الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية أي جعلوا أنفسهم في حصن فلا مدخل للشيطان إليها، ولا سارب له في قلوبهم، وصار ذلك شأنا من شئونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم.
وقد أخذ بعد ذلك يبيّن سبحانه وتعالى الصفات التي رفعتهم إلى هذه الرتبة، والتي جعلتهم يصلون إلى هذه المنزلة فذكر خمس صفات كلها ذات صلة وثيقة ببناء مجتمع سليم قوى ثابت، وقد ذكر الصفة الأولى فقال سبحانه:
* * *
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
…
(134)
* * *
ومعنى النص السامي أنهم ينفقون، ويتجدد إنفاقهم آنًا بعد آنٍ، ولذا عبر المضارع؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر، والتعبير بالماضي يفيد الواقع المنقضي، ومعنى قوله تعالى:(فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أنهم ينفقون في حال مسرتهم، وحال مساءتهم، وهذا يشمل أحوالا كثيرة، فهم ينفقون في حال الغنى والفقر واليسر والعسر، وكل حال بمقدارها، وفى حال الصحة والمرض، وفي السرور والحزن، وحال عرس أو مأتم أو حبس، والمغزى في هذا أنه لَا تشغلهم أنفسهم عن حاجة الناس إليهم أو إلى أموالهم، ولا تشغلهم همومهم الخاصة عن هموم الناس، والإنفاق منهم ليس لمناسبات تعرض وتزول، ولا لأحوال تجيء ثم تحول، بل هو لطبيعة ثابتة فيهم مستقرة غير مفترقة لَا تزايلهم. وقدم الإنفاق على غيره من الصفات، لأنه وصف إيجابي وما عداه سلبي أو يتصل به، والإيجابي في أكثر أحواله أشق من السلبي، ولأنه أدل على الإخلاص، ولأنه في صدر الإسلام كان المجتمع أشد احتياجا إليه من غيره، إذ كان الفقر كثيرا، وكانت الحاجة إلى المال في الجهاد أشد؛ إذ كان ذلك ابتداء دولة، ولذلك قرن الأمر بالإنفاق بالنهي عن التعرض للتهلكة، فقال تعالى:(وَأَنفِقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلكَةِ. . .).
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) كظم الغيظ أن يمسك على ما في نفسه، فيحملها على الصبر، ولا يظهر أثر لهذا الغيظ، ولقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (الغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها
الإنسان من فوران دم قلبه). والغيظ بلا شك يدفع إلى الثورة وهي مظاهر الغضب فكظمه إبقاؤه في النفس وعدم ظهور آثاره في القول أو في الفعل، وأصل كظم من كظم السقاء إذا ملأه وسد فاه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير إذا لم يجتر.
وإن هذا الوصف ليس فيه منع للألم الذي يحدث من الأذى، بل إنه يدعو إلى كبح جماح الغضب ومنع نفسه من الاسترسال في مجاوبة الشر بمثله، وإن هذا لَا ينال إلا بشق الأنفس وقوة الإرادة: ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "(1) ولقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أقرب القربات ألا يغضب، واعتبر أن إبعاد المؤمن الغضب عن نفسه إبعاد لغضب الله تعالى عليه، فقد سأله أنس رضي الله عنه عما يبعد غضب الله تعالى، فقال له عليه الصلاة والسلام:" لا تغضب "(2).
وإن غضب المؤمن يجب أن يكون لأجل حقوق الله، وغيظه يجب أن يكون لانتهاك حرمات الله تعالى. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله تعالى "(3).
هذا هو الوصف الثاني من أوصاف المتقين، أما الوصف الثالث فهو العفو، وهو ثمرة لكظم الغيظ، وإنه يجب أن يكون معه لأن الغيظ الشديد إذا لم يصحبه عفو فإنه يمض القلب، ويفسد النفس، وينهك القوى فلابد أن يقترن بالكظم العفو لمصلحة الشخص ولمصلحة الناس، ولكيلا تتولد الإحن (4)، وتتكاثر المحن، وليس العفو هو الستر على الجرائم العامة، فإن الجرائم العامة إذا ظهرت وجب
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - الحذر من الغضب (5649)، ومسلم: البر والصلة والآداب - من يملك نفسه عند الغضب (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد: مسند المكثرين (6346) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَب اللَّه عز وجل قَالَ: " لا تَغْضَبْ ".
(3)
رواه ابَن مآجه: الزهد - الحلم (14179) عن ابن عمر رضي الله عنه.
(4)
الإحن: جمع إحنة، وهي الحقد، الصحاح.
العقاب لأنه تقليم لأظفارها، وقطع لآثارها فلا يصح العفو عن زان يعلن جريمته، ولا عن سارق اعتاد السرقة واستهان بالحرمات، وروع الآمنين، كما لا يصح العفو عن فساق الألسنة، الذين يقذفون الناس، ويرمونهم بالسوء، ويعملون بذلك على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن العفو في هذه الأمور استهانة بحرمات الله تعالى، إنما العفو المطلوب هو الذي يكون في أنواع الأذى الشخصي وهي التي ينطبق عليها قول الله تعالى:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وقوله تعالى:(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، ولقد ذكرت عائشة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لَا يغضب إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لَا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لله (1).
ولقد ختم سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهي الصفة الرابعة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة لتوجيه النظر إليها، ولبيان أنها أعلى منازل التقوى، وأنها تنال بها محبة الله تعالى، والإحسان معناه الإتقان والإجادة، وهو يطلق في عبارات القرآن الكريم بإطلاقين: أحدهما أن يراد به الإجادة المطلقة في كل ما يطالب الله تعالى به عباده، ومن ذلك قوله تعالى:(إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، وقوله صلى الله عليه وسلم إحسان العبادة:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "(2).
والثاني: أن يكون العمل أكثر من المكافأة، فهو لَا يكافئ بالعدل بل يزيد، ومن ذلك قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذي الْقرْبَى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ. . .)، وقوله تعالى:(وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ. . .)، والإحسان بالإطلاق الأول يتعدى بنفسه ويذكر بجواره العمل، والثاني يتعدى بـ " إلى " ويذكر بجواره المحسن إليه، وأقرب الإطلاقين في
(1) رواه البخاري: المناقب - صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3269)، ومسلم: الفضائل - مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام (2327).
(2)
متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.