المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى: - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى:

الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى:(وَأَنتُمْ تَنظُرُون) متضمنا تأكيد الرؤية ومصورا لها، ومتضمنا مع ذلك العتب أو اللوم؛ لأن حالهم لم تكن متفقة مع ما كانوا يتوقعونه من قبل، إذ إن حالهم من بعد انتهاء الموقعة تفيد أنهم كانوا يريدون النصر رخاء سهلا من غير عقبة تحول يجب تذليلها، ومن غير شدة عنيفة يجب الصبر عليها.

ولقد حدث في أثناء الموقعة أن زاغت الأبصار، فظن بعض المجاهدين أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فاضطربت عزائم، واسترخت همم، واستضعف أقوياء، وقد لامهم الله تعالى على ذلك أشد اللوم، وكأنما كان الظن الذي غلبهم ليبين الله لهم حقيقة غابت عنهم، وهي أن محمدا بشر كالبشر، يموت كما يموتون، ويحيا كما يحيون، ولذا قال سبحانه:

* * *

ص: 1431

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ

(144)

* * *

تقرير لحقيقة ثابتة وأمر واقع، وهو أن محمدا بشر من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وقد قرر هذه الحقيقة ومعها دليلها، وذلك ببيان حقيقتين كل واحدة منهما تصلح مقدمة في دليل لإثبات أنه ميت لَا محالة كما قال تعالى:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتون).

الحقيقة الأولى أو المقدمة الأولى: أن محمدا رسول فقط فليس أكبر من رسول، ولذا قال تعالى:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) أي ليس له صفة تميزه على الناس إلا الرسالة، والحقيقة الثانية: أن الرسالة لَا تقتضي البقاء، فقد مضى رسل من قبله وماتوا، وقد قررها سبحانه بقوله:(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

ومن مجموع الحقيقتين يثبت أن محمدا سيموت؛ لأنه إذا كان ليس إلا رسولا، والرسل من قبله قد ماتوا، فهو سيموت لَا محالة.

وإذا كان محمد سيموت لَا محالة فإن رسالته لَا تموت من بعده، ولا يصح أن ينقلب المؤمنون من بعده، بل عليهم أن يحملوا العبء من بعده، وقد بلغ

ص: 1431

رسالات ربه، وأتم بيان دينه، ولذا وبخ المؤمنين على ما كان منهم يوم أحد إذ ذاع في وسطهم أن محمدا قد قتل، فقال تعالى:(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).

الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أإذا مات وقد علمتم أن موته حق لَا ريب فيه، أو قتل في الميدان والقتل طريق من طرق الموت، انقلبتم على أعقابكم، أي عدتم كفارا بعد أن آمنتم، وعباد أوثان بعد أن صرتم من أهل التوحيد، وضلالا بعد أن اهتديتم، والتعبير عن ذلك بقوله تعالى:(انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) تصوير سامٍ لمن ضل بعد أن اهتدى، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام، وأعقابه هي التي تقوده، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان.

ولكن هل وقع ذلك الضلال أو كان ما يدل على احتمال وقوعه. يروى في ذلك أن عبد الله بن قمئة الحارثي أقبل يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فتصدى له مصعب بن عمير حامل راية المؤمنين فقتله المشرك، وظن أنه الرسول فأذاع ذلك في المشركين، وانتقل الخبر إلى بعض المؤمنين، إذ قد اختلط الحابل بالنابل، فريعت قلوب بعض المسلمين وولوا مدبرين، وانطلق المنافقون يقولون: لو كان نبيا ما قتل، وثبت المؤمنون الصادقون، وقد مر أنس بن النضر، ووجد قوما خارت عزائمهم فقال لهم: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي لَا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. . اللهم أعذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وقد مر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط (1) في دمه، فقال له: أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا على دينكم، ولقد صاح بعض المجاهدين في وسط ذلك البلاء: يا معشر المؤمنين إن كان محمد قد أصيب أفلا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به.

(1) أي يتخبط فيه ويضطرب وتمرغ.

ص: 1432

وبهذا يتبين أن المحاربين كانوا فريقين: أحدهما رعب واضطرب، والثاني ثبت وجاهد، ولقد ذكر اللَّه حال الفريقين، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول:(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا).

أي ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يضر دين الله تعالى في شيء، ولأن دين الله تعالى بعد أن بلغ النبي رسالة ربه، وأكمل البيان لهذا الدين، قد ظهر وصار حقيقة ثابتة في الوجود، فلا عبرة بمن يخرج، كما قال تعالى:(مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. . .).

وفى هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور:

أولهما: أن من يجاهد عليه أن يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي، ولا يقاتل لأجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون، فالمعاني خالدة، والأشخاص ميتون.

الثانية: أن من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين، لَا يضر دين الله بل يضر نفسه؛ لأن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره.

ثالثها: إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باقٍ إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه قد قرر أنه لَا يضره من يخرج عنه أو يمرق عن أحكامه، أو يتركها مستهينا، فإن للإسلام ربا يحميه، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا، فقال سبحانه:(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).

أي وسيجزي الله سبحانه وتعالى الذين صبروا في هذه الشديدة وشكروا الله تعالى في السراء والضراء، فلم يزعجهم البلاء كما لم تبطرهم النعماء، فصفة الشكر كصفة الصبر كلتاهما تظهر في السراء والضراء معا، فالصبر يكون في النعمة بالقيام بحقها، وفي الكريهة باحتمالها، من غير تململ وتضجر.

ص: 1433

وقد يقول قائل لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، والصبر هنا هو الأظهر؟ فنقول: إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر، وذلك أنهم لم يحتملوا البلاء فقط، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من يكون على هذه الشاكلة، ولذا قال تعالى:(وَقَلِيلٌ منْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

وإنا نضرع إلى الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين في البلاء، الشاكرين في الضراء والسراء معا، إنك سميع الدعاء.

* * *

(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

* * *

الكلام في هذه الآيات موصول بالآيات قبلها، ففي الآيات السابقة أشار سبحانه إلى اضطراب بعض المؤمنين عندما بلغهم كذبا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فضعفت نفوس، ووهنت قلوب، واضطربت عقول، فبين الله سبحانه وتعالى أن محمدا رسول من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وأن له أجلا ملموسا، وأن الدعوة الإسلامية كاملة ما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغها وأتم تبليغها، وبهذا

ص: 1434

أتم ما عهد إليه، فإذا مات حمل هذه الأمانة مَن بعدُه ونقلوها إلى الأخلاف، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن النفوس جميعها بيد الله، وأنه سبحانه قد جعل لكل أجل كتابا.

ص: 1435

(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا) والمعنى ما تحقق وما ثبت لنفس أن تموت إلا بإذن الله تعالى، وقد كتب لها كتابا مؤجلا، ومعنى الإذن هنا يتضمن أن لله تعالى الإرادة المطلقة في قبض النفوس وإرسالها، فهي لَا تموت إلا بمشيئته، ولا تحيا إلا بإرادته، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الإرادة بالإذن، وذلك للإشارة إلى أنه إذا كان القتل في الحروب سببا للموت، فإنه ما دام لم يجئ الإذن الذي يعلن مشيئة الله تعالى وإرادته فإن المقاتلين مهما يكونوا أقوياء لَا يمكن أن يصيبوا نفسا لم يشأ الله تعالى قتلها، فهذا النص الكريم يؤكد معنيين: أحدهما: أن الموت بالإرادة الأزلية، وبالمشيئة الإلهية، فما لم يأذن فلا موت. والثاني: أن القتال مهما يكن شديدا فلن تموت نفس لم يكتب الله تعالى لها الموت، وهناك إشارات في الآية كثيرة: منها أن الموت لَا يحتاج بالنسبة لله تعالى إلى أسباب، فليس إلا أن يأذن بقبض الروح فيكون الموت من غير أي مجهود يبذل، ومنها تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء الأعداء، فإن الحذر والحرص على الحياة لَا يمنعان ما قدر الله تعالى، فإذا كان قد أذن للنفوس أن تلقى ربها فلا مانع يمنعها، ولا دافع يدفع عنها أسباب المنايا، ومنها الإشارة إلى حفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد تربص به الأعداء، وأحاطوا به من كل جانب، وصار قريبا من نهزة المختلس، ولكن الله تعالى أحاطه بكلاءته وعنايته، ومنها بيان أن الله سبحانه وتعالى قابض نبيه صلى الله عليه وسلم مهما يطل الأمد أو يقصر.

وقوله تعالى: (كتابًا مّؤَجَّلًا) مفعول مطلق لفعل محذوف معناه: كتب كتابا مؤجلا، أي له أجل معلوم لَا يتقدم ولا يتأخر، وهو آت لَا محالة.

(وَمَن يرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نؤْتِه مِنْهَا) وإذا كان الأجل مكتوبا، فإن ذلك لَا يمنع أن العمل مكسوب، فعلى كل أن يعمل، وكلٌّ

ص: 1435

ميسر لما خلق له، وكل يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، فمن يرد ثواب الدنيا أي جزاءها والنتائج المطلوبة فيها، ويسلك السبيل القاصد الذي يوصل إلى الغاية، وينتهي إلى النهاية، يمكنه الله تعالى من الأسباب، ويسهل له الحصول على النتائج، ومن كان يريد الآخرة ويقصد وجه الله تعالى في كل ما يعمل، ويقصد إلى الدنيا لَا لذاتها، بل على أنها مزرعة الآخرة، فإن الله تعالى يؤتيه من ثواب الأخرة ما ادخره لعباده المتقين، وهذا كقوله تعالى:(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. . .). وكقوله تعالى: (من كَانَ يُرِيدُ حَرْث الآخِرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ومن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ).

فالنص الكريم يثبت أن الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها له أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لَا يكون النجاح في شئون الدنيا دليلا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفجار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلا على أنهم أقرب إلى الله من المؤمنين، ويغفلون عن قول الله تعالى:(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35).

وفى النص الكريم إشارات بينات، فهو يشير إلى الذين اتبعوا الغنائم وتركوا طاعة الرسول يوم أحد بأنهم أرادوا الدنيا، ولكن لم يسلكوا مسالكها، ويشير إلى الذي يقاتلون طلبا للغنائم، وأنهم لَا ينالونها إلا إذا استقاموا على مناهج القتال الصحيحة، ويشير إلى فضل الذين صبروا ويصبرون في الحرب، ويطلبون بها وجه الله تعالى لَا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ويشير إلى أن القتال يجب أن يقصد به وجه الله تعالى، لعمارة الأرض ومنع الفساد فيها، ثم يبين سبحانه أن أولئك هم الذين ينالون الجواب، ولذا قال تعالى:

ص: 1436

(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) شكر النعمة القيام بحقها، وأداء ما ينعم الله تعالى به من نعم في مواضعه، فإذا أُعطي فشكر العطاء بإنفاقه في مواضع الإنفاق، وإذا منح القوة فشكرها أن يجعلها لنصرة الحق وخفض الباطل، وإذا أُعطي نعمة الحكمة والفكر السليم، فيكون الشكر بتسخير ذلك لنفع العباد، وهدى الناس، وإرشادهم إلى طرق البحث وتذليل الأرض لهم، وأن يكون ما ينتجه للعمارة لا للخراب.

وهنا نجد النص لم يبين الجزاء، ولم يبين من الذين يتصفون بالشكر من طلاب الدنيا أو طلاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيوي، والجزاء الأخروي، فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوى، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه، كانوا من الشاكرين. واستحقوا الجزاءين: جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها، وهي العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلي الرحمن.

ولم يبين سبحانه من هم الشاكرون؟ أهم طلاب الدنيا أم طلاب الآخرة، وذلك لأن المطلبين ليسا متضادين، بل إنهما يتلاقيان، وإنه عند التحقيق لَا يعد طالب الدنيا سالكا طريقها إلا إذا طلب الآخرة فيها، وأذعن لقدرة الخالق في طلب الحياة الدنيا، فكل شيء عنده بمقدار، فمن اعتمد على الأسباب الدنيوية وحدها من غير تفويض الله معها فإنه يعاند قدرة الله، ولا ينجح له تدبير، ولا ينتهي إلى غاية في تفكير، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

ولذلك كان الشكر مشتركا عند طلاب الدنيا إن طلبوها على وجهها وطلاب الآخرة، وإنه عند التحقيق أيضا طلب الآخرة لَا ينقطع تماما عن طلب الدنيا، فإن الزهد في الإسلام طلب الحلال وليس إعراضا عن الدنيا، وإن من

ص: 1437