحوثهم منها ما هو عن عمد وتحريف للكلام عن مواضعه، ومنها ما هو عن جهل، وقصور في العلم والمعرفة.
إن هذه الصحف المنسوخة التي وجدت محتوية على جملة من الأحاديث قد أعارها العلماء المحدثون اهتمامهم، وَبَيَّنُوا الصحيح من الضعيف، والموضوع منها من غير الموضوع، وقد نَبَّهَ العلماء إلى النسخ الموضوعة المكذوبة، وذلك مثل نسخ أبي هدبة، ودينار، والأشج، ونسطورا، ويسر، ونعيم وغيرها.
ومن النسخ التي اكتسبت عناية المحدثين صحف تحديد أنصبة الزكاة وبيان المخرج منها التي وجدت مكتوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اكتتبها خلفاؤه من بعده،
فقد قالوا في كتاب الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - الذي وجه به أنس بن مالك إلى البحرين والذي اعتمد فيه على ما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أصح الكتب وفيه أنصبة الإبل والغنم.
قال الإمام أبو محمد بن حزم الأندلسي في هذا الكتاب: «هَذَا الكِتَابُ فِي غَايَةِ الصِحَّةِ عَمِلَ بِهِ الصِدِّيقُ بِحَضْرَةِ العُلَمَاءِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ» وقد أخرج حديث هذا الكتاب أحمد، والبخاري، والنسائي، وأبو داود، والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح رواته كلهم ثقات وكذا رواه الشافعي والبيهقي والحاكم، واختلفوا في صحة رواية الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفاه الله، فأخرجها أبو بكر من بعده، فعمل به حتى توفي رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حسن.
وقد ورد مُرْسَلاً، قال الزهري:«هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:«أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَالِمِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ» ، وقد سئل عنه البخاري فقال:«أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا» ونقل عن ابن معين تضعيفه للحديث.
فكيف يقال: إنهم لم يبحثوا عن صحة الصحف، ولا عن مصدرها؟!
[2]
أحاديث زكاة البقر:
وأما أحاديث زكاة البقر التي حاول أن يشكك فيها، وأنه لم يكن للعلماء أن يستخلصوا منها نِصَابًا للدفع - كما زعم - فهي مروية في الكتب المعتمدة ففي " منتقى الأخبار " عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:«بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةُ» . الحديث رواه الخمسة، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُصَدِّقُ (1) أَهْلَ
(1) المُصَدِّقُ: بفتح الصاد وتشديد الدال المكسورة: وهو آخذ الصدقات والعامل عليها وأما المُصَّدِّقُ بتشديد =
اليَمَنِ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً». الحديث رواه أحمد وكذا أخرجه ابن حبان وصححه، والدارقطني وصححه اَيْضًا من رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ، وأكثر العلماء على تصحيح هذه الروايات، وتصحيح هذه النسخ.
وخالف بعضهم كابن حزم، فحكم بالانقطاع وقال:«إِنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ» ، وقد بالغ في تقرير ذلك.
وحكى الحافظ ابن حجر عن عبد الحق أنه قال: " في زكاة البقر حديث متفق على صحته " يعني في النصب
وقال ابن عبد البر في " التمهيد " في حديث معاذ: «إسْنَادُهُ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ ثَابِتٌ» وقال في " الاستذكار ": وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ [عَلَى] مَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ [هَذَا] وَأَنَّهُ النِّصَابُ [الْمُجْتَمَعُ] عَلَيْهِ [فِيهَا]» (1).
فلماذا نغلب قول ابن حزم بالانقطاع على أقوال هؤلاء الحاكمين على حديث معاذ بالصحة والاتصال؟!
ولو سلمنا الانقطاع، فانقطاع السند شيء، وكون الحديث موضوعًا شيء آخر، فكيف يبني هذا المستشرق الحكم بالوضع على الاختلاف في رواية بالصحة وعدمها؟ على أن هذه الرواية إن كان قد وقع فيها الاختلاف في الحكم بالصحة أو الضعف فهناك غيرها من الروايات التي صحت في أنصبة زكاة البقر، وكان القول بصحتها موضع اتفاق.
وروى البيهقي في " سننه " بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ، وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ نُسْخَتُهَا
…
الحديث.
= الصاد وكسر الدال المشددة فهو مُعْطِي الصدقة، وأصله المتصدق قلبت التاء صادًا وأدغمت الصاد في الصاد.
(1)
" نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ": جـ 4 من ص 182 - 192، طبعة منير الدمشقي.
وفيها زكاة الإبل، والبقر، والغنم.
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن حديث الصدقات هذا، فقال:«أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا» وعدم الجزم بالصحة في هذا نوع من ورع الإمام أحمد ومن بعد ذلك كله فهل يليق بباحث أن يأخذ من اختلاف العلماء في صحة جملة من الأحاديث أو عدم صحتها أو اختلافهم في الاعتماد على نسخة أو عدم الاعتماد - هذا الحكم الجائر، وهو أن العصر الأول كان مطبوعًا بطابع الوضع ومما ينبغي أن يعلم اَيْضًا أن هناك فرقا بين الحكم على الحديث بعدم الصحة وبين كونه موضوعًا فقد يكون الحديث غير صحيح، ولكنه حسن أو ضعيف، ولكنه لا يصل إلى حد الوضع.
[3]
يظهر لي أن " جولدتسيهر " ظن أن الاعتماد في هذه الكتب والنسخ على الكتاب فقط وهو زعم غير صحيح فقد ثبتت هذه الكتب بالروايات الصحيحة المتصلة كما بينت آنِفًا وكتاب أبي بكر رضي الله عنه في الصدقات رواه البخاري بسنده عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، أن أنسا حدثه «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لِي هَذَا الكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى البَحْرَيْنِ
…
» الحديث، وفي رواية الزهري السابق «أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا» فالعمدة على التلقي، والرواية لا على وجدانها مكتوبة.
ولست أدري أي ضير في الرجوع إلى وصايا مكتوبة ما دام شرط الوثوق بها متوافرًا، وما دامت تلقيت بالرواية عن الثقات، ولكي يؤثر جولدتسيهر في القارئ الذي لا ضلع له في العلم بالسنة ينظر بحلف عرب الشمال والجنوب وسرعة تصديق الناس له، وما درى أن الحلف بين عرب الشمال والجنوب ليست له من الأهمية في الدين والعلم بالحلال والحرام مثل ما للعلم بالزكاة وأنصبتها، فالسنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع وبالعلم بها يعلم الحلال والحرام، فلا عجب إذا حلت من نفوس المسلمين المحل الممتاز اللائق، فقياس صحف الحديث على الصحيفة التي اشتملت على هذا الحلف قياس مع الفارق الكبير.
***
«وَبَعْدُ» :
فما رأي القارئ الحصيف المنصف بعد هذه الردود الطويلة بعد ما ظهر له أن هذا الثوب الذي حاكه «جولدتسيهر» حول السُنَّةِ ثوب مهلهل، لا يقوى أمام البحث الصحيح الذي لا يتحيف على أحد، ولا يتجنى على أحد وإذا كان شُبَهُهُ كما ترى من الضعف والهلهلة، ولا تزيد عن كونها افتراضات وتخيلات، وتخمينات فقد بطل ما ذهب إليه من أن الحديث إنما هو نتيجة للتطور الديني والسياسي، والاجتماعي عند المسلمين.
وثبت ما ذهبنا إليه من أن الحديث النبوي الشريف قام على أسس ثابتة ودعائم قوية، وأنه صورة صادقة للإسلام في عهده الأول: عهد النبوة، لأنه إما أقوال وإما أفعال، وإما تقريرات للنبي صلى الله عليه وسلم، أَوْ وَصْفٌ خَلْقِيٌّ، أَوْ خُلُقِيٍّ، أو إن شئت فقل هو صورة صادقة أمينة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بمعناها الشامل للعقيدة، والشريعة والآداب والأخلاق الإسلامية والمغازي والسرايا التي قام عليها نشر الإسلام، ودعوة الملوك والأمراء في العالم المعروف حينئذ إلى الدخول في الإسلام، ولسير أصحابه الغر الميامين فالقرآن الكريم والسنة النبوية بمعناها العام الشامل هما الوثيقتان الصادقتان الدالتان على الإسلام في عهده الأول: عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أما الوثيقة الأولى: فقد ثبتت في جملتها وتفصيلها بالتواتر المفيد للقطع واليقين، وأما الوثيقة الثانية: فقد نقلت إلينا بأدق وأوثق طرق النقل الصحيح كما تبين ذلك وَاضِحًا جَلِيًّا مما ذكرناه في هذه الدراسات الأصيلة والتي سيكون منها هذا الكتاب الذي أرجو أن يكون ذُخْرًا لي عند الله تبارك وتعالى.
فقد نقل الحديث بأنواعه عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة العدول الثقات البالغون الغاية في الضبط، وعن الصحابة حمله التابعون، وعن التابعين حمله تابعو التابعين وهكذا
حتى لم ينته القرن الثالث الهجري إلا والأحاديث والسنن مدونة في الصحاح، والمسانيد، والسنن، والجوامع، والمعاجم وغيرها، لذلك لا يسعني إلا أن أقول إن الكثرة الكاثرة من الأحاديث ثابتة، والقليل منها مختلق موضوع وقد بين العلماء كل ذلك وكان هذا مصداقا لقول الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1).
…
(1)[سورة الحجر، الآية: 9].