المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكل ما في هذا الوجود من أشياء - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكل ما في هذا الوجود من أشياء

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكل ما في هذا الوجود من أشياء وأعمال ومخلوقات تحت قدرة الله، وكله خير بالنسبة له سبحانه، والشر والخير بالنسبة لمقاصد الناس، ولانتفاعهم بما مكَّن الله تعالى في هذه الأرض. وإنه يلاحظ دائما أن الشر نسبي للناس، ولا يصح أن يقال في فعل الله إلا أنه خير. ولقد بين سبحانه مظاهر قدرته في الكون المحسوس فقال سبحانه مبتدئا بآياته جل شأنه في الليل والنهار:

* * *

ص: 1171

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ

(27)

* * *

هذا مظهر حسي لقدرة الله تعالى في هذا الكون. تولج معناها تُدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل. " وقد فسر بعض العلماء دخول الليل في النهار بزيادة الليل حتى يصل إلى أقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهار جزءا من معدل النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهار في الليل. وفقد فسر الزمخشري مع كثير من المفسرين دخول الليل في النهار ودخول النهار في الليل بالتعاقب بينهما بأن يكون الوقت نهارا ثم يصير ليلا، ويكون ليلا ثم يصير نهارا، ولكن كيف نسمى ذلك التعاقب دخولا لليل في النهار، ودخولا للنهار في الليل؟ والجواب عن ذلك: أن الليل لَا ينقلب نهارا دفعة واحدة، بل إنه يدخل النهار في الليل شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، يبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهبها، فيكون الضوء الساطع؛ وكذلك لَا يجيء الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجيء الغروب، ثم تجيء العشية، فيكون ظلام وتُمحى آية النهار.

وإن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، سواء أكان بالمعنى الأول أم كان بالمعنى الثاني، فيه توجيه الأذهان إلى عظمة الكون وكمال سلطانه سبحانه وتعالى فيه، فما كان تعاقب الليل والنهار وتداخلهما إلا ظاهرة لدوران الأرض حول الشمس، وحركة الفلك الدوار المستمرة الدائبة بقدرة

ص: 1171

الله تعالى وقيامه على كل شيء، وفي " الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي) هذا مظهر كوني حسي يدل على عظيم قدرة الله، وبيان أنه لَا إرادة في هذا الكون غير إرادته، وأنه القادر على كل شيء، يخرج الضد من ضده، وهو المبدع لكليهما، المسير لهما؛ فالله سبحانه يخرج الحيَّ من الميت، ويجعل من هذا الحيّ الذي أخرجه ميتا؛ وإخراج الحيّ من الميت ليس هو الخلق الأول الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإن الخلق غير الإخراج؛ إذ الخلق إبداع وإنشاء ابتداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد؛ وإخراج الله الحيّ من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون: إنه إخراج الجسم النامي الذي يسير في مدارج الحياة، من الجسم الجاف الذي لَا تبدو فيه حياة، كإخراج الشجرة من النواة، والعود من البذرة؛ وإخراجُ الميت من الحي هو أيضا إخراج النواة الصلبة من الجسم الحيّ النامي، وإخراج البذرة الجافة من العود الحي الرطب. وقد يعترض على ذلك بأن النواة الجافة والبذرة الصلبة فيها حياة تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس. وقد يجاب عن ذلك بأن ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر.

وفى الحق إن إخراج الحيّ من الميت أمر محسوس مرئي كل يوم؛ فإن تلك الشجرة أو ذلك العود النامي يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلها جماد لا حياة فيها، وما يتم التحول المتدرج في الحياة إلا بتلك العناصر التي هي غذاء الحي، فهي إخراج الحي من الميت، وليس المراد من الميت من كانت به حياة ثم انتهت، إنما الظاهر من كلمة الميت هو ما لَا حياة فيه؛ وإن إخراج الميت من الحي أمر واضح لَا مجال للشك فيه؛ فهذا العود الأخضر يصير حطاما، وهذا الجسم الحيواني يتحلل فيكون رميما ثم يكون ترابا.

ص: 1172

وعلى هذا نقول إن إخراج الحي من الميت ليس فلْق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحي وأكثرها من جماد؛ ولذا قال سبحانه في آية أخرى:(إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأنَّى تُؤْفَكونَ)، (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذا مظهر رابع من مظاهر قدرة الله تعالى المحسوسة بين الناس، وهو الرزق للعباد، وكلمة الرزق تشمل إعطاء الله عبيده مالا، وإعطاءهم جاها، وإعطاءهم علما، وإعطاءهم حزما ورأيا، وإعطاءهم صحة، فكل هذه أرزاق يعطيها رب العالمين. ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته:" الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان أم أخرويا، وتارة للنصيب، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى منه به تارة أخرى، يقال أعطى السلطان رزق الجند، ورُزقت علما؛ قال تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. . .)، أي أنفقوا من المال والجاه والعلم ".

فالله سبحانه وهو الرزاق ذو القوة المتين، قد وزع رزقه بين عباده بالقسطاس المستقيم؛ فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من أعطاه مالا وحرمه من نعمة العلم، ومنهم من أعطاه جاها وسلطانا، ومنهم من أعطاه أولادا تقر بهم عينه، ومنهم من وهب له ذكرا حسنا بين الناس. ومن قصر الرزق على المال فقد ضل ضلالا بعيدا، كذلك المعترض الذي يقول:

كَم عاقلٍ عاقلٍ أعْيَتْ مذاهبُه

وجاهل جاهلٍ تَلقْاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهامَ حائرةً

وصيَّر العالِمَ النَحريرَ زِنْدِيقا

فما في ذلك حَيْرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة: حَرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد وأعطاه ذكرا بين الناس. وهكذا؛ ولو اجتمعت كلها في واحد، لكانت الحيرة، وعلاجها التفويض المطلق لرب العالمين.

ص: 1173

وقوله تعالى: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) معناه أنه ليس فوقه أحد يحاسبه، تعالى الله علوا كبيرا، وأن عطاءه كثير يعلو على العد والحساب، وهو يعطي من يشاء بسنة الحكمة والعدل والفضل، وإليه مصير كل شيء، ولا ينتج عمل عامل نتيجته إلا بفضل من الله. روى الحافظ ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" بسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب " في هذه الآية: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26).

* * *

(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

* * *

بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم إن لم يحسنوا القيام عليه؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه أنه لَا يصح للمؤمن أن يستعين بسلطان غير المؤمن على المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن

ص: 1174

الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر (1)، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا؛ فكأن الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة؛ أي أنه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن أن يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته؛ لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه، ولذا قال سبحانه:

(1) يُديلنا: من الدَّوْلَة. والإدالَةُ: الغَلَبَةُ. ودالَت الأيَّامُ: دارَتْ، واللهُ تعالى يُداولها بينَ الناسِ. [القاموس المحيط - فصل الدال - الدولة].

ص: 1175

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أولياء جمع ولي، وهو من الولاء. وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته، فقال:" الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، والاعتقاد. والوِلاية (بكسر بالواو) النصرة. والوَلاية (بالفتح) تولي الأمر. وقيل الوِلاية والوَلاية واحدة نحو الدِّلالة والدَّلالة ". وعلى ذلك تكون كلمة ولي تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى أمر غيره. وما المراد بها هنا؛ الظاهر أن المراد هو من يتولى أمر غيره، فمعنى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهى المؤمنين عن أن يدخلوا في ولاية الكافرين وتحت سلطانهم وفي ظلهم دون ظل المؤمنين وسلطانهم، فإن على المؤمنين أن يكوِّنوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على أن أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى:(مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم؛ فالمعنى إذن أنه لَا يجوز لطائفة من المؤمنين أن يكونوا في ولاية غير المؤمنين. وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى:(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) وفي قوله: (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، فإنه من المقررات البيانية أن اللفظ إذا

ص: 1175

أعيد معرفا بـ ا (أل) كان الثاني هو عين لأول، فإذا قلت خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف بأل إشارة إلى أن الثاني هو عين الأول، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.

وإن النهي عن تولى المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى:(مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يشير إلى أن تولى المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهي معللا تعليلا صريحا، فقد قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَولِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. . .). وقال تعالى: (وَالَّذِين كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).

ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن أن يكون المؤمنون أو بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين أن السبب في أنه لَا يجوز للمؤمنين أن يتولَّوْا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور:

أولها: أن غير المؤمنين لَا يمكن أن يرعوا حقوق المؤمنين حق الرعاية، بل لا يألونهم خبالا، وقد حققت الأيام ذلك، فإن المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لَا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.

وثانيها: أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَن يَتَوَلَّهم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إذ تكون كل قوته وكل نشاطه الإنساني والاجتماعي لهم، وليس للإسلام منه شيء.

وثالثها: أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أي

ص: 1176

فساد، ولذا قال تعالى:(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَاد كَبِيرٌ) أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

هذا، ويجب التنبيه إلى أن تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب إن تحقق السبب الموجب للبر، فقد قال تعالى:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9).

(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تقَاةً) أي من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما، لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى؛ وهذا معنى قوله تعالى:(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شيْءٍ). وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى: فليس من ولاية الله في شيء، وبعضهم قال: فليس من الصلة بالله في شيء، ولكن لِمَ حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة؟ والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى أن من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر:(إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ. . .).

هذا حكم الجماعة الإسلامية أو بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، فهل يسوغ ذلك؛ ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه:(إِلَّا أَن تَتَّقُوا منْهُمْ تُقَاةً) أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين

ص: 1177

فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد، ومعنى:(أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر، وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال:(أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي يكون الضرر ثابتا لَا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة. و " تقاة " مصدر وقى على وزن فعلة، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.

وإن هذا النص يستفاد منه أن التقية جائزة، والتقية أن يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على أن يكون نزول الأذى مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ. . .)، على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لَا الأحوال الجماعية، وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين أن يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض، فقد قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99).

هذا، وإن التقية الأحادية أمر لَا يعلمه إلا الله، وقد يمالئ بقلبه ولسانه رجاءَ رجاء كما يفعل بعض ملوك المسلمين ويدعي أنه يفعل ذلك تقية ودفعا للضرر؛ ولذا قال سبحانه محذرا هؤلاء، ومحذرا من يوالي الكفار بشكل عام:(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ):

التحذير: هو التخويف لأجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر الخوف قبل وقوعه. والتحذير لَا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد أنه لَا مخاف، ولا ما يثير الخوف؛ وإن مقام التحذير هنا واضح بين؛ لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون أن ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم

ص: 1178