المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أولها: أن الأخذ يفيد الوقوع التام في سلطان الله تعالى، - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: أولها: أن الأخذ يفيد الوقوع التام في سلطان الله تعالى،

أولها: أن الأخذ يفيد الوقوع التام في سلطان الله تعالى، فهو سبحانه أخذهم كما يؤخذ الأسير، لَا يستطيع من أمره فكاكا.

ثانيها: أن التعبير بالباء يفيد أمرين: المصاحبة والمقابلة؛ فهم قد أخذوا مصاحبين ومتلبسين بذنوبهم لم يقلعوا، ولم يتوبوا، بل استمروا على حالهم ملابسين لها ومقترنة بهم، كما تدل على أن العقاب مقابل للذنوب، فهو بدل ببدل، وكما أنهم قدموا الذنب، فليتسلموا العقاب.

وثالثها: أن هذا التعبير فيه إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى الكامل؛ فالذنب هو الذي ولد العقاب، وهو يماثله تمام المماثلة، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.

والحقيقة الثالثة: قال سبحانه وتعالى فيها: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وفي ذكر هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى شدة العقاب لشدة الجريمة، وإشارة إلى أن العدالة الإلهية تقتضي شدة العقاب؛ لأنه لَا يستوي الذين يحسنون والذين يسيئون، ولا يستوي الأخيار والأشرار؛ فإن المساواة هي الظلم في هذه الحال.

ثم في هذا الوصف للذات العلية تعليم للناس بأن كل فعل يجب أن يكون له جزاؤه (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

وهذا النص الكريم فوق ذلك يربي المهابة في النفس، ويجعل كل مؤمن يغلِّب الخوف على الرجاء، فإن الخوف يجعل العابد يستشعر الطاعة دائما ولا يَدِل بالعبادة، وتغليب الرجاء يمكن للنفس الأمارة بالسوء أن تسيطر، ويجعل العابد يَدِل بعبادته.

* * *

ص: 1124

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‌

(12)

* * *

اغتر المشركون بأموالهم وأولادهم وقوتهم في الأرض، فكفروا وعتوْا عتوا كبيرا؛ فبين الله سبحانه وتعالى أنهم سَيُغْلَبون في هذه الدنيا، وأنهم في الآخرة سيحشرون إلى جهنم؛ ولذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يقول فيهم هذه الحقيقة فقال سبحانه:(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا).

ص: 1124

فهذه الآية الكريمة إنذار للمشركين بأن الهزيمة ستلحقهم في الدنيا، وأن العذاب سيستقبلهم في الآخرة. وقد أمر الله سبحانه نبيه بأن يواجههم بهذا الخطاب، ولم يوجهه سبحانه وتعالى إليهم، لأن أولئك المغترين المفتخرين كانوا يدلّون بقوتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتزون بها في مخاطبته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون له:(نَحْنُ أَكثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). وكانوا يأخذون من عزتهم في الدنيا دليلا على عزتهم في الآخرة، فكان حالهم كحال هذا العامل الذي حكى الله سبحانه عنه بقوله:(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36).

وهكذا الطبيعة الإنسانية إن استغنت طغت في حاضرها، وغرها الغرور في قابلها:(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7).

وإذا كانوا يجابهون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فإنه يكون من المناسب أن يتولى هو الرد، وهو الذي جُرِّدَ من المال والولد، ولا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى.

وإن ذلك الاغترار كان من المشركين واليهود الذين كانوا يجاورون النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقد جابهوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما دعاهم إلى الإسلام بعد واقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون، فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم:" يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل ". فقالوا: لَا يغرنك أنك لقيت أقواما أغمارا لَا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا (1).

وإذا كان الاغترار من الفريقين فإنه يصح أن نقول إن الخطاب للكفار جميعا الذين يغترون مثل هذا الغرور، وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يخاطب بهذا الذين كفروا، سواء أكانوا من هؤلاء أم كانوا من أولئك، وإن الكفر بالحقائق

(1) رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفيء - كيف كان إخراج اليهود من المدينة (2607).

ص: 1125