المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من

الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من الغنيمة بالإياب.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هذا تقوية لمعنى البشرى، ورد على كل الأوهام التي ثارت، وفيها أمر لهم بالتفويض لربهم، وأنهم إن كانوا قد أصابتهم جراح لأخطاء ارتكبوها، ومخالفات للطاعة وقعوا فيها، فإن الله تعالى لم يتخل عنهم، ولا نصر إلا من عنده، لأن كل شيء بيده، وقد حرم المشركين من ثمرات ما فعلوا حتى عادوا من غير نصر نالوه، وإنه يعدكم النصر منه متى أخذتم بالأسباب، وتركتم عوامل الخذلان، وقد وصف ذاته الكريمة بأنه عزيز حكيم؛ لأن ذلك هو الذي يناسب المقام، فالله سبحانه عزيز غالب قهار لا يغلب، وهو حكيم لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد وعد بالنصر، فالنصر آت لَا ريب فيه.

* * *

ص: 1400

(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‌

(127)

* * *

في هذا النص الكريم بيان لثمرات نصر الله تعالى، وفيه يتبين أن نصر الله لعبادة المؤمنين ينتهي إلى غايات منها: أن يقطع طرفا من الذين كفروا، وفسر العلماء ذلك بأن يقتل فريق منهم ويؤسر فريق، فإن ذلك قطع لهم، وعندي أن قطع طرف من الذين كفروا يتحقق بذلك، ويتحقق بما هو أقوى منه، وهو أن تنقص عليهم الأرض من أطرافها، ويستولي على جزء من أرضهم، حتى يتحقق قوله تعالى:(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .). ومن غايات النصر ونتائجه أن يكبت الله تعالى الذين كفروا بسبب كفرهم، والكبت يطلق بعدة معانٍ، فيراد به الرد العنيف، ويراد به شدة الغيظ، وقيل: إن أصله الكبد، أي إصابة الكبد وتقريحه بالغيظ الشديد، ويطلق ويراد به الخزي، والمعنى أن من غايات نصر الله تعالى للمؤمنين أن يصاب الذين كفروا بالغيظ الشديد والخزي والألم النفسي، حتى يخبو صوت الكفر، ويعلو صوت الإيمان، ويصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعند الناس ينقلبون، أي يعودون خائبين. وفي التعبير عن العودة بالانقلاب

ص: 1400

إشارة إلى أن مقاصدهم قد انقلبت، فقد أرادوا اقتلاع الإسلام فما وهن المسلمون، وأرادوا أن يطفئوا النور فما انطفأ، فالانقلاب عودة من غير تحقق المقاصد، وفي هذا إشارة إلى أن الجراحات التي أصابت المؤمنين لم تكن نصرا للكافرين، بل قد كانت ثمرة النصر للمؤمنين، إذ قد انقلب الكفار خائبين:(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. . .)، (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ).

* * *

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

* * *

الكلام متصل بغزوة أحد وما فيها من عِبَر، فإنه يروى في الصحاح عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أُحد، وشج وجهه الكريم، حتى سالَ منه الدم الزكي، فقال عليه الصلاة والسلام:" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم "(1) فأنزل الله تعالى:

(1) ذكر ذلك البخاري في الترجمة: المغازي - باب (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)، ورواه مسلم في صحيحه: الجهاد والسير - غزوة أحد (1791). كما رواه الترمذي: تفسير القرآن (2928)، وابن ماجه: الفتن (4017)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (11518).

ص: 1401

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

ص: 1401

وسواء أكان هذا هو السبب في النزول أم لم يكن، فإن الخبر صحيح في ذاته، والآية الكريمة متصلة بما قبلها، وهو اتصال تفسير وتتميم على بعض التخريجات، أو اتصال موضوع على تخريج آخر، إذ إن موضوعها متصل بغزوة أحد كالآيات قبلها، والتخريجان يظهران في تفسير قوله تعالى:(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، فإن بعض العلماء يعتبرها معطوفة على قوله تعالى في الآية السابقة:(أَوْ يَكْبِتَهُمْ)، ويكون قوله تعالى:(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة، والمعنى على هذا: إن النصر من عند الله العزيز الحكيم يعطيه عباده المؤمنين ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم، بأن يخزيهم ويرد كيدهم في نحورهم، أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولكن الأمر في هذا ليس لك، إنما هو لله تعالى، لأنه يتصل بتدبيره سبحانه الكوني، وتقديره الأزلي، وليس لك إلا أن تدبر ما تستطيعه، وتقدر ما يدخل في حسبانك، وتنفيذ ما تكلف بتكليفه وقد رجح هذا التخريج الزمخشري، وقال فيه:(المعنى أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم).

هذا هو التخريج الأول في قوله تعالى: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ)، وهناك تخريج آخر مؤداه أن الاتصال ليس اتصال عطف بين الآيتين، إنما هو اتصال موضوع فقط، وهذه الآية تكون لأمر جديد في الموضوع، وهو بيان أن هؤلاء منهم من يفلح فيتوب، ومنهم من يصر على الكفر فيعذب، وتكون نصب (أو يتوب) على تقدير (أن) الناصبة، وتكون (أو) بمعنى (حتي) والمعنى: ليس لك من أمرهم شيء فيما يتعلق بمستقبلهم حتى يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، أو حتى يصروا فيعذبهم فترى آية الله فيهم وصِدْقَ وعده لأنبيائه، إذ قد وعد، ووعده حق وصدق.

وقيل إن (أو) هنا بمعنى (إلا)، والمعنى: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح، أو يعذبهم فيذهب غيظ المؤمنين، والمؤدى واحد سواء كانت (أو) بمعنى " حتى " أو " إلا ".

ص: 1402