الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتنازعهم فيه فضل بتعليمهم حق الجهاد وواجبه، وعفوه عنهم هو الفضل كله، ولقد تأكد فضل الله تعالى في الآية بقوله:(ذو فَضْلٍ) أي صاحب فضل، والمرمى أن الفضل يلازمه، ولا ينقطع عنه سبحانه وتعالى أبدا.
* * *
(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
…
(153)
* * *
هذا بيان لبعض ما جرى للمسلمين في أحد، بعد أن نزل الرماة إلى ميدان الغنيمة في غير الوقت المحدود، وهو يصور جيش الحق، وقد اضطرب بسبب ذلك الغلط الذي كان يبدو صغيرا لمن وقعوا فيه، وله نتائج خطيرة، والصورة البيانية التي تستمد من النص الكريم ترينا كيف كان المقاتلون يسيرون على غير مقصد يقصدون إليه، لا إلى النجاة بأنفسهم يسعون، وقد أحيط بهم، ولا إلى العدو يقصدون، وقد أظهر أنه استعلى عليهم مؤقتا وظنوا هم في أنفسهم الظنون، ولا فوضى في جند أكثر من أن يسير على غير مقصد، وجيش الإسلام وهو في هذه الحيرة وهذا التيه كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخره يدعو جنده قائلا فيما روي عنه:" إليَّ عبَادَ الله إليَّ عبَادَ الله، أنا رسولُ الله، من يكرُّ فله الجنة "(1).
ومعنى (تُصْعِدُونَ) تسيرون في بطن الوادي؛ لأن الصعود معناه الارتفاع، والإصعاد مغناه السير في بطن الوادي؛ وقال أبو حاتم في هذا:(أصعدتَ إذا أمْضَيْتَ حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره). وقال قتادة: أصعدوا يوم أحد في الوادي. ومعنى (تلوون) تعطفون في سيركم إلى مقصد تقصدونه. ولقد جاء في المفردات للأصفهاني: يقال فلان لَا يلوي على أحد إذا أمعن في الهزيمة.
والمعنى: عفا الله عنكم في الوقت الذي وقعتم فيه في الفوضى والاضطراب، وأصبحتم تسيرون في بطن الوادي لَا تقصدون، ولا تبتغون أمرا،
(1) ذكره بهذا اللفظ في تفسيره: الرازي، والنسفي، والبيضاوي، والألوسي، والزمخشري، ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان، عن ابن عباس بلفظ: إليَّ عباد الله ارْجِعُوا، إليَّ عباد الله ارْجِعُوا! وراجع البداية والنهاية. غزوة أحد.
ولا تتبعون غاية أيا كانت، بل تضربون في الأرض وتخبطون خبط عشواء، ولقد ذكر النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب، وهي الغم الشديد، فقال تعالت كلماته:(فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) أثاب معناه أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على أنه غايته ونتيجته، والغم أصل معناه في اللغة التغطية، ومنه غُم الهلال إذا غطاه الغمام فلم يُرَ، والغَم يطلق على الألم الذي يغطي العقل والإحساس والمشاعر، والذي يكون الشخص معه في حال استسلام لا يدري ما الخلاص منه، فهو من الغُمَّة، وقد جاء في أساس البلاغة:(وأنه لفي غُمة من أمره إذا لم يهتد للخروج منه). والباء في قوله تعالى: (بِغَمٍّ) يحتمل أن تكون للسببية، ويحتمل أن تكون بمعنى (على) أو دالة على المصاحبة، وعلى الأول يكون المعنى: أعقبكم الله تعالى غما بأن فاتكم النصر، ونزلت بكم الجراح، وقتل من قتل منكم بسبب الغم الذي أنزلتموه على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخالفة وعصيان أمره، وعلى الثاني يكون المعنى أعقب الله تعالى فيكم غما بعد غم أو غما مصطحبا بغم، فقد أصابكم غم فوات الغنيمة، وغم فوات النصر، وغم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وغم الاضطراب.
وكان ترادف الغموم هذه كنتيجة لمخالفتكم الأولى له غاية ونتيجة مؤكدة إن اعتبرتم واتعظتم، هو: ألا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر، وما أصابكم من جراح وتقتيل، بل تستحصدون العزائم، وتتقون الخطأ من بعد. ويقول الزمخشري في تعليل ترتب عدم الحزن على ترادف الغموم:(لكيلا تحزنوا: لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضْروا (1) باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا مصيب من المضار)، وإن ما ذكرنا من ترتب عدم الحزن أظهر في نظرنا، والله - سبحانه - أعلم بمراده.
(1) يقال: ضَرِيَ الكلبُ وأضْراهُ صاحِبُه أي عوده وأغراهً بالصيد، ويُجْمع على ضَوار. [لسان العرب - باب الضاد - ضرا]. والمقصود هنا أنهم تدربون على احتمال الشدائد ومواجهة الصعاب؛ فيصيرون شجعانا تشبيها لهم بالسباع الضارية.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص للإشارة إلى أن ما وقع كله كان في علم الله، يعلمه علما دقيقا قد أحصى فيه كل أعمالكم قبل وقوعها، وقدر نتائجها ونهاياتها، وما يعقبه بعد ذلك من عبرة يحملكم على الطاعة المطلقة للقائد الحكيم الذي يهديكم سبيل الرشاد، وأنه لا نصر مع المعصية، ولا هزيمة مع الطاعة واحتساب النية، والله بكل شيء محيط.
* * *
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
* * *
الآية الكريمة موصولة بما قبلها، فهي تبين ما أصاب القلوب التي توهمت أنها انهزمت بعد موقعة أحد، وقد بين في الآيات السابقة أنها أصابها غم كان كثيفا على النفوس، وفي هذه الآية يبين ما حدث بعد الغم، فذكر سبحانه أن قلوب المؤمنين بعد هذا الغم اعتراها الاطمئنان إلى قدر الله تعالى المقدور، وثقتهم في المستقبل تحقيقا لوعده بنصر عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم والاطمئنان هو سبيل التدبير المحكم، والقلق لما كان في الماضي يجعل العقل مأخوذا بحوادثه فلا يفكر ولا
يدبر، ولا يتحفز ويتوثب للمقاتلة مرة أخرى، ولقد قال تعالى في وصف حال المؤمنين التي أفاضها عليهم بعد الغم المتولى:
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْد الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ) أمنة: مصدر بمعنى الأمن، وقرئ:(أَمْنَةً) بتسَكين الميم، وهي مصدر بمعنى المرة من الأمن، وقد بين سبحانه نوع الأمن أو مظهره، بقوله:
(نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) والنعاس فتور مع استراحة من غير فزع ولا قلق وهو النوم الهادئ، ومعنى يغشى: يغطي، أي أنه يغطي الحس، ويستر الإدراك والتنبه، والمعنى أنه سبحانه وتعالى أفاض وأنزل بعد الغم الذي غمر النفوس بالألم أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت فيه النفوس واسترخت الأعضاء واستسلمت لمقادير الله تعالى وإرادته في خلقه ونصره دينه، مطرحين الماضي مكتفين منه بالعبرة ومتخذين منه نورا يضيء للمستقبل بخطئه وبصوابه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى النعاس مظهرا للاطمئنان قبل واقعة بدر، فقال تعالى:(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11). وفى غزوة أحد كان النعاس مظهر الاطمئنان والتسليم لله سبحانه وتعالى والثقة بالمستقبل - بعد الفزع والهلع والاضطراب.
وتلك الطائفة التي غشيها النعاس واطمأنت بعد الاضطراب، وآمنت بأن ما كان كان بخطأ من بعضهم، وأنه عبرة لأولى الأبصار - هم المؤمنون الصادقو الإيمان الذين يريدون ما عند الله تعالى، ولا يبتغون غير رضاه، ولقد اعتبرهم القرآن وحدهم الأهل للخطاب، لأنهم هم الذين يعدون ذخيرة المستقبل، وجند الله الغالب، ولذلك قال:(ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً). وإن أمنهم ونومهم مع أن الجراح قد أثقلتهم، والاضطراب كان قد أذهلهم، دليل على عمران قلوبهم بذكر الله وصدق وعده:(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
والطائفة التي لم تكن على هذه القوة والإيمان ذكرها سبحانه على أنها خارجة على الخطاب، وكأنها ليست من المؤمنين فقال تعالى:(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهمْ أَنفسُهُمْ يَظنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ).
لأن نسق الآية يومئ إلى أنها بعيدة عن الخطاب، قال أكثر العلماء: إنها من المنافقين، أي أن هذه الطائفة ليست مؤمنة، بل كافرة تظهر الإسلام وتبطن غيره، ولكن الأوصاف التي ذكرت لها من بعد تومئ إلى أنهم من ضعاف المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بأن في قلوبهم مرضا - في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن الله تعالى يصفهم بأنهم يظنون ظن الجاهلية، وهذا يفيد أنهم ليسوا من أهل الجاهلية، وهم يعتذرون لأنفسهم بالقضاء والقدر، والله سبحانه وتعالى بيّن أن ما نزل كان للابتلاء والتمحيص وأدخلهم فيه، وليس كذلك المنافقون، والنص يومئ إلى أنه كانت فيهم جراح، والمنافقون لم يخوضوا غمار الحرب، فلا جراح فيهم، ولا قتل، وهؤلاء كان فيهم قتل.
وفى الحق إن غزوة أُحد كان فيها عدد من ضعاف الإيمان، إذ قال سبحانه:(إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ).
وعلى ذلك نقول: إن هؤلاء كانوا من ضعاف الإيمان لَا من المنافقين.
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء بأنهم أهمتهم أنفسهم، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وكلمة " أهم " مأخوذ من الهم. والهم ما يهم به الإنسان، وما يحزنه، يقال: همني الأمر بمعنى أذابني من الحزن، ومعنى أهمتهم أنفسهم، جعلتهم لَا يجعلون لهم أمرا يهتمون به سواها، فلا يهمهم شأن الإسلام، انتصر أو انهزم، ولا شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، بل الذي يهمهم وحده هو أنفسهم، أو يكون المعنى: أوقعوا أنفسهم في الهم والحزن بعدم اطمئنانهم وعدم صبرهم وجزعهم المستمر.
وإن المرء إذا لم يكن له تفكير إلا في نفسه، ولا يهمه شيء سواها، أضفى عليها المعاذير إذا قصرت، وجعل السبب من غيرها لَا منها، ومن هنا يجيء الوصف الثاني، وهو (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَن الْجَاهِلِيَّةِ) والظن هنا ليس هو الاعتقاد الجازم، بل هو الوهم الملازم للضعف، المسيطر على النفس، وقوله (غَيْرَ الْحَقِّ) مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف، والمعنى يظنون ويتوهمون بالله ظنا ليس هو الحق، ولا الذي يجب أن يظن بالله تعالى، وهو العدل والمعاونة الصادقة، والتأييد عند الثبات، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك الظن غير الحق والذي لَا ينبغي أن يظن بالله تعالى، بينه بطريق عطف البيان، أو البدل المبين فقال:(ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) وشأن أهل الجاهلية أن يطرحوا عن أنفسهم التبعات، ويدعوا ألا مسئولية عليهم، وأن الأمر للمقادير وحدها إذ كانت النتيجة على غير ما يبغون.
ولذا قال سبحانه في تفسير ظن الجاهلية: (يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِن الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).
هذا القول هو مظهر الظن الباطل الذي ظنوه بالله سبحانه وتعالى: والاستفهام هنا استفهام إنكاري بمعنى النفي المطلق الشامل، والمعنى: ليس لنا من الأمر شيء أي شيء، فلسنا مسئولين عن الهزيمة إن انهزمنا، إنما الأمر كله لله تعالى، فأمر النصر والهزيمة بيده، وقد وعدنا بالنصر ولم ننتصر، فهم يلقون عن أنفسهم كل تبعة وكل مسئولية. وإن هذا إنكار للأسباب، وظن جاهلي؛ لأن الجاهلي إذا انتصر فرح وأشر وبطر، وأصابته عزة النصر غير ملتفت إلى إرادة غير إرادته، وإن أصابته كارثة حسبها من المقادير ملقيا عن نفسه كل تبعة، وقد رد سبحانه وتعالى وهمهم بأن أمر النبي بقوله:(قلْ إِنَّ الأَمْرَ كلَّه لِلَّهِ) أي أن تقدير الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، لَا أمر النصر والهزيمة، فكل شيء عنده بمقدار، ولكنه سبحانه وتعالى خلق كل شيء بحكمته ومشيئته وإرادته وحده، وهو الذي قدر الأسباب ومسبباتها، وربط بين الأفعال ونتائجها، فمن اختلفوا ولم يطيعوا
قائدهم، وأقدموا على الغنائم في غير الوقت المعلوم فلا بد أن يحدث عن فعلهم الهزيمة والاضطراب، لأن هذا هو النظام الذي سنه رب البرية في الارتباط بين الأسباب ومسبباتها، فكون الأمر كله لله لَا ينفي عنكم التبعة، بل يؤكدها وقوله تعالى:(قلْ إِنَّ الأَمْرَ كلَّهُ للًه) جملة سامية معترضة بين متلازمين، وهو قولهم:(هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ) وقوله تعالى من بعد ذلك: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا). ظاهر الجملة السابقة أنهم يلقون عن أنفسهم التبعة بتقرير أن أمر النصر بيد الله تعالى، وأنه قد حرمهم منه، وفي هذه الجملة يبين الله سبحانه وتعالى أن لهم غاية يقصدون إليها من وراء هذه الجملة، وهو إثبات أن الذي كان سبب قتلهم ووقوع الهزيمة عليهم هو خروجهم إلى هذا المكان، ولو بقوا في أماكنهم بالمدينة ما قتلوا، وكان في ذلك إشارة إلى ما كان من خلاف عند مجيء المشركين إلى المدينة أيخرج المؤمنون إليهم ليقاتلوهم في أحد أم يبقون في المدينة حتى يقاتلوهم في الأزقة ومن وراء الجدران فلا يبقوا منهم أحدا، وأن الذي اختارته الكثرة هو الخروج، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على حكمها وإن كان يرى غيره. إلى آخر ما كان في هذه المشاورة، وعلى هذا تكون خلاصة المعنى: يخفون بقولهم هل لنا من الأمر من شيء أمرا لَا يريدون إبداءه، وهو أنهم لو كان لهم رأى يطاع، وقول يُسمع ما خرجوا إلى هذا المكان وقتلوا فيه، بل بقوا في ديارهم آمنين، ولكنه أمر الله تعالى وتقديره، وتطوى هذه الجملة الإشارة إلى أمرين: أحدهما - أنهم ما كانوا يريدون القتال، ولكنه قدر الله وأمره لهم، وهذا يذكر بقوله تعالى:(إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيهُمَا. . .). والأمر الثاني الذي يشير إليه النص - أنهم ما كانوا يرون الخروج من المدينة للقتال؛ بل ينتظرون حتى يجيء إليهم الأعداء، وأنه لو كان لهم شأن ما خرجوا وما قاتلوا.
وهم في كلتا الحالين يلقون تبعة الهزيمة عن أنفسهم، ويشيرون إلى أن الخروج لم يكن رأيا حسنا، ولكنه قضاء الله وقدره جعلهم يقعون في هذا الخطأ.
وقد رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله:
(قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذينَ كتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي أن الله سبحانه قدر الأمور تقديرا، ولكلِّ أجل كتاب، فأولئك الذين كتب عليهم أن يقتلوا في الميدان، لابد أن يقتلوا، فلو كنتم في بيوتكم، لخرجوا إلى الأماكن التي قتلوا فيها وقتلوا، ومعنى " برز " أي خرج من مكمنه المستور الذي لَا يظن الخروج منه، والمضاجع جمع مضجع، وهو مكان النوم، والمراد هنا مكان قتلهم الذي قتلوا فيه وصرعوا وناموا إلى يوم البعث والنشور؛ وهو المكان الذي خرجوا إليه في أحد وماتوا فيه، وفي هذا يدعوهم رب البرية أن يستسلموا لحكمه، ويخضعوا لقدره، ويرضوا به، ويطمئنوا إليه؛ لأن الاطمئنان إلى القدر بعد أخذ الأسباب رضا بحكم الله وقبول لإرادته في خلقه، وعدم الرضا بالقدر تمرد على الخالق، وانزعاج نفسي لَا علاج له؛ وإذا كان من الناس من يعيب الرضا بالقدر فهي نزعة إلحاد في النفس، والذين يشكون من المقادير، ويتمردون عليها لَا يرضون برب المقادير حكما عدلا وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، والرضا بالقدر يلقي في النفس بالاطمئنان والصبر والرضا والقدرة على الاحتمال، والاستعداد للقابل وعدم الالتفات إلى الوراء، فمن لَا يؤمن بالقضاء قصير النظر، ومن يؤمن به متجدد الفكر؛ نظره إلى الأمام دائما ثم قال سبحانه:(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهَ مَا فِيْ صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ).
الواو هنا عاطفة؛ والمعطوف عليه فعل دل عليه ما طوي في الكلام السابق، من معنى الدعوة إلى الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، لتتعودوا الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، ولتتعودوا تحمل الشدائد ولتعرفوا أن الحياة قد اختلط حلوها بمرها، وليبتليكم.
ومعنى قوله سبحانه: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صدُورِكُمْ) يعاملكم معاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوي عليه فيعالج هذه الأوزار التي تظهر بما يذهب