المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها، ونحوا - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها، ونحوا

صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها، ونحوا ذلك. والثاني أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لَا يتأتي لكم من العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم ".

وهذا الكلام في جملته قريب منه ما بيناه آنفا.

ومعنى قوله تعالى: (وَأَنتمْ شُهَدَاءُ) والحال أنكم شهداء عالمون بالحق علم من يعاين ويشاهد ويحكم بأنه الحق والصواب، فهو جحود عن علم، وكفر ليس عن جهل، وإيغال في الكفر بالصد عن سبيل الله، وبينات الحق بين أيديكم وأماراته مُعلِنَة له في أيديكم.

والاستنكار التوبيخي متجه إلى جملة حالهم، ومعنى كلامه السامي سبحانه: لِمَ تصرفون الناس عن طريق الحق، وتبغون الاعوجاج، أو توهمون الناس أن فيه عوجا والتواء، والحال أنكم تشهدون بالحق الذي اشتمل عليه، وتعلمه علم المعايش الذي يراه ويحسه، ولقد أنذرهم سبحانه بعد ذلك بقوله تعالى:

(وَمَا اللَّه بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا نفي مؤكد لإهمال الله تعالى عملهم، وغفلته عنهم ومما يضمرون ويفعلون، وقد تأكد النفي بالباء الزائدة التي تفيد توكيد النفي، وكان ذلك النفي المؤكد لبيان عاقبة أعمالهم، فإذا كان ما يفعلون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فإنهم مجزيون به، محاسبون عليه، وهو من جنس ما صنعوا، وما صنعوا بكفرهم وصرفهم الناس عن طريق الله تعالى، وطريق الحق - إلا شرا، وإلا خسارا يعود عليهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعود بالفشل والذلة، وفي الآخرة عذاب الهون بما كانوا يكسبون.

ولقد حذر الله سبحانه المؤمنين مما يريدونه بهم. فقال سبحانه:

* * *

ص: 1330

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‌

(100)

* * *

كان نزول هذه الآية وما وليها من آيات بعد تلك المحاولة التي حاولها الشيخ اليهودي في التفرقة بين الأوس والخزرج، والتي هَمَّ الفريقان بسببها أن يتشاجرا بالسيوف لولا أن نبي الرحمة تداركهم قبل أن يفعلوا، وأدركوا بكلمات

ص: 1330

الرسول أنها نزغة الشيطان، فحذرهم الله تعالى هذه النزغة مرة أخرى، وأمرهم بالحذر الشديد من اليهود خشية أن يكون فعلهم محاولة لما يريد أولئك الأشرار الذين ابتلى الله بهم البرية، ومطاوعة لمقاصدهم الآثمة، وصدر الخطاب بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تنبيها لخطر ما يدعوهم إليه، ولتحريك عناصر الإيمان في قلوبهم، فيكون منهم الحذر واليقظه، فإن الإيمان فطنة (1)، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (2)، ولأن علة الإجابة للطلب هي الإيمان، وفي قوله تعالى:(إِن تطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عبر في الشرط بـ " إن " للإشارة إلى بعد وقوع الطاعة منهم لهؤلاء مع إيمانهم، لأن " إن " الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط، وبالتالي ترتب الجواب عليه، بخلاف " إذا " فإنها تفيد وقوع الشرط أو تؤذن بوقوعه وترتب الجواب عليه، كقوله تعالى:(إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)، وقوله تعالى:(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ)، وقوله تعالى:(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وذكر سبحانه وتعالى الذين يحاولون إركاس المسلمين في الفتنة وتضليلهم، بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب؛ لأنهم لم يكونوا كلهم، ولأنه يرجى الإيمان من بعضهم. بدل الاستمرار على الغي والفساد؛ ووصفهم سبحانه وتعالى: بأنهم أوتوا الكتاب للإشارة إلى أن تضليلهم مقصود، وأنهم أهل معرفة، ولكنهم استخدموها للضلال والتضليل، فصاروا بهذا كالأنعام بل أضل سبيلا؛ لأن المعرفة إن لم تكن لنصرة الحق كان الجهل خيرا منها؛ لأنه أدنى إلى المعذرة.

وقد رتب سبحانه على الطاعة المفروضة التي حذر سبحانه وتعالى منها نتيجتها إن وقعت، ولا تقع من مؤمن بحمد الله تعالى فقال سبحانه: (يرُدُّوكُم

(1) الفطنة: الفهم والحذق.

(2)

متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - لَا يلدغ مؤمن من جحر مرتين (5668)، ومسلم: الزهد والرقائق (5317) وجاء في فتح الباري.

ص: 1331