الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد ذكر بعض العلماء هنا وجه البلاغة في التعبير بـ (في) دون (إلى) إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال يسارعون إلى الخيرات، ولكنه سبحانه وتعالى قال: يسارعون في الخيرات، للإشارة إلى أن هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير، في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها، ولا يخرجون منها، فهم لَا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير، فكان التعبير بـ " في " له موضعه من البيان.
(وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الإشارة هنا إلى الموصوفين بالصفات السابقة، من تلاوة الكتاب في خشوع وخضوع وتعرف لمراميه ومعانيه، وإذعان لحقائقه ومغازيه، ومن خضوعهم المطلق لله سبحانه وتعالى، ومن إيمانهم حق الإيمان بالله تعالى، وتصديقهم لكل ما جاء عن الله تعالى ببيناته وأدلته، ورجائهم لليوم الآخر، وخوفهم من عذابه، وترقبهم في كل ما يعملون لحسابه، فهذه الأوصاف كلها سلكتهم في عداد الصالحين، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى: والصالحون الذين دخل هؤلاء في جماعتهم هم الذين صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم، وفي التعبير بقوله تعالى:(مِنَ الصَّالِحِينَ) إشارة إلى أنهم بهذه المزايا، وتلك الصفات قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى: وذكر أن أكثرهم فاسقون، فهم قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
* * *
(وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(115)
* * *
في هذا النص الكريم بيان أن الله تعالى يحتسب ما يفعلون من خير، ويثيبهم عليه، و " ما " هنا شرطية، ولذا جزم الفعل بعدها، و " مِن " هنا تفيد العموم، أي: إن يفعلوا أي خير قليلا كان أو كثير فلن يحرموا ثوابه، وقد أكد احتسابه بـ " لن "، لأن النفي بـ " لن " يفيد التوكيد، و " كَفَرَ " بمعنى ستر، وهي لَا تتعدى إلى مفعولين، ولكن لتضمنها معنى " حرم " تعدت إلى مفعولين، ويقول في ذلك الزمخشري: " فإن قلت: لم عدى إلى مفعولين وشكر وكفر لَا يتعديان إلا إلى واحد، تقول: شكر النعمة وكفرها؟
(قلت): ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل فلن يحرموه، بمعنى فلن يحرموا جزاءه " وفى حذف هذا المضاف وهو الجزاء إشارة إلى أن الجزاء ثمرة الفعل دائما، وأن عمل العامل خيرا أو شرا يتضمن كسب الجزاء إن خيرا أو شرا، وذلك بالنسبة للثواب تَفَضّل من الله تعالى دائما.
وفى هذا النص الكريم إشارة إلى أن النية الطيبة في الخير مع سلامة العقيدة ونزاهة النفس تجعل العمل طيبا مرجو الثواب دائما، لأن الأساس دائما تقوى القلوب، ولذا قال تعالى في تذييل الآية:(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمتَّقِينَ).
وفى هذا التذييل الكريم إشارات إلى أمور ثلاثة:
أولها: أن تقوى القلوب هي أساس لكل خير، وهي المجنب من كل شر.
والثاني: أن التقوى إذا كانت شأنا من شئون النفس، صار الشخص لا يوصف إلا بأنه من المتقين، وصار عمل الخير كسجية له من السجايا.
والثالث: أن الله عليم بكل ما تخفيه القلوب وهو يجزي بما يعلم، اللهم وفقنا لتقواك، وأنِرْ بصيرتنا، وطهر قلوبنا من رجس الهوى، إنك سميع الدعاء.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أعمال الكافرين، أشار إلى مبعث جحودهم، وهو اغترارهم بأموالهم وأولادهم، واعتزازهم بما يملكون من
حطام الدنيا وما فيها، وقد أشار إلى هذه الأموال وأولئك الأولاد ببيان أنها لن تغني عنهم من الله شيئا، ولذا قال سبحانه:
(إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا).
يقال: أغناه عن هذا الأمرِ فلان أي كفاه، ومن ذلك قوله تعالى:(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)، وقوله تعالى:(مَا أَغْنى عَنْهم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)، وقوله تعالى:(لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعتُهُمْ شَيْئَا. . .).
وهي في كل هذا بمعنى لَا يكفي عنه، وهي هنا من هذا الاستعمال، فمعنى قوله تعالى:(لَن تغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا) لن تكفي عنهم بدل الله شيئا من الغَنَاء، فمن هنا هي التي تستعمل بمعنى بدل، والغناء يتضمن هنا أمرين: أحدهما سد الحاجة، والثاني دفع الأذى، وإن الله سبحانه وتعالى قد قرر أن هؤلاء الكفار لن تدفع عنهم أموالهم أذى، ولن تسد عنهم حاجة قط، في وقت هم في أشد الحاجة إلى معونة، وقرر ذلك بصيغة التأكيد، وذلك بالتعبير بـ " لن " لأن " لن " تفيد تأكيد النفي.
وإن أولئك الكفار ما كانوا يعتزون إلا بالمال والولد، فهذا قائلهم يقول:(أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا). ولقد كانوا يربطون بين المال وكل المعاني السامية، فكانوا يظنون أن كل الخير وكل الفضائل للأغنياء، وكل الرذائل للفقراء، فلا يتصور من الأغنياء إلا الخير، ولا يتصور من الفقراء إلا الشر، ولقد أخذ منهم العجب عندما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهو فقير، فقد قال الله تعالى عنهم:(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32).
وفي هذا بيان خطا نظرهم، فالغنى والفقر لَا يتجاوز كل منهما أنه قسمة الله تعالى للمعايش في هذه الحياة، أما رفع الدرجات فأمر آخر ليس مرتبطا بالمال قلة أو كثرة، ويشير إلى أن الرفعة تكون للفقراء ليسخر الأغنياء منهم، فيزداد الأولون من الله قربا، ويزداد الآخرون من الله بعدا.
وإن الله سبحانه إذ قد حكم بذلك، وهو أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، فقد أشار إلى أن السبب في ذلك كفرهم؛ لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن سبب هذا الحكم هو الكفر. ولماذا اعتبر النص الكريم الكفر سببا لعدم غناء الأموال والأولاد، مع أن طبيعة هذا الوجود تجعلها غير مغنية مؤمنا أو كافرا؟ والجواب عن ذلك أن المؤمنين لَا يعتقدون أن أموالهم وأولادهم تغني عنهم من الله شيئا، فلم يكن ثمة حاجة للنفي بالنسبة لهم، وفوق ذلك فإن المؤمنين يتخذون من الأموال والأولاد سبيلا لرفع منار الحق وعزته، فهي تكفيهم بعض الكفاء، وإن كانت لَا تغنيهم عن الله تعالى، ولأن كلمة " تغني " في معناها دفع الأذى، والله سبحانه وتعالى منزل الأذى بالكافرين عقابا لجرائمهم ولشرورهم، وما تعرض المؤمن لهذا الأذى، فلا حاجة لهذا الدفع.
وفى ذلك النص السامي بحث لفظي، وهو تكرار النفي في قوله تعالى:(أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم) فـ " لا " هنا تفيد ثلاثة أمور: أولها - مزيد تأكيد للنفي الثابت بـ " لن ". وثانيها - أن تكرار " لا " يفيد أنهم كانوا يعتزون بالأموال والأولاد مجتمعين ويعتزون بأحدهما منفردا، فنفَى سبحانه وتعالى الغناء عنهما مجتمعين ومنفردين أيضا. وثالثها - أن المال يكون قوة في مواضع، والولد يكون قوة في مواضع، فتكرار النفي يستبين أنه لَا قوة تدفع مقت الله وغضبه لَا من المال ولا من الولد. وقد بين سبحانه تبعد ذلك عذاب الله تعالى الواقع الذي ليس له من دافع، ولا يغني فيه المال ولا الولد، فقال تعالى:(وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ):
الإشارة هنا إلى الذين كفروا، ليس لهم أمام الله ولي ولا نصير، ولا عون ولا دفاع، فالله سبحانه وتعالى يحكم عليهم وهو خير الحاكمين بأنهم أصحاب النار الخالدون فيها. فمعنى المصاحبة هنا الملازمة الدائمة المستمرة، و " لعل " في هذا التعبير إشارة إلى أنهم بعد أن كانوا يصطحبون في الدنيا أموالهم مفاخرين بها وأولادهم مستنصرين بهم، يصاحبون بدلهم في الآخرة نار الله الموقدة، وعذابه الأليم، وبعد أن تركوا نعيما غير مقيم استقبلهم شقاء دائم مستمر.