الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن أمنوا الكفار ومالئوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم أن يحذروه.
ومعنى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) قال بعض العلماء فيه: إن الكلام على حذف مضاف وهو: عقاب الله أو نقمته، وعندي أنه لَا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى: احذر الأسد، فإنه لَا يقدر: صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة.
وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل: خاصمت زيدًا نفسه، وغاضبت عمروًا نفسه؛ وللإشارة إلى أن ما ينزله الله تعالى مغيب غير معلن الآن، إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى:(تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمراراً؛ ولذا قال بعد ذلك:(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين؛ فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.
* * *
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
…
(29)
* * *
كان التحذير والتخويف من الله سبحانه وتعالى، وقد أمر سبحانه نبيه بأن يبين لهم مقدار علمه بخفايا نفوسهم، وعلمه بالكون وما فيه، فقال سبحانه:(قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ) أي أن علمه سبحانه وتعالى يعم الظاهر والباطن، وإن كوْن الأمر ظاهرا أو باطنا
إنما هو بالنسبة لنا، أما علم الله تعالى فإنه ليس فيه ظاهر وباطن، بل العلم كله سواء بالنسبة له سبحانه وتعالى وسيق إثبات علم الله تعالى وإحاطته الشاملة في هذا المقام، لمقام التحذير أيضاً؛ لأن الذين يوالون الكافرين يظنون في أنفسهم ضعفا وقد يظهرون أن ما يفعلون إنما هو تقية وخوف من الكافرين، والواقع أنهم يفعلون ذلك استخذاء وذلة، أو تملقا للأقوياء أو مداهنة لهم على أقوامهم، أو رجاء غرض دنيوي ينالونه، كما نرى في عصرنا الحاضر، إذ نجد ناسا يبررون كل خيانة قومية ودينية، والدخول في ولاية غير المؤمنين بالتقية وحال الضعف، وما هو إلا ضعف وازع الدين وفقد اليقين، ورجاء الدنيا الذليلة، وفرار من العزة والحياة السامية الكريمة حقا وصدقا؛ فأمر الله نبيه أن يبين أنه يعلم ما تخفيه الصدور، وما تختلج به القلوب، وما ينوون وما يقصدون، كما يعلم ما يبدون ويعلنون، وأن الله سبحانه محاسبهم على أعمالهم بنياتهم، لَا بظواهر هذه الأعمال، ولا بما تتلوى به الألسنة، وإن كانت مخالفة لما تطويه القلوب. وجعل البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وجه سبحانه وتعالى الترهيب بذاته العلية؛ لأن ذلك التنويع من شأنه أن يربي المهابة، كما يقول ذو السلطان محذرا مخوفا: أحذركم مخالفتى، ثم يتركه لصفي من أصفيائه يبين له مدى سلطانه وقوته وعلمه.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في هذا بيان شمول علم الله تعالى وشمول قدرته، فهو يعلم سرائر النفوس وظواهرها، كما بيّن في الجملة السابقة، ويعلم الكون وما يجري فيه من نجوم سارية، وأفلاك دائرة، وشمس مشرقة، وقمر منير، والسحاب وما تحمل، والرياح المسخرات بين السماء والأرض، ويعلم كل الأحوال، وكل الأزمان، وكل اللحظات، وجميع الأوقات، وما من شيء في هذا الوجود إلا تحت سلطان علمه، وفي متعلق إرادته، وفي شمول قدرته؛ إنه فعال لما يريد؛ فكيف يتصور من عاقل أن يترك ولاية المؤمنين وهم أولياؤه، ويدخل في ولاية الكافرين وهم أعداؤه؛ فإن كانت