المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وأما العلم الثالث والرابع فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وأما العلم الثالث والرابع فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة

وأما العلم الثالث والرابع فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة تومئ إلى علم الرسالات التي كانت قبلها، وعلم الإنجيل هو العلم برسالته التي بعث بها في وسط تلك المادية التي استولت على بني إسرائيل، وهذا يدل على اتصال رسالته بالرسالات التي سبقته، وكل رسول مبعوث لَا تكون رسالته مقطوعة عما قبلها، بل هي موصولة بها متممة لها، وهي لبنة في صرح الرسالات الإلهية وبعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى علم الرسالة التي هيأه الله تعالى لها، أشار إلى من أرسل إليهم، فقال تبارك وتعالى:

* * *

ص: 1228

(وَرَسُولُا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ

(49)

* * *

أي بعثه سبحانه وتعالى رسولا إلى بني إسرائيل. ومعنى الكلام: ويجعله أو يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل. وذكر بنو إسرائيل خاصة مع أن دعوته كانت تعم كل الذين علموها من اليهود والرومان وغيرهم حتى يجيء من السماء ما ينسخها أو يكملها، وهي الرسالة العامة الخالدة، رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ والسبب في اختصاص بني إسرائيل بالذكر أنهم هم الذين خرج عيسى من بينهم، فهو منهم، وقد كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم، وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر، فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وتوبيخ لهم؛ لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء، مع ذلك كفروا برسول مبعوث منهم، أوتي بمعجزات لَا تجعل للعقل مساغا لإنكار.

ولقد ذكر سبحانه في هذه الآيات معجزات عيسى التي أرسله الله بها لإثبات رسالته، فقال سبحانه:

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبكُمْ) وهذا النص الكريم فيه معنى هذه الرسالة التي كان بها رسولا، أي أنه يتبين معنى أنه رسول بقوله:(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَة مِّن رَّبكُمْ) فالجملة عطف بيان لمعنى الرسالة المنطوي في الكلام. وفي الكلام التفات وانتقال من خطاب الله لمريم، إلى بيان رسالة بشارة الله إليها، وجاء بيان الرسالة على لسانه هو، وابتدأ بيان الرسالة ببيان إثباتها، وهو المعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة؛ لأنها ركنها ودعامتها التي قامت عليها، ولأن معجزة عيسى كانت

ص: 1228

تومئ إلى معانٍ من رسالته؛ ذلك بأن عصره كان عصرا ماديا، لَا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجري في الحياة على أنها المؤثرات في إيجاد الأشياء، فإنت معجزاته عليه السلام إعلانا لبطلان تأثير الأسباب، بدليل خرق هذه الأسباب، بإحياء الموتى؛ وقد جرت الأسباب المادية التي ترى على أن من مات لَا يحيا في هذه الدنيا، وأن الأكمه الذي ولد أعمى لَا يرتد بصيرا، وأن إخراج الحيّ من الطين مباشرة لَا يكون، فجاء عيسى بكل هذا، فكان إعلانا قويا بأن الله فاعل مختار، وذلك جزء من رسالته.

والآية هنا هي المعجزة، وهي في أصلها العلامة، والمراد بها هنا العلامة الدالة على الرسالة، وأطلق على الجزء من القرآن آية؛ لأن كل آية في كتاب الله تعالى معجزة في ذاتها، دالة بوحدتها على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولقد ذكر بعد ذلك سبحانه آيات، وكانت الآيات المذكورة في هذا المقام أربعا؛ وعبر عنها بآية؛ لأن مجموعها دال على رسالته، وإن كانت كل واحدة منها تصلح حجة قائمة بذاتها؛ فذكرها بلفظ المفرد للإشارة إلى أنها جميعا كانت آيته.

والآيات الأربع: هي أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، وأنه يحي الموتي؛ وأنه ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ فهذه آيات أربع.

والآيات الأربع ذكرت مضافة إلى السيد المسيح عليه السلام؛ لأنها كانت تجري على يديه، ولأنها هي التي كان يقيم بها الدليل على رسالته، وقد خاطب بها بني إسرائيل، ومن استمع إليه من الرومان وغيرهم.

وأول هذه الآيات تصوير الطين ثم النفخ فيه فيكون طيرا، وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله:(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ):

ص: 1229

الخلق المراد به هنا التصوير، أي أنه صور من الطين كهيئة الطير، أي بشكله، فينفخ فيه، فكان طيرا بإذن الله تعالى، فهنا أعمال ثلاثة؛ اثنان منها لعيسى عليه السلام، والثالث لله تعالى جل جلاله وعظمت قدرته، أما اللذان لعيسى فهما: تصوير الطين كهيئة الطير، والنفخ فيه، وأما الثالث الذي هو من عمل الله تعالى وحده، فهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى عليه السلام؛ ولذلك قال:(بِإذنِ اللَّهِ) أي بأمره وإعلامه، والكون كله بأمره سبحانه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وهذا يدل على أنه لم يكن في عيسى ألوهية، ولا أي معنى من معانيها.

ولقد قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: إن الصيغة التي ذكرت بها هذه الآية وهو قوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفخ فِيهِ فَيَكون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) تدل على استطاعته ذلك ولكنها لَا تدل على الوقوع، وعندي أنها تومئ إلى الوقوع لأن ذكر الكيفية وهو أنه يتخذ من الطين صورة الطير، ثم النفخ ثم الكون طيرا يدل على الوقوع لَا على مجرد الاستطاعة وفوق هذا فإن آية المائدة تدل على الوقوع بشكل أوضح من هذا؛ فإنه سبحانه وتعالى يقول:(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّن الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفخُ فِيهِ فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) فهذا النص الكريم دليل على الوقوع، لَا على إمكان الوقوع؛ لأن الله تعالى لَا يمن عليه إلا بالذي وقع فعلا.

والآية الثانية والثالثة بينهما سبحانه وتعالى بقوله:

(وَأُبْرِئُ الأَكْمَة وَالأبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) الأكمه هو الأعمى الذي يولد أعمى، أي الذي لم يُؤت حاسة الإبصار؛ أجرى الله تعالى على يد عيسى عليه السلام إبراءه. والأبرص هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة، وهو مرض لَا يبرأ منه من يصاب به؛ فهذان مرضان لَا يتصور بمقتضى العادة، والأسباب الجارية بين الناس أنه يمكن أن يكون منهما شفاء؛ لأنَّ الأول يولد به الشخص ناقصا حاسة الإبصار، والثاني لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منه، فإذا كان الله قد أجرى على يدي عيسى عليه السلام الشفاء بهما فإن هذا

ص: 1230

يقنع الماديين بأن وراء هذه الأسباب فاعلا مختارا، وليست الأسباب مؤثرة في الإيجاد، إنما المؤثر هو الله سبحانه وتعالى.

وإحياء الموتى وحده برهان قاطع على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر، وأن الأشياء لم تخلق بالعلِّية، إنما خلقت بالإرادة المختارة المبدعة المنشئة المكونة، وعبر بقوله:(بِإِذْنِ اللَّهِ) في كل هذا للإشارة إلى أن المبدع المنشئ هو الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس ما يجري على يدي عيسى لمعنى الألوهية فيه، إنما هو لله العلي القدير.

والآية الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله: (وَأُنَبّئُكُم بمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخرونَ فِي بُيوتِكُمْ):

الإنباء والتنبئ: الإخبار بالخبر العظيم، إما لموضوعه، وإما لعظم شأن الإخبار نفسه، والإخبار عن شيء من غير رؤيته، إخبار عظيم في ذات شأنه، ولقد كان عيسى لفرط روحانيته، ولما أكرمه الله به من إجراء الخارق للعادة على يديه تأييدا لرسالته، يخبر من بعث إليهم بما يأكلون، أي ما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، وهذا نوع من الكشف النفسي أعطاه الله لنبيه عيسى عليه السلام، وهو ليس من قبيل الإخبار عن المستقبل، وإنما هو من قبيل الإخبار عن الحاضر الواقع ممن لَا يراه.

وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يخبر عن بعض الأمور المستقبلة، كما أعلمه الله تعالى، مثل قوله تعالى:(غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ).

وكإخباره عليه الصلاة والسلام عما يحدث لأمته في الأزمان المستقبلة، وكإخباره عليه الصلاة والسلام عن فشو الربا في أمته، مثل قوله عليه الصلاة والسلام:" يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قيل: الناس كلهم يا رسول الله؟! قال " من لم يأكله ناله غباره "(1).

(1) رواه بهذا اللفظ أحمد بن حنبل: باقي مسند المكثرين (10007) عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه النسائي: البيوع (4379)، وأبو داود: البيوع (2893)، وابن ماجه: التجارات (2269) بنحوه.

ص: 1231

هذه المعجزات الأربع وغيرها، هي آية الله تعالى لإثبات رسالة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، ولذا قال تعالى بعد ذكرها:

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في هذه الأمور التي أجراها الله على يد السيد المسيح عليه السلام لآية، أي لعلامة واضحة بيّنة تدل على صدق رسالته، وتثبت دعوته، ويقتنع بها من يريد الاقتناع. وقوله:(إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الذين يقتنعون بالحجج والآيات هم الذين من شأنهم أن يذعنوا للحق، ويخضحوا له؛ فالناس قسمان: قسم يذعن للحق ويؤمن به إن قام الدليل عليه، وأولئك هم الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق، وقسم لا يزيده الدليل إلا عنادا واستكبارا، وأولئك هم الذين من شأنهم أن يجحدوا ولا يذعنوا للحق إذا دعوا إليه؛ ولذلك عبر بالوصف في قوله:(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان والإذعان لنحق شأنا من شئونكم، ووصفا ذاتيا لكم.

وإن هذه المعجزات الباهرة القاهرة التي خضع لها من خضع، وكفر بعدها من كفر، دليل على أن الدليل مهما يكن قويا لَا يكفي للإيمان، بل لابد من اتجاه نفسي لطلب الحق من أن يتأشب بالنفس أي داع من دواعي الهوى، أو أي غرض من أغراض الدنيا؛ وأي دليل حسي أقوى في الدلالة على الرسالة الإلهية من إحياء الموتى، وأن يصور من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، ومع ذلك آمن من آمن، وكفر من كفر، وكان الذين عاندوا أكثر عددا من الذين أذعنوا وآمنوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

بعد أن أشار سبحانه إلى الآيات الكبرى التي أجراها على يدي السيد المسيح عليه السلام، أشار إلى رسالته، وهي تتلخص في أمرين: أنها مصدقة لما جاء في التوراة مع إحلال ليعض الذي حرم على اليهود فيها، وثانيها: أنه يدعو إلى الإيمان بأن أنه خالق كل شيء ومبدعه ومنشئه بإرادته المختارة، وهذا ما تضمنه قوله تعالى:(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ):

ص: 1232

وقوله تعالى:

ص: 1233

(وَمصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَوْرَاةِ) حال من الفعل المحذوف الذي دل عليه العطف، أي أنِّي جئتكم بآية من ربكم أني أخلق، وجئتكم مصدقا لما بين يدي؛ يقال الأمر بين يديه أي أنه حاضر ثابت موجود، وعيسى جاءت رسالته متممة لرسالة موسى ناسخة لبعض ما جاء فيها، كالشأن في كل نبي بالنسبة لمن سبقه. ولقد بين عيسى عليه السلام لهم أنه جاء بالرفق والسماحة؛ ولذا أحل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذينِ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طياتِ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .)، ولقد قال تعالى:(وعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كلًّ ذِي طفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ). ذلك لأنهم فست قلوبهم وغلظت أكبادهم، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم، فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا، ويكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا أجساما مسترخية؛ فلما جاء عيسى عليه السلام، وقد نزل بهم من البلاء ما نزل، أحل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم. وقوله تعالى:(وجِئْتُكُم بِآيَةٍ من رَّبِّكُمْ) ذكرت الآية، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه، فهي في ذاتها جزء من دعوته؛ لإثبات قدرة الله تعالى وإرادته في الخلق والإبداع.

وبعد أن أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية، ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة، فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم:

(فَاتَّقُوا اللَّهُ وَأَطِيعُونِ) كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين الأمرين: تقوى الله تعالى، وأن يطيعوه بأن يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه. أما تقوى الله تعالى فكان لابد أن تكون لباب الدعوة العيسوية؛ لأن اليهود كانوا قد أعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما، حتى لقد كان فريق منهم، وهم الصدوقيون لَا يؤمنون باليوم الآخر، وحتى لقد حسب أكثرهم أن العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي، لَا العقاب الأخروي؛ ومن أجل ذلك سرى

ص: 1233