المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المعنى الأول - أن المال كله لله تعالى، فهو الذي - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: المعنى الأول - أن المال كله لله تعالى، فهو الذي

المعنى الأول - أن المال كله لله تعالى، فهو الذي أعطى كما عبر سبحانه وتعالى:(بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)، وأن مآل المال إليه سبحانه وتعالى في ضمن ما يئول إليه كل شيء في هذا الوجود، بلا استثناء مطلقا، ومن يبخل لورثة يرثونه، فليعلم أن الميراث كله لله تعالى، وأنه سيعطيهم إن أراد سبحانه، وإن لم يرد لهم عطاء فسينفقونه إسرافا وبدارا.

والمعنى الثاني - هو بيان سلطان الله تعالى على كل ما في الوجود، فهو ملكه، وهو الذي يئول إليه، وفي ذلك بيان كمال سلطانه، وتأكيد لمعنى أنه المعطي الوهاب، والقوي الرزاق المتين، ولذلك لم يعبر عن الميراث بأنه ميراث الأموال التي نعرفها، بل ميراث كل ما حوته السماء وما حوته الأرض.

والمعنى الثالث - أن العطاء الذي يعطيه الله تعالى بعض عباده، ويختصهم به يوجب عليهم تكليفات مالية فيه، فإذا كان سبحانه وتعالى قد ابتلى الفقراء بالفقر، فقد ابتلى الأغنياء بالمال، وأوجب عليهم أن يعطوا، وهم محاسبون على مالهم، (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ)، وقد فهم هذا من ذكر علم الله تعالى الدقيق العظيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى:(وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

والمعنى الرابع - أن الجزاء سيكون شاملا كاملا؛ لأن علم الله دقيق لَا يترك

صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8). ولذلك عبر سبحانه عن علمه بأعمالنا بأنه خبير، والخبرة هي العلم الدقيق الشامل.

ولقد كان الشح في موضع الإنفاق يسرى إلى المسلمين من اليهود الذين كانوا يجاورونهم، ولذلك ذكر بعض شنائع اليهود ليَنْفُر المسلمون منهم، ولا يقلدوهم في خساستهم، فقال سبحانه وتعالى:

* * *

ص: 1527

(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ

(181)

* * *

ص: 1527

لقد كان اليهود يحرضون المؤمنين على الشح وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى بطرق شتى، وكانوا يحاولون أن ينالوا من إيمان أهل الإيمان، فلما نزل قوله تعالى:(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرضًا حَسَنًا. . .) أخذوا يتهكمون على القرآن، وعلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصفون الله سبحانه بما لا يليق، وذلك لِيُوهِنُوا قلوب المؤمنين، ويشككوهم في دينهم، أو ليبعثوا فيهم روح الشح. ويروى في ذلك عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية:(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد ربك فقير يسأل عباده القرض (1)، ويظهر أن ذلك قد تكرر منهم، وتجرءوا به على ذات الله سبحانه، أو اتجهوا إلى تكذيب ما في القرآن بالتهجم على ما اشتمل عليه في هذا المقام، ولقد بين سبحانه أنه عليم بقولهم علم من يسمع القول، ولذلك قال سبحانه:(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا. . .) وفي هذا التعبير بيان أن الله تعالى مُطَّلِعٌ عليهم، ومراقب لهم مراقبة من يستمع إليهم، وفي ذلك من التهديد ما فيه، إذ إنه إشعار بأن ذا الجلال القوي القهار القادر على كل شيء والذي يملك الوجود ومن فيه وما فيه، مستمع لما يقال في شأنه، وما يتجرءون به عليه، كما يقول القائل لن يجده يتجرأ على عظيم: إنه يسمع قولك ويعلم به، فارتقب عواقب ما تفعل، واستشعر الهيبة والمخافة والخشية:(ولِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقد عقب سبحانه ذلك بنتائج تلك المراقبة، وصرح بالتهديد الشديد في قوله تعالى:(سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمً الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).

في هذا الكلام تهديد شديد لهم، وذلك لأن المعنى: سنثبت عليهم في سجل الله تعالى قولهم هذا وتجرؤهم عليه سبحانه، وليس المراد مجرد الكتابة، بل المراد نتيجتها وهو الحساب عليها، والجزاء من العذاب الأليم، والتعبير بالكتابة كناية عن العلم المستتر الثابت الذي تترتب عليه نتائجه وثمراته، ولما تضمنته الكتابة

(1) رواه ابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس بسند حسن، وذكره الواحدي في أسباب النزول.

ص: 1528

من معنى العقاب الرادع الذي لَا مناص منه عبر بالمضارع فقال سبحانه: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) والتعبير بـ (مَا قَالُوا) فيه إشارة إلى ما فيه من تجرؤ على الله تعالى، وتهجم على مقامه الأعلى سبحانه.

وقد قرن سبحانه ذلك القول الجرىء بعمل جرىء من أسلافهم، وقد ارتضوه، فكان من الحق أن ينسب إليهم، وهو ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله:(وقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) وذلك لإثبات جرأتهم في الشر، واستهانتهم بالحقائق الدينية، وشرههم إلى الفساد، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى بذلك فساد فعلهم بهذا القتل الشنيع، وفساد قولهم بذلك القول الفاسد الجرىء على الله سبحانه وتعالى.

وهنا تثار ثلاثة أمور نتكلم فيها بإيجاز:

أولها: في قرن هاتين الجريمتين، وقد أشرنا إلى أنهما من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله سبحانه وتعالى، فالقديمة تجرؤ على رسالة الله، والثانية تجرؤ على ذات الله، وبذلك يكونون قد عتوا عتوا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا. ثانيها: أن نسبة القتل إلى الحاضرين صحيحة لأنهم رضوا به، وإن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضي بجريمة فقد فعلها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها من غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها "(1).

وثالثها: أنه وصف قتلهم للنبيين بأنه بغير حق - مع أن هذا النوع من الإجرام لَا يمكن أن يكون بحق أبدا، وذلك للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وعظم شرهم، وأنهم لَا يبالون أكان فعلهم في موضعه أم في غير موضعه.

وقد قلنا إن هذه الكتابة هي للعقاب، وقد قال سبحانه بعد ذلك مصرحا بالعقاب:(ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).

(1) رواه أبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (3782) عن العُرس بن عميرة الكندي.

ص: 1529