المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات منها التعبير - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات منها التعبير

وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات منها التعبير بالإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها ذكر مصاحبتهم للنار، ومنها بيان قصرهم على النار لَا يتجاوزونها، ومنها ذكر الضمير (هم) فهو لتأكيد الحكم.

وقد يقول قائل: لماذا لَا ينفعهم في الآخرة ما كانوا ينفقون من مالهم في الدنيا، وقد كان منهم جود وسخاء؛ بين الله سبحانه مغبة ذلك الإنفاق وعاقبته، فقال تعالت كلماته:

* * *

ص: 1374

(مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ

(117)

* * *

وفي هذا التشبيه بّين سبحانه أن هذا الإنفاق ليس خالصا من الضرر في ذاته، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارا لَا نفْعَ فيه، وشرا لَا يمازجه خير، فقد شبه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار، وعدم إثماره وإنتاجه، بالريح التي لا ترسل لواقح، ولا تكون نسيما عليلا تلقي في النفوس بالبشر والحبور، ولا تكون ريحا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضرع، وهي الريح التي يكون فيها صِرٌّ، والصر معناه البرد الشديد المميت للنبات، ومعنى اشتمالها على الصر وصفها به أي أنها ريح صر فهي ريح قارة باردة مهلكة مفنية وليست منمية مبقية، وهنا يرد سؤال: لماذا ذكر الصر على أنه في الريح وأنها مشتملة عليه، وهي له ظرف وهو مظروف؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأنه ضرب من ضروب المبالغة، وبأن " صر " مصدر في أصله فجيء به على أصله، كما تقول: ثوب فيه جمال، والكلام بمعنى جميل، وقد خرج تخريجات أخرى ليست واضحة.

ونحن نرى أن التعبير بقوله تعالى: (فِيهَا صِرٌّ) يشير إلى أن الرياح فيها بطبيعتها رجاء، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه، وذلك لأن الإنفاق في ذاته قد يرجى منه النفع، ويظن فيه، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره، ولا ينبت إلا باطلا، وذلك أنه بمقاصده

ص: 1374

التي لَا يقصد بها وجه الله ولا نفع الناس، ولكن يقصد التفاخر والتباهي والتنافر، والاستطالة على الناس بفضول القول، يذهب كل خيره، فالتعبير بقوله سبحانه:(فِيهَا صِرٌّ) فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبَّه وهو الإنفاق لم يكن من ذاته، ولكن من قلب المنفق ونينه، وغايته من الإنفاق، وإن هذا الإنفاق - كما قلنا وكما أشار النص القرآني الكريم - يحمل في ذاته موجب رده، وقد بيّن سبحانه أنه ضار مؤذ في الشطر الثاني من التشبيه، إذ قال سبحانه في وصف الريح:(أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأهْلَكَتْهُ).

الحرث هو الزرع، وأصل كلمة " حرث " فَلْح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك وهو الزرع، وقد أطلق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم بكن أرضاً وزرعا، كما قال تعالى:(نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم. . .).

ومعنى التشبيه في جملته - كما دل على ذلك هذا النص الكريم والنص الذي سبقه - أن حال هذا الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله تعالى بل قصد به التفاخر وكسب الثناء وتحدث الناس بالعطاء، كمثل الريح التي تكون باردة بردا شديدا يتوقع منها الناس الخير لزرعهم، فتهلكه وتبيد خضراءه وتجعله حطاما، والجامع في هذا التشبيه بين المشبَّه والمشبه به هو أن كليهما كان يرجى خيره، ولكن بما لابسه من ضر وأذى صار مؤذيا.

وفى هذا التشبيه بيان أن الضرر لاحق بهم من هذا الإنفاق، ولاحق بالناس، لأنهم كانوا يعينون به على الشر، إذ كانوا ينفقونه في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء المؤمنين؛ وهو سبب في استعلائهم واستكبارهم، ولو حرموا المال والإنفاق لكان خيراً لهم.

في النص القرآني إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي، فقال سبحانه:(أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم فَأهْلَكَتْهُ)، فإن هذا النص السامي يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابا

ص: 1375

على أموال الظالمين فيهلكها، ولو اتخذو لأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الأموال، وإن ذلك التخريج لَا يوجد ما يمنع من قبوله، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه، لَا يمنع تقدير الرب وقضاءه، وإن الريح كانت سببا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العدة والعدد، وقال تعالى في ذلك:(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا). ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نُصِرْتُ بالصَّبَا وَأُهْلكَتْ عَاد بِالدَّبور "(1).

وإذا كان ذلك ثابتا فلماذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالممِن في الدنيا بإصابة حرثهم بريح، لفساد نياتهم، ولاستخدامهم المال في غير مواضعه، وإن الذين يستبعدون ذلك هم الذين يُفْرِطُون في الإيمان بالأسباب العملية، ولا يذعنون للأحكام القدرية، وإن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدَّعِي أنه يستطيع حمايته من الرياح والآفات، مهما يتخذ من الاحتياط، فإن للأجواء أثرها، وللآفات الوبائية حكمها، ولا سبيل إلى التوقي الكامل منها.

وإذا كان الزرع وغيره مهما يتخذ من احتياط لحفظه لَا يتقي الريح والآفات، فإنه لَا يصح أن يكون ذلك نتيجة للمصادفة، فإن المصادفة بالنسبة لمداركنا، أما بالنسبة لأعمال الله تعالى فإن كل شيء عنده بمقادير، ومقصود بإرادته السرمدية، وهو يكون ثوابا أو عقابا أو إملاءً يُملي الله به للظالمين حتى حين، كما قال تعالى:(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كيْدِي مَتِينٌ)، وقد قال تعالى:(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13).

(1) رواه البخاري: الجمعة - قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصبا (977)، ومسلم: الاستسقاءَ في ريح الصبا وريح الدبور (900). الصبا: ريح تهب من المشرق. والدبور: ريح تهب من المغرب.

ص: 1376

إذن فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حق لَا ريب فيه، ولقد أخبر الله تعالى أن الظالم يسيء إلى نفسه دائما، فقال:(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

والضمير هنا يعود إلى الذين أُصيب حرثهُم بسبب ظلمهم، أي أن الله تعالى ما ظلمهم بالريح تصيبهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بفساد قلوبهم ونيتهم، واعتقادهم أنهم يستطيعون التحكم في القدر، وفي هذا إشارة إلى أولئك الذين أنفقوا في الإفساد للافتخار والخُيَلاء والاستكبار، في أن الله ما ظلمهم بإبطال إنفاقهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بأن تجنبوا إنفاق المال في الحلال بنية الحلال، بل أنفقوه في الحرام، وما أنفقوه في حلال إلا بنية الحرام.

وجوز الزمخشري أن يعود الضمير إلى الذين ينفقون في هذه الحياة، وهو ظاهر كل الظهور. ونضرع إلى الله أن يلهمنا الإنصاف في أقوالنا وأفعالنا، وأن يرزقنا صدق القول، والإخلاص في أعمالنا له، إنه سميع الدعاء.

* * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

* * *

ص: 1377

هذه الآية " وما وَلِيَها من آيات فيها عود إلى التحذير مما يريده أهل الكتاب والمنافقون من أهل الإيمان والإخلاص، فقد قال تعالى من قبل:

ص: 1378

(يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).

وبين وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى وهو كتابه تعالت كلماته، وعظمت آياته، لتتم الوحدة الإسلامية، ثم ذكر من بعد ذلك بعض أحوال أهل الكتاب، وما عساه قد يكون في بعضهم من خير، وما عليه سائرهم من شر، وفى هذه الآية يحذر تحذيرا شديدا من نوع آخر، فقد كان التحذير متجها إلى الحث على اليقظة الفكرية، حتى لَا يفسد أهل الكتاب على المؤمنين دينهم الذي ارتضوا، فبين أنه لَا يصح الاسترسال في إرضائهم، فإنه لَا يرضيهم من المؤمن إلا أن يخرج عن دينه ويطرحه وراءه ظهريا، وأن يسير وراء ركبهم، ولقد قال شأنه: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ

).

فالتحذير هنالك للخوف على العقيدة أن يفسدها هؤلاء، أما التحذير هنا فهو للخوف من أن يفسد أولئك المنافقون من أهل الكتاب الجماعة الإسلامية، وينشروا فيها الاضطراب، وألا يكون نظام قائم ثابت الدعائم، ولذا قال سبحانه:

(يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُمْ) بطانة الرجل: خاصته الذين يعرفون خفايا أمره، ومكنون سره، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة، وأصل البطانة خلاف الظهارة، وتطلق على الثوب الخفي الذي يكون باطنا غير ظاهر، وقد استعير اللفظ للدلالة على الذين يختصون بالاطلاع على باطن أمر الشخص، وكأنه شبه الذين يختصون بشئون الشخص خفيها وظاهرها ببطانة الثوب التي تلاصق الجسم أو تقاربه، لقوة الاتصال في كل منهما، ولأن كليهما يمس ذاته وشخصه: بطانة الثوب تمسه حسا، وبطانة الرجل تمسه معنى، وكما أن الأولى أدرانها تكون أمكن في الأذى وتكون أسرع، كذلك الثانية تكون أمكن وأقوى تأثيرا وأسرع.

ص: 1378

ومعنى النص الكريم أنه لَا يجوز للمؤمنين أن يتخذوا مستشارين ونصحاء، يستبطنون أمورهم من دونهم أي من غيرهم، فمعنى " دونكم " هنا " غيركم " الذين لم يبلغوا ما أنتم فيه من قوة الإيمان والإخلاص للحق، ومثل ذلك قوله تعالى:(وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ. . .)، أي غيره الأقل منه.

وصدر النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن مقتضى الإيمان ألا يستعينوا بأولئك الذين كفروا بآيات الله تعالى، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فقضية إيمانكم وكفرهم توجب ألا تأمنوهم في خاصة أموركم، ولقد كان السلف الصالح يأخذون بذلك الهدى القرآني، فقد كان عمر رضي الله عنه ينهى عن اتخاذ الأعوان من أهل الكتاب وغيرهم، فقد قال رضي الله عنه:(لا تستعملوا أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم ورعيتكم بالذين يخشون الله تعالى) وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أَكْتَبَ منه، ولا أخَطَّ بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال الإمام النافذ البصيرة:(لا آخذ بطانة من دون المؤمنين).

وقد ذكر سبحانه الأوصاف والأحوال التي توجب الامتناع عن اتخاذ بطانة منهم، فذكر لهم أحوالا ثلاثة: أولها، وهي كافية في إبعادهم عن أسرار الدولة، وهي التي قال الله تعالى فيها:(لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا).

الخبال كالخبل: الاضطراب والفساد وهما متلازمان، فلا اضطراب إلا ومعه فساده ولا فساد إلا يترتب عليه اضطراب، فهما معنيان متقاربان ومتلازمان، ومعنى " يألو " بقصر في بذل الخير ويبذل الأذى غير مقصر ولا متوان، بل ينتهز الفرص، وهي تتعدى إلى مفعول واحد، وقد تتعدى إلى مفعولين إذا تضمنت معنى المنع، ومعنى قوله تعالى:(لا يَألونَكُمْ خَبَالًا)(لا يقصرون في جهد يبذلونه لضركم، ولا يمنعونكم خبالا واضطربا في الأمور)، أي لَا يمنعونكم باذلين الجهد في تحقيق مقصدهم ومرادهم فسادا واضطرابا في الأمور، ليفسدوا عليكم دينكم، ويقوضوا دعائم دولتكم، ويخضدوا شوكتكم، ويكون أمركم بوارا بالفتن التي يبثونها، والريب التي يثيرونها.

ص: 1379

ولقد صدق الله تعالى كلماته، فمن وقت أن صارت بطانة الملوك والأمراء من أهل الكتاب، وأمور المسلمين فوضى، تختفى الفوضى السياسية عندما يكون الأمير أو الملك قويا، ولكن تكون في بث أفكار فاسدة، وآراء تحل الوحدة، وقد كان أول من اتخذ كُتَّابا من أهل الكتاب معاوية بن أبي سفيان، وحسبك أن تعلم أنه في عهده انتشرت الإسرائيليات، والأفكار التي تثير الريب في الحقائق الإسلامية، وقد كان يوحنا الدمشقي كاتب عبد الملك بن مروان وأبوه الذي كان كاتبا لمعاوية يبثان الأفكار الفاسدة بين المسلمين، مثل ادعائهم عشق النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش، ومثل إثارة الكلام في الطلاق الثلاث، بل الكلام في أصل الطلاق، وإثارتهم الكلام في أن الله متصف بصفة الكلام أو غير متصف، وأن القرآن قديم أو غير قديم، ومثل إثارتهم الكلام في الجبر والاختيار.

وبذلك كانوا يحلون الوحدة الفكرية، ليتسنى لهم من بعد حل القوة الإسلامية، كما ظهرت النتائج من بعد.

(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) هذا هو الوصف الثاني، أو الحال الثانية من أحوالهم، وهي سبب لإرادتهم البوار والفساد للمسلمين، فالأولى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لَا يودُّون للمسلمين السعادة والرفاهية والخير والقوة بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقل أن يطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يود له إلا الشر والأذى.

ومعنى قوله تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي ودوا عنتكم وهلاككم، وإجهادكم وإنزال المشقة بكم، التي يترتب عليها تفريق جمعكم، وذهاب قوتكم. و " ما " في قوله تعالى:(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) هي ما المصدرية التي يسميها علماء النحو الموصول الحرفي، وهي تؤول هي وما بعدها بمصدر.

(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) البغضاء: البغض الشديد المستمكن الثابت الذي لَا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة، وفرق بين البغض والبغضاء فالبغض حال تقبل الزوال، وأما البغضاء فهي كراهية يبعد

ص: 1380

زوالها، وهي على ذلك أخص من البغض المطلق، إذ هي بغض مقيد، وهي تظهر من عباراتهم وكلماتهم، كما قال تعالى:(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .).

وليس معنى ذلك أن البغضاء لَا تبدو إلا في الأقوال، بل تظهر أيضا في الأفعال، ولكن عند الفحص الدقيق، والوزن الصحيح، وإن ما يظهر على اللسان هو طفح مما امتلأ به القلب، فهي فيض الإناء وما يسيح منه، وما في الإناء أكثر وأغزر، وهو المادة الوفيرة التي كان منها طفح الكيل، ولذلك قال تعالى:(وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أَىْ ما يطوون في صدورهم وتنطوي عليه نفوسهم أكثر مما يظهر، إذ إن ما يظهر هو الجزء الذي انبثق من الوكاء، أو هو في الحقيقة الرشح الذي ظهر من المسام التي تخفى ما وراءها.

وهذا الوصف هو في الحقيقة توبيخ لأولئك الذين يأتمنونهم، وحالهم في البغضاء ظاهرة مكشوفة، غير مخفية ولا مستورة.

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) ختم الله تعالى هذه الأحوال بهذا النص الكريم، ليدعوهم إلى التفكير فيما هم مقبلون عليه، وليدعوهم إلى الحذر وتخير خاصتهم وبطانتهم، وخصوصا الحكام منهم، فإن البطانة تكون خيرا إن حضت على الخير، وتكون شرا إن حرضت على الشر، والعميق النظر المدرك المتعقل فيما يفعل هو الذي يدرك الأخيار من الأشرار، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري:" ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله "(1).

والآيات المراد بها تلك البينات التي ذكرها صفات وأحوالا لهؤلاء يعرفون بها، وقد بينها الله للحكام إن كانوا يدركون الأمور بعقولهم لَا بشهواتهم

(1) رواه البخاري: الأحكام - بطانة الإمام وأهل مشورته: البطانة: الدخلاء (6659)، كما رواه النسائي: البيعة - بطانة الإمام (4131)، وأحمد: مسند المكثرين (10914)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 1381