المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ

(فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‌

(94)

* * *

الفاء هنا للإفصاح كسابقتها، والمعنى إذا كنتم مصرين على قولكم فأنتم ظالمون؛ لأن من افترى على الله الكذب فهو ظالم، وافتراء الكذب معناه القصد إليه وتعمده، والقطع بالقول فيه من غير تردد، مأخوذ من فَرَى يفري بمعنى قطع. وأولئك باستمرارهم على قولهم هذا قد كَذَبوا على الله، فادّعوا أنه حرم، وهو لم يحرم، وادعوا أن ذلك في شريعة إبراهيم عليه السلام التي نزلت من عند الله تعالى، وليست منها في شيء.

ومن قصد إلى الكذب قاطعا به من غير دليل ولا حجة (بل قام الدليل على نقيض ما يقول) فهو ظالم، ولذا قال تعالى:

(فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الإشارة إليهم محملين وصف الافتراء على الله تعالى وعلى النبيين، وهذا الوصف هو سبب الحكم بالظلم، وقد أكد الله تعالى وصف الظلم بقصر الظلم عليهم بضمير الفصل، وهم ظالمون للحقيقة إذ أخفوها وكذبوا، وظالمون لأنفسهم لأنهم يخادعون الله الذي لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهم إذ يخادعون الله تعالى، يخادعون أنفسهم ويضلونها باستمرارهم على السير في طريق الغواية،، إذ كلما أَوْلَجُوا فيه بعُدُوا عن طريق الهداية، وظلموا بغمطهم الحق والناس، وحسدهم لهم على ما آتاهم الله من فضله.

وإن أولئك الذين يتمسحون بذكر إبراهيم لم يتبعوه، ولم يهتدوا بهديه، بل خرجوا عن منهاج الفطرة الذي هداه الله تعالى، ولذلك أمرهم الله سبحانه وتعالى باتباعه فقال تعالت كلماته:

* * *

ص: 1318

(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

(95)

* * *

الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمره أن يذكر لهم صدق الله تعالى فيما أخبره به من أن إبراهيم ما حرم الإبل ولا ألبانها، وأن بني إسرائيل من قبل التوراة كان كل الطعام الطيب حلالا لهم غير حرام عليهم.

ص: 1318

وفى ذلك إشارة إلى أنهم يعاندون الله تعالى بأخبارهم الكاذبة، وأن كلامهم لَا يروج عند مؤمن، لأنه إما أن يصدِّق الله تعالى ذا الجلال والإكرام، المنفرد بحق العبودية، والمنفرد بالألوهية، وإما أن يصدق أخبارهم الكاذبة التي تتنزى بالحقد والحسد الدفين.

وإذا كانوا يتمسحون بإبراهيم فعليهم أن يتبعوه في أخص شريعته ولبها، ولذا قال:(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي اتبعوا منهاجه وشرعته وطريقته، وقد كان طريقه هو طريق الفطرة السليمة، ولذلك وصفه بقوله " حنيفا " أي متجها إلى الحق لَا ينحرف عنه إلى غيره، ولا يسلك غير سبيل المؤمنين يجيب داعي الحق إذا دعي إليه.

وإذا استمروا على طريقهم من معاندة الحق ومنازلته، وإثارة غبار الشك حوله، فإنهم بعيدون عن إبراهيم، كما بعد عنه المشركون، وقد أكد سبحانه بعْد إبراهيم عن الشرك بقوله:

(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذا نفي الإشراك عن إبراهيم عليه السلام نفيا مؤكدا وهو مؤكد بالجملة الأسمية، وبالفعل " كان "، فهو نفي للكينونة أي الوجود، فهو لم يوجد مشركا ولا يمكن أن يكون مشركا، أو يدخل في صفوف المشركين، وفي ذلك بيان براءة إبراهيم من مشركي قريش براءته من اليهود، فليس لأحد الفريقين أن يتمسح به، وأن يذكر أنه يسير على ملته، وهو لَا يخلص في قول ولا يجعل وجهته رب العالمين.

اللهم اهدنا بهديك، وخلص قلوبنا، وأصلح أحوالنا، ووفقنا إلى الإخلاص في القول والعمل إنك سميع الدعاء.

* * *

ص: 1319

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

* * *

بين الله سبحانه وتعالى بطلان ما كان يحتج به أهل الكتاب في الآيات السابقة، ورد عليهم بما يرشدهم إلى الصواب لو كانوا طلاب هداية، وباحثين عن الحقيقة لَا يبغونها عوجا، وفي هذه الآية وما وليها، يرشدهم إلى الأمر الجامع الذي يلتقون فيه مع العرب، وهو الاتصال بإبراهيم الذي يعتزون بنسبتهم إليه، وهو جد إسرائيل الذي كان منه الأسباط، وكان منه عن طريقهم من ينتمي إليهم من النبيين الذين أنشأوا بيت المقدس، وأقاموا الدولة المقدسة في الأرض المقدسة، والتي لم يحسن اليهود مِن بعدهم القيام عليها، بل عثوا فيها بالفساد، حتى مزقهم بُختنصَّر شَرَّ ممزق، وشرد الرومانُ بعد ذلك بهم من خلفهم، حتى جاء المسلمون فأعادُوا إلى الوادي المقدس شريعة الله المقدسة، وهي الإسلام الذي كتب له أن يعمره بها إلى يوم القيامة (1):(وَكانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا)، ولقد ذكر الله سبحانه ذلك الأمر الجامع في بيان شرف بيت الله الحرام فقال:

(1) روى الإمام أحمد (21286) في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: " بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ".

ص: 1320

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) البيت المقصود به هنا هو البيت الحرام، وهو الحرم المكي العامر إلى يوم القيامة، وقد عرفه بأنه الذي ببكة، وبكة هي مكة. وفي لغة العرب قلب اليم باء في أحوال كثيرة من غير انضباط، ولقد جاء في تفسير الزمخشري ما نصه:

(مكة وبكة لغتان فيها نحو قولهم: النبيط والنميط في اسم موضع بالدهناء ونحو: من الاعتقاب أمر راتب، وراتم، وحمى مغمطة ومغبطة. وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، وقيل اشتقاقها من بكَّهُ إذا زحمه؛ لازدحام الناس فيها). وقيل: بك بمعنى دك؛ وذلك لأن الله يدق عنق كل من يرومها بسوء.

وعرف البيت بأنه الذي ببكة للإشارة إلى أن مكة ذاتها هي مثابة الشريعة الباقية وهي شريعة النبيين أجمعين، وهي خالدة إلى يوم القيامة، وهي الإسلام جماع كل الشرائع السماوية؛ وهو الذي وصى الله به إبراهيم وموسى وعيسى.

وما معنى أولية البيت الحرام؛ أهي أوليته من ناحية أنه أول بيت بني للعبادة؟ أم أنه أول بيت بني بإطلاق.

قيل: إنه أول بيت بني في الأرض؛ فقيل إن الملائكة بنته لآدم؛ كما ورد في بعض الآثار؛ وليس ثمة مانع عقلي؛ إن الذي يبدو من خلال الآيات: أنه أول بيت من بيوت العبادة القائمة؛ فهو أسبق من بيت المقدس وجودا؛ وهو أجمع للديانات السماوية من بيت المقدس؛ لأن إبراهيم أبا الأنبياء أصحاب هذه الشرائع الباقية هو الذي بناه؛ بينما بني بيت المقدس في عهد داود وسليمان عليهما السلام (1).

(1) عن أبَي ذَرٍّ [ص:146] رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ:«المَسْجِدُ الحَرَامُ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «المَسْجِدُ الأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ) [رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - واتخذ الله إبراهيم خليلا (3115)، ومسلم: المساجد ومواضع الَصلَاة (808)].

ص: 1321

فوجود مقام إبر اهيم بالبيت الحرام، وآثار أقدامه الشريفة دليل على مكانة هذا البيت من ملة إبراهيم عليه السلام، وأما ما يدعيه اليهود من وجود آثار هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، فلم يقم عليه دليل ولا بينة.

ووصفه سبحانه وتعالى بأنه مبارك؛ أي فائض الخيرات كثير الثمرات المادية والمعنوية؛ فمن بركاته المادية أنه يفد إليه الحجيج من كل فج عميق؛ ويعتمرون فيه في كل أيام أشهر السنة، حتى أنه لَا يمر عليه يوم من غير وفود تجيء إليه، ومع هذه الوفود خيرات الأرض؛ وكان ذلك إجابة لدعاء إبراهيم في قوله تعالى:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).

وقد كان في البيت تلك البركة المادية بتلك الوفود؛ وبالثمرات التي كانت في باطن الأرض حوله أو على مقربة منه فقد كشفت على مقربة منه فلزات الأرض وسيول الغاز، مما كان خيرا وبركة على سدنته ومن يعيشون حوله، وبذلك أجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام، وبقي على الذين يتنعمون بهذه الثمرات أن يشكروا الله:(لَعَلَّهُمْ يَشْكرُونَ).

هذه هي البركة المادية، أما البركة المعنوية فهي أنه موضع لأكبر عبادة جامعة وهي الحج، وهو مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه منازل وحيه، وإليه يتجه الناس في كل بقاع الأرض، وتلتقي عنده قلوب الأجناس والألوان المختلفة في عباداتهم، ولذا وصفه سبحانه بقوله:(وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ):

هذا عطف على قوله سبحانه (مُبَارَكًا) أي أن الله سبحانه وتعالى جمع لهذا البيت الكريم حالتين خاصتين به لم تجتمعا في بيت غيره، فهو قد اشتمل على الِبركة المادية والمعنوية، وحماه الله تعالى من اعتداء المعتدين، ولهذا قال:(وَهُدَى لِلْعَالَمِينَ) أي هو بذاته مصدر هداية للعالمين أي للناس أجمعين؛ ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاءوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه.

ص: 1322