الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولوا الأَلْبَابِ)،
ولذا نرى أن أول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة، والصدق في القول والعمل، فلا يقال لهم مثلا:(لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال:(وَأُوْلُو الْعِلْمِ) أي الذين صاحبوا العلم ولزموه، واتجهوا إلى المعاني الروحية، ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية، ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية؛ فهاتان صفتان لازمتان أو هما خاصتان من خواص العلماء، وهما الإخلاص، والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة. ولقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان:" العلماء أمناء الله على خلقه "(1) وقال فيهم: " العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا "(2).
هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة، فإن لم يكونوا كذلك فإنه يخشى أن يكونوا ممن خوف أمته منهم في مثل ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:" أخوف ما أخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته "(3).
* * *
(1) رواه ابن عساكر، والقضاعي عن أنس رضي الله عنه أكنز العمال: ج 1 ص 1981) 28675)، وقد أورد الإمام أحمد: مسند الشاميين (17118).
(2)
راجع تلخيص السنن للمنذري، وقد أخرجه عن أبي الدرداء الترمذي: العلم - ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2606) وأحمد (20723) والدارمي: المقدمة (346). سنن أبي داود: العلم - الحث على طلب العلم.
(3)
رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة (137).
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّه الإِسْلامُ
…
(19)
* * *
في هذا النص الكريم قراءتان: قراءة بفتح همزة " أن "، وقراءة بكسر همزة " إن "(4) وعلى القراءة الأولى يكون سياق النص
(4) قرأها الكسائي بفتح همزة إن، وقرأ الباقون بالكسر. [غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار - أبو العلاء الحسن الهمداني ص 447].
الكريم هكذا (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، شَهِدَ أن الدين عند اللَّهِ الإسلام، فيكون قوله تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) في موضع البدل أو عطف البيان من قوله تعالى: (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وينتهي ذلك إلى أن معنى لَا إله إلا الله هو الإسلام، وأن الله يشهد بالإسلام وقد أقام الأدلة على صحته، وأنه دينه الذي ارتضاه، وشهد بذلك الملائكة الأطهار بما أخبرهم به رب العالمين، وشهد به أولو العلم بما استنبطوه، فهو دين العقل، ودين الإخلاص، ودين الله. هذا على قراءة الفتح، أما قراءة الكسر فإن الكلام يكون مستأنفا مقررا لمعاني الآية السابقة وما اشتملت عليه من معاني الألوهية والعبودية والربوبية وعزة الله وحكمته، لأن دين الإسلام يقتضي الإيمان بكل هذا، فكأن سائلا سأل: ما هو الدين الذي يقرر هذه الحقائق؛ فقال سبحانه: إن الدين عند اللَّه الإسلام، وكلمة الدين تطلق بمعنى الجزاء، وبمعنى الطاعة والعبادة وبمعنى مجموعة التكليفات، وإني أميل إلى المعنى الثاني، وهو أن يكون الدين هنا بمعنى الطاعة والعبادة، والمعنى على ذلك: أن الطاعة والعبادة التي يقبلها الله هي الإسلام والإسلام هو الإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعدم الاستكبار على الحق في أي ناحية من نواحيه، وعلى ذلك يكون الإسلام هنا مكونا من عنصرين: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والخضوع لذات الله وحده لَا لأحد سواه. وقد يؤيد هذا المعنى قول الله تعالى بعد ذلك:
(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) وقوله تعالى في آية أخرى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ. . .).
وعلى هذا يكون الإسلام هنا هو كمال الإيمان بالله جلت قدرته، وتوحيده. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان "(1).
وإضافة الدين إلى الله تعالى بقوله سبحانه: (عِندَ اللَّهِ) واعتبار الإسلام وحده دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، فيه بيان فضل الإسلام
(1) رواه ابن ماجه: المقدمة - الإيمان (64) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأنه له ذلك الشرف الإضافي، وهو أن الله لَا يقبل غيره، فوق أنه الحق الخالص من شوائب الشرك.
والإضافة فوق ذلك تفيد أنه الدين الذي نزل على كل النبيين، وأنه الأصل فى كل شرائِع السماء؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى. . .).
فهو دين الله، وقد صرح سبحانه بأنه دين أبي الخليَقة الثاني نوح كما يعبر بعض القصصيين، ودين آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فدين جميع النبيين دين واحد، وهو دين الله، وهو دين الإسلام.
(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) وعلى هذا كانت شريعة الله واحدة، وإن اختلفت الديانات السماوية التي لم يجر فيها التحريف والتبديل، فإن ذلك لَا يكون في الأصل، بل يكون في الفرع، ولا يكون في الكليات، بل يكون في الجزئيات ولكن لوحظ مع ذلك أن كثيرين من أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، واختلفت كل طائفة فيما بينهم على فرق، كل واحدة تحسب أنها اختصت بالخلاص وحدها، وتكفر الأخرى أو تشلحها من حظيرة الإيمان المقدسة؛ ثم اختلفوا مجتمعين على المسلمين، ونابذوهم العداوة، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فكانت هذه المنابذة عن بينة، ولم تكن عن جهل، بل إنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، ولم يؤمن بالحق كثيرون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى فيهم:(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66).
وقد بين سبحانه أن سبب ذلك الاختلاف هو البغي والظلم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) فالسبب هو البغي فيما بينهم؛ لأنهم قد بغى بعضهم على بعض بالباطل، وتبادلوا ذلك البغي، كل يبغي على غيره، وإذا تبادل قوم الباطل ضعف في نفوسهم الإيمان، فإن شدة الخصومة تورث
الريب، ومع الريب يكون النفاق، والمنا فق لَا يؤمن بشيء ولقد قال الإمام جعفر الصادق:" إياكم والخصومة في الدين، فإنها تحدث الريب وتورث النفاق " فتبادل البغي فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) كان سببا في عدم إيمانهم بالحق، بل في عدم إيمانهم بشيء وإن كانوا يعلمونه ويفهمونه، فليس مصدر الإيمان العلم فقط، بل مصدر الإيمان علم وإخلاص في طلب الحق، وإذعان له إذا بدا نوره.
ولماذا قدم سبحانه وتعالى كلمة " (إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ) إذ إن السياق هكذا: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، فقدم حينئذ المستثنى على بعض المستثنى منه؟ والجواب عن ذلك: أن هذا البيان موضع التوبيخ والاستنكار، إذْ إن ذلك الاختلاف ما كان عن تعذر العلم بالحقائق، ولكنه كان مع أن العلم بها قد جاءهم، وكان في قدرتهم أن يصلوا إلى الحق في الأمر من غير اختلاف ولا نزاع ولا إثارة للشك، وكيف يختلفون مع أن العلم قد جاءهم، وكان بين أيديهم أن يعرفوا السائغ منه، والحق أن العلم كالنور لا ينتفع فيه إلا الذين أوتوا بصرا يميزون به وينظرون، وكذلك لابد لإدراك العلم من بصيرة نافذة، وقلب يخضع للحق؛ أما إذا كانت البصيرة غير نافذة، والقلب قد ران الله عليه، فإنه لَا يدرك، وإن كسب السيئات يضع غلافا على القلب يمنعه من إدراك الحق؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن الضالين:(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 3)، فأسباب العلم لَا تكفي للوصول إلى الحقائق، بل لابد معها من قلب منير، والذين أوتوا الكتاب لم يكن أكثرهم على ذلك من الإخلاص في طلب الحقيقة والإذعان لحكمها، ذلك لأن الشهوات تحكمت في قلوبهم واستولت على نفوسهم، فجعلتهم يبتغون الباطل، ويطلبونه طلبا شديدا، ولهذا جعل الاختلاف مع وجود العلم أساسه البغي فيما بينهم، إذ إنهم يبتغون بالأمر السيطرة والسلطان واحتيازا للسيطرة الدينية، ولذا قال:(بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي ظلما وتحاسدا، وتغالبا بالباطل بينهم.
وهؤلاء جاءهم العلم ولم يلازموه ولم يصاحبوه ولم يذعنوا لحكمه؛ ولذا لم يقل سبحانه " أوتوا العلم " بل قال: (جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) إذ قد جاءهم ولم يردوا موارده العذبة، والعلم كالمطر الغزير لَا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا النفوس الطيبة، فأولئك الظالمون جاءهم العلم، ولم يكونوا علماء يخشون الله، ولم يكونوا أولي العلم الذين يشهدون بوحدانية الله.
(وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) آيات الله تشمل آياته الكونية الدالة على وحدانيته، وآياته المنزلة الداعية إلى شريعته، والمبينة لها. والمعنى: من يكفر بآيات الله جاحدا غير مذعن لحكمها طامسا لداعي الفطرة في قلبه فإن الله محاسبه ومعاقبه، والله سريع الحساب. فقوله تعالى:(فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قائم مقام الجواب المحذوف، والسياق هكذا: ومن يكفر بالله فإن الله معاقبه ومحاسبه، والله سريع الحساب، وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل للمحاسِب وهو الله سبحانه وتعالى، فهو لَا يحتاج إلى فحص وبحث، وتدل على قيام البينات القاطعة، إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما اقترفوا، بل تشهد عليهم قلوبهم بما جحدوا، وختم الكلام عن أهل الكتاب بهذه العبارة السامية للإشارة إلى أن اختلافهم لَا محالة راجع إلى كفرهم، وأن الكفر له عقاب بعد حساب سريع مؤكد، ونتيجته عذاب أليم، وأسباب العلم حجة عليهم، وليست حجة لهم. اللهم لَا تجعلنا ممن أضله الله على علم، ووفقنا للهداية، وأنطق ألسنتنا بالحق، واهدنا سواء الصراط.
* * *
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ
الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
* * *
ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم، واختلافهم على أنبيائهم بعد أن جاءتهم البينات من ربهم؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى أنها محاجة ليس أساسها الإذعان للحق إذا تبين، بل أساسها محاولة طمس الحق، واللجاجة بالباطل، وذلك لأن المجادلة قسمان: قسم يراد به طلب الحق وتمحيصه، ودراسة الأمر من كل نواحيه، وتبادل الأدلة ليستبين من بينها نور الحق، وهذا القسم محمود لَا شك فيه. والقسم الثاني لَا يقصد به طلب الحق، بل يقصد به الدفاع عن فكرته من غير نظر إلى كونها حقا أو باطلا، فهو يجادل ليغالب خصمه، لَا ليهتدي إلى أقوم المناهج، ومن ذلك النوع الأخير مجادلة أولئك الذين اختلفوا من أهل الكتاب، ومجادلة أولئك الذين جحدوا بالآيات من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .)، وإذا كان جدل هؤلاء من ذلك النوع الذي لَا يقصد به رفع منار الحق أو طلب الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه طلب إليهم أن يخلصوا في طلب الحقيقة كما أخلص هو، ولذا قال سبحانه:(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِيِّينَءَ أَسْلَمْتُمْ) المحاجة: أن يتبادل المتجادلان ما يعتقده كل فريق أنه حجة بأن يقدم كل واحد حجته، ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعمه الحق الذي لَا شك فيه. والمعنى: فإن حاجك أهل الكتاب، ومن لف لفَّهم، وسلك مثل طريقهم، فلا تسر معهم في لجاجتهم، فهم لَا يطلبون الحق مخلصين في طلبه لَا يبغون بدله، ولا يريدون غيره، بل إنهم قد شاهت عقولهم، وتأشبت بالغرض المردي نفوسهم وكلامهم هو التمويه الكاذب ولذلك لا
تُجارهم في هذه اللجاجة، واطلب تصفية قلوبهم من الغرض والهوى، وابدأ بنفسك فبين سلامة مقصدك ونيتك:(فَقلْ أَسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ). والوجه المراد به الذات، لأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم، فالتعبير به عن الجسم تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل. ومعنى أسلمت وجهي: أخلصت وسلمت نفسي وتفكيري لله سبحانه وتعالى، فلا أفكر إلا في الله، ولا أطلب الأمر إلا لله، ولا أقصد في طلبي إلا وجه الله. ومعنى قوله:(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي قد أسلم الذين اتبعوني وارتضوا الإسلام دينا، فقد أخلصوا في طلب الحق وأسلموا وجوههم لله تعالى. وإن إسلام الوجه لله تعالى وحده فيه إشارة إلى التوحيد، وأن محمدا وأتباعه لَا يعبدون إلا الله، وفوق ذلك لا يطلبون أي أمر من الأمور إلا لوجه الله تعالى، وتكون هذه الجملة السامية كقوله تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قد أخلصوا لله ذلك الإخلاص في العبادة فإن الأساس الذي تبنى عليه المجادلة بالتي هي أحسن، أن يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا على مثل تلك الحال من الإخلاص في طلب الحقيقة، ولذا أمر الله نبيه بأن يطلب إليهم ذلك، فقال سبحانه:(وَقل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ).
أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، لأن أسلافهم قد أوتوا الكتاب أي أعطوه كاملا وأخذوه كاملا، وإن كانوا مع ذلك قد نسُوا حَظا ممَّا ذُكِّرُوا بِه.
والأميون هم المشركون، وجاء التعبير عن المشركين بالأمّيين، لأنَهم أولا تغلب فيهم الأمية؛ إذ قليل منهم من يقرأ ويكتب، وليست لهم علوم؛ ولذا كان يقول العرب عن أنفسهم، نحن أمة أمية، ولأنهم لم يعرف لهم كتاب يرجعون إليه في أحكام دينهم. وفوق ذلك هذا التعبير فيه توبيخ لليهود والنصارى؛ إذ إنهم بعدم تسليمهم للحق وإذعانهم له تساووا مع أولئك الذين كان يسميهم اليهود
أُمّيين ولا يحترمونهم، ويقولون عنهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
ومعنى النص الكريم: قل لأهل الكتاب والمشركين: إذا كنت قد أخلصت في طلب الحق فهل أخلصتم؟
والاستفهام في قوله تعالى: (ءَأَسْلَمْتُمْ) للحضِّ على أن يسلموا وجوههم لله ويخلصوا في طلب الحقيقة كما أخلص الرسول وأصحابه، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يوجههم إلى أن يطلبوا الحقيقة مجردين أنفسهم من كل هوى وغرض وتعصب، بدل أن يحاولوا الإلحان بالحجة والمغالبة بالقول، وأن يستمروا على اللجاجة في الجدل. وبهذا يتضمن الاستفهام معنى جليلا وهو أن يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة في طلب الحقائق ليس بالأدلة تصطنع، والحجج تزوَّر، إنما العبرة بإسلام الوجه والإخلاص في طلب الحقيقة، وقد قال في ذلك الزمخشري:" وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق الاستدلال طريقا إلا سلكته: هل فهمتها؛ لا أُمَّ لك! " ويكون الاستفهام حينئذ عند الزمخشري من قبيل التوبيخ على عدم الإخلاص.
وعندي أن الاستفهام بمعنى الحض، والمعاني على أي حال متقاربة. ولقد بين سبحانه نتيجة الإخلاص إن أخلصوا فقال:
(فَإِنْ أَسْلَمُوأ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ) والمعنى: إن أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم لله، ولم يلاحظوا في طلب الحقيقة عصبية مذهبية أو جنسية، فقد اهتدوا أي سلكوا طريق الحق، ومن سار على الدرب وصل. وقد فسرها بعض العلماء بمعنى يهتدون، وعبر بالماضي لتحقق الهداية تحققا كاملا. وعندي أن نفس ذلك الإخلاص، وهو إسلام الوجه لله تعالى هو الهداية الحق، فمن أسلم وجهه لله تعالى مخلصا في طلب الحق، فقد اهتدى حقا وصدقا؛ إذ إن ذلك الإخلاص هو روح الدين وغايته، فمن وصل إليه فإنه لَا محالة سيتبع الدين الذي يوصل إليه وهو الإسلام.
هذا إن أخلصوا، وإن تولَّوْا أي أعرضوا عن هذا الإخلاص، وانصرفوا إلى المثارات البيانية يثيرونها ليطفئوا نور الحق، فما من حجة تهديهم، وما من آية ترشدهم، وقد أديت ما وجب عليك وهو التبليغ؛ ولذا قال سبحانه:(وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وقد بلغتهم فالمحاجة معهم لَا تجدي؛ لأنهم مكابرون، والمكابر لا تزيده قوة الحجة إلا إصرارًا وعنادا ولجاجة؛ فإن أعرضوا فأعرض عنهم، واتجه إلى المخلصين طلاب الحقيقة تهديهم وترشدهم، وتأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة. ثم ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى:(وَاللَّهُ بَصِير بِالْعِبَادِ).
والمعنى أنه سبحانه وتعالى عليم علم من يبصر بالعباد، يعلم نفوسهم ما يهديها وما يرديها، وما يصلحها وما يُجدبها، وعليم بنفوس هؤلاء المتمردة التي لا تبغي سدادا، ولا تريد رشادا، وعليم بمسالكهم في الدنيا، وأعمالهم التي أركستهم في ذلك الضلال المتكاثف، والذي يزيده إمعانهم في الإنكار والجحود ظلاما، وعليم بما يصيبهم في الآخرة. فهذا التذييل لتلك الآية الكريمة فيه عزاء للنبي عن كفرهم وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم.
وقبل أن نختم الكلام في هذه الآية الكريمة نقرر أن جمع أهل الكتاب والأميين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عموم رسالته، كما قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. . .)، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" بعثت إلى الأحمر والأسود "(1) وقال صلى الله عليه وسلم: " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة "(2) ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لَا يسمع بي أحد من هذه
(1) رواه الدارمي: السير - الغنيمة لَا تحل لأحد قبلنا (2358)، وأحمد: مسند الأنصار (20352). .
(2)
هذه الرواية تفسر قوله عليه الصلاة والسلام: " بعثت إلى الأحمر والأسود " يعني: " إلى الناس كافة "، وبالأول رواها مسلم في صحيحه باللفظ المشار إليه في التخريج السابق. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة فيها (810)، النسائي: الغسل والتيمم (429)، أحمد: باقي المكثرين: (13745)، الدارمي: الصلاة (1352).