المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهذ النص الكريم يفيد مقدار - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهذ النص الكريم يفيد مقدار

(آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهذ النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة اللَّه تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام؛ قالوا (آمَنَّا بِاللَّهِ) أي آمنا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأنه خلق الأشياء بإرادته المختارة، وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة، والمسبب عن السبب، كما كان يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى، وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم:(وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى أن يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد أسلموا وجوههم لله رب العالمين، وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وإن ذلك فوق أنه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم.

خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته، ملبين نداءه، معلنين نصرته، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين:

* * *

ص: 1238

(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ

(53)

* * *

وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، ثم الاعتراف بالربوبية الحق يطوي في ثناياه الاعتراف بالألوهية الحق؛ لأن كمال الخضوع لله لَا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا:(آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ) أي صَدَّقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت. وما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات؛ فالإيمان الصادق بها يقتضي العمل؛ لأن العمل يدل على كمال الإيمان، ولأن المخالفة من غفوة الإيمان، ومن قبيل ذلك قول محمد صلى الله عليه وسلم:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "(1). وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما أنزل لهم بعد ذلك في

(1) سبق تخريجه.

ص: 1238

ضراعتهم (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) وهو عيسى عليه السلام، واتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنته.

وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته أن يقوى الله سبحانه وتعالى إيمانهم، وأن ينقلهم من الإيمان الغيبي إلَى الإيمان الذي يصل إلى درجة تشبه المشاهدة، ولذا قالوا:(فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي إذا كنا قد امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وألوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي أن نكتب مع الشاهدين، ومن هم الشاهدون؟ يصح أن نقول إنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذين قال في أمثالهم محمد صلى الله عليه وسلم:" اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "(1) فهذه مرتبة من الإيمان، والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان. ويصح أن تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود أو المشاهدة التي يقول عنها الصوفية، فالمؤمن يتعبد، ويصفي نفسه من أدران الدنيا، حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته، ويحس في كل فعل يفعله كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه.

وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل أن هؤلاء الأتقياء طلبوا أن يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.

أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم، ولذلك اتجه إلى أن يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، وأخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكن جحدوا. بالحق بعد أن ظهرت أماراته،

(1) سبق تخريجه.

ص: 1239

وقامت بيناته، ثم أخذوا يَحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رأوا أن نور الحق يزداد انتشارا، قرروا أنه لابد أن يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه. ويستفاد من الإشارات القرآنية أنهم حاولوا قتله، ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره. ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم، ولقد قال تعالى بعد أن بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها

ص: 1240

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ):

أي أن هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر، ورآه عيانا منهم بعد أن كوَّن فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، وأخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه أو على دعوته. والمكْر، كما يظهر من عبارات القرآن: هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به؛ ولذا نسب المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يكون عمل الله تعالى إلا خيرا، ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى:

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّئُّ إِلَّا بِأهْلِهِ. . .)، فدل هذا على أن مطلق المكر لا يعد سوءا، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لَا يمكن أن يكون خيرا، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لَا يتصور إلا أن يكون خيرا. وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ، وسمي تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وإن لم يكن له وصفه، كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ

).

وما هو إلا عمل عدل ولكن سمي به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل.

دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى، فكانوا - لاستيلاء الفساد على قلوبهم - قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك، والله يدبر حمايته، وقد تم ما أراد الله تعالى، ولذا قال تعالى:

(وَاللَّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فسرها بعض المفسرين بأن الله سبحانه لَا يصدر عنه إلا الخير، فمكره. خير مكر لأنه لَا يتصور فيه شر قط. وفسر الزمخشري قوله:

ص: 1240

(وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) بقوله: أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لَا يشعر المعاقب؛ وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار، وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار، ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا.

* * *

(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

* * *

هذه الآيات موصولة بالقصص السابق، والذي تدل عليه الآيات قبلها هو أن معركة قائمة بين الخير والشر؛ فعيسى عليه السلام ينادي أنصاره إلى الله تعالى، ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام، والشر يدبِّر التدبير السيئ، والله من ورائهم محيط، يدبر الخير ويهدي إليه (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم، وذلك قوله تعالى:

ص: 1241

(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ):

والمعنى: اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى ابن مريم، إذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل

ص: 1241

خير، أنصارا لكل شر (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم أن الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها، وأنه رفع مكانته برفع روحه إليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها أن الله تعالى رفعه بجسده إليه سبحانه؛ فقد قال تعالى:(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)، فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه؛ لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح؛ لأنه يجوز أن يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرنَّ الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتُتركنَّ القلاص (1) فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون إلى المال فلا يقبله أحد "(2) فإن ظاهر هذا الحديث يفيد أنه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.

وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لابد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى، ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما عداها، ففسروا قوله تعالى:(إِنِّي مُتَوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) بمعنى مميتك ورافع منزلتك وروحك إليّ، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى الأنفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه.

(1) جاء في الهامش: القلاص جمع قلوص وهي الناقة، ولعل المعنى أن ابن آدم يتجرد للروحانية.

(2)

متفق عليه، وقد رواه بهذا اللفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه مسلم: الإيمان - نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا (221)، وبه رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (10001)، ورواه البخاري: البيوع - قتل الخزير (2070).

ص: 1242

وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر، فقد قرروا أنه لَا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول، لأنها تدل على مجرد العودة إن أخذناها بظاهرها، وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن أن يرد روحه إلى جسمه، وهو الذي يُحي العظام وهي رميم، وكما قال تعالى:(. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وفضلُ عيسى عليه السلام أنه عاد إلى جسده قبل أن يعود غيره إلى جسده، هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل، ومن غير نظر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لَا يؤخذ بها في الاعتقاد.

وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لَا يحتاج إلى عناء في التأويل، لأن الإضراب الذي تضمنته " بل " إضراب عن القتل والصلب، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي، وكونه لَا يقتل ولا يصلب لَا يقتضي أنه لَا يموت موتا طبيعيا، والتعبير بقوله:(بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية، وأنه تعالى حاميه منهم، ومانعه دونهم، وأنهم لن يتمكنوا من رقبته، إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون، وخالق القدر.

هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة، وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل، ويقرر أنه إن كان لابد من تأوبل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها، على أن التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد أو قريب، إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين، والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة:(مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).

والتفسير الثاني: يقرر أن الرفع بالجسم لَا بالروح فقط، وأن عيسى حي في السماء، وأن الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا، بعد أن ملئت جورا؛ وإن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية، ولهم في التأويل طرق مختلفة، منها أن قوله (مُتَوَفِيكَ) ليس معناها مميتك، بل

ص: 1243

معناها هو المعنى اللغوي الأصلي إذ إن التوفِّي في اللغة أخذ الشيء وافيا تاما، والمراد في نظرهم أنِّي موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها، ثم رافعك إلى السماء تستوفي حظك من الحياة هناك. ولكن يعارض هذا التأويل أن القرآن له استعمال في العبارات يخصصها، وقد خصص هذا اللفظ بالموت، كما خصصته اللغة، ومن ذلك قوله تعالى:(الله يَتَوفَى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) وقوله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَاكُم ملَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِلَ بِكُمْ. . .).

ومن التأويلات: أنهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار أن النوم هو الموتة الأولى، ومن ذلك قوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرحْتُم بِالنَّهَارِ. . .). والمعنى على هذا منومك نوما عميقا، ثم رافعك في أثناء هذا النوم إليَّ.

ومن التأويلات: ما ذكره القرطبي بقوله: (إِنِّي مُتَوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) على التقديم والتأخير، لأن الواو لَا توجب الرتبة، والمعنى إنِّى رافِعُكَ إليَّ ومطَهِّرُك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله تعالى:(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مسَمًّى)، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما (1) أي أن الوفاة ستكون، وليست سابقة على الرفع، بل هي متأخرة عنه، أي أنه عليه السلام يموت بعد أن ينزل إلى الأرض ولا شك أن هذا ضرب من التأويل، وليس ظاهر النص.

ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة، أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة، وعلى أنه لَا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى، ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم؛ لماذا اختص عيسى بهذا؟ ولماذا لَا يكون هذا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويخشى أن يكون ذلك من دس النصارى، وكم دسوا في الإسلام، ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقي في بلاط بني

(1) أحكام القرآن للقرطى جـ 4 ص 99.

ص: 1244

أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شأنها أن تفسد عقائد المسلمين.

أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأوَّل من أجلها هذه الآية الكريمة، مع أن الأخبار أحاديث آحاد، وأولئك هم الأكثرون كما قلنا.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث، والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول أن يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاءوا بعده ممن ادعوا اتباعه وهم لم يتبعوه، وأبدى سبحانه وتعالى للملأ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها، كما أبدى روحانيته وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته، وما رماء به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا أنه إله أو ابن إله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام، ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن اليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شُبه لهم، ونجاه الله تعالى من كيدهم؛ وهكذا طهّر الله عيسى من كل رجس معنوي أو حسي، ومن كل أذى حسي أو معنوي.

ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وهنا يسأل القارئ لكتاب الله: من هم الذين اتبعوه؟ ومن هم الذين كفروا به؟ وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه؟

ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى أو نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون أنه ثالث ثلاثة أو ابن الله؛ لأنه ما قال هذا وما ادعاه، ولكنه جاء بالتوحيد، والإيمان بالله العلي القدير وحده؛ هانما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به، وبأنه رسول من رب العالمين، وبأنه بشر كسائر البشر، وأن تعاليمه هي العدالة، والرحمة، والسماحة، والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما أمر الله؛ ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون، لأنهم هم الذين

ص: 1245