المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ

(164)

* * *

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تعالى، ونعمه على المؤمنين كثيرة، باختيار رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلقد كان حكيما أمينا فيهم من قبل الرسالة، وكان رفيقا بهم لا يعنتهم بعد الرسالة، لانَ لهم، ولم يكن فظا غليظا بهم، وفي هذا النص السامي يبين أن ذات رسالته نعمة، فقال:(لَقَدْ مَنَّ)، أنعم وأعطى ووهب، وأكد عظيم المنة والعطاء باللام، ولقد كانت منته في بعث الرسول من أنفسهم، ومعنى (مِّنْ أَنفُسِهِمْ) يصح تخريجها تخريجين:

الأول: أن يكون من نفس العرب، ومن قومهم، ويكون كلمة المؤمنين خاصة بمؤمني العرب.

والثاني: أن يكون من أنفسهم، أي أنه بشر مثل سائر البشر آتاه الحكم والنبوة، وكان رسول رب العالمين ليرسم لهم طريق الهداية ويكون لهم أسوة حسنة؛ إذ لَا يمكن أن يكون أسوة حسنة لهم إلا إذا كان من جنسهم، وكان بشرا مثلهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، وما يأتيه من خير يكون جنسه في طاقة البشر، وإن كان مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيه أعلى وأزكى وأوفر خيرا، وقد بين سبحانه وجه النعم في هذا البعث المحمدي فقال:

(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) التلاوة القراءة المتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، أي يعقبه في نظام محكم دقيق، والتلاوة في أكثر أحوالها لَا تكون إلا في آيات مقروءة، والآيات تطلق على الآيات الكونية باعتبارها أمارة وشاهدا على قدرة الله تعالى ووحدانيته، وتطلق على الآيات المتلوة باعتبار أن كل آية من كتاب الله تعالى دليل على أنه من عند الله، وظاهر السياق أن الآيات التي تتلى هنا هي الآيات القرآنية، والمعنى في ذلك أن الله سبحانه يلقي على نبيه القرآن الكريم فيتلوه عليهم متحديا العرب أن يأتوا بمثله، وقيل: إن المراد بالآيات. . الكونية، ومعنى تلاوتها تلاوة القرآن المشتمل على أنبائها، وعلى توجيه الأنظار إليها، وإن الظاهر هو الأول، ولا يخلو الرأي الثاني من تكلُّف؛

ص: 1489

وإنه من أعظم منن الله أن يخاطَب المؤمنون بكتاب يتلى عليهم من السماء، وأن يوجه إليهم الخطاب مباشرة من الله تعالى.

والتزكية هي العمل الثاني من عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تطهير نفوس المؤمنين من أدران الجاهلية، وننميتهم وتقويتهم، فالرسالة المحمدية كأن آثارها في المؤمنين تتجه إلى ثلاث نواح: تهذيب نفوسهم آحادا، والربط بين قلوبهم جماعات، والعمل على رفع شأنهم والتمكين لهم في الأرض بأسباب القوة، كما قال تعالى:(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). والكلمة (وَيُزَكيهِمْ) تشتمل على كل هذه المعاني التي ترفع من - شأن أهل الإيمان.

وتعليم الكتاب هو تعليمهم ما اشتمل عليه من أحكامه ببيان ما عساه يكون فيه من نصوص تعلو على مداركهم، وتفصيل المجمل فيه، وتطبيقه عليهم، فتعليم علم الكتاب غير تلاوته إذ تلاوته قراءته مرتلا مفهوما، وتعليمه بيان أحكامه، فقد أمر بالصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم علمها، وأمر بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم علمه، وهكذا، وقيل: إن تعليم الكتاب هو تعليم المؤمنين الكتابة ونقلهم من الأمية إلى العلم، فتعليم العلم في ذاته غاية من غايات الإسلام، ولذا كانت أولى آيات القرآن:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5).

وتعليم الحكمة، فسره الشافعي بأنه تعليم السنن العملية، ويصح أن تفسر الحكمة بما هو أعم من ذلك وأشمل، فتشمل العلم بأسرار الكون، وأسرار النفوس، والسلوك القويم الذي يسدد الخطأ في الدنيا، ويرضي الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.

(وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) أي إن حال الناس، وخصوصا العرب، أنهم كانوا من قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال واضح بيِّن، تنفر منه العقول المستقيمة وتأباه الأذواق السليمة، ألم يكن العرب في عمياء من أمورهم

ص: 1490

متنابذين متدابرين يئدون بناتهم؛ وألم تكن فارس في اضطراب ونزاع وانحلال؛ وألم يكن الرومان ومن أخضعوهم في طغيان واضطراب عقائد؛ كل ذلك كان وقت أن بزغ فجر الإسلام، اللهم أتم علينا نعمة الهداية والتوفيق.

* * *

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

* * *

الكلام إلى الآن موصول في غزوة أحد وأعقابها، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنه ما كان يليق بالمترددين الذين أصاب اليأس قلوبهم، أن يعجبوا لماذا كانت الهزيمة، وإنه لَا يصح أن تأخذهم روح الانهزام إلى هذا الحد؛ لأنهم إذا كانوا قد أصيبوا في هذه الواقعة بقتلى فقد أصيب أعداؤهم بضعف ما أصيبوا، ولأنه لَا عجب في أن يهزموا لأنهم خالفوا قائدهم، والله سبحانه وتعالى قدر لهم تلك الهزيمة لكي يعتبروا، ويحسنوا التدبير، ويحسنوا الطاعة، ويحترموا حق القيادة الحكيمة الرشيدة، ولكي يتخذوا من الهزيمة علاجا للأخطاء التي سببتها وتوقيا في المستقبل لها، ولكي يبث في نفوس أهل الإيمان أن الحرب ليست نصرا

ص: 1491

مستمرا، ولكن العاقبة في النهاية لأهل الحق والعدل والرشاد، وهناك فائدة للهزيمة أنها تبين الصادق الإيمان من المنافق الذي لَا يؤمن بشيء، ففي المحنة يتميز الخبيث من الطيب، وإذا كان النصر في بدر قد فتح باب النفاق، فدخل في الإسلام من لم يؤمنوا به، وأعلنوا الاعتقاد من يبطنون خلافه، ويخفون ما لا يبدون، فإن الهزيمة في احد قد كشفت النفاق والمنافقين، بل إن غزوة أحد من أول أمرها قد كشفت النفاق، فقد أخذ المنافقون يثبطون، حتى همت طائفتان أن تفشلا والله وَلِيُّهُمَا، فلما كانت النتيجة أخذوا يبثون الأوهام الفاسدة، ليضعضعوا عزائم المؤمنين، ويشككوا ضعفاءهم في اعتمادهم على الله، فغزوة أحد قد كشفت النفاق في أولها وفي آخرها، وحسبها ذلك فائدة.

ص: 1492

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) المصيبة أصلها في اللغة الرمية التي تصيب الهدف، ولا تخطئه، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل، ولا تكاد تستعمل في القرآن في معنى الخير، وأما الفعل " أصاب " فيستعمل في الخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى:(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ. . .)، وقوله تعالى:(إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ. . .)، والمِثل هو المساوي، والمثلان هما ضعف المساوي، والمعنى: أوَلَمّا أصابتكم مصيبة قد أنزلتم بالأعداء ضعفها أصابكم الشك والتردد وقلتم انَى هذا؛ وقد أصابوا من المشركين ضعف ما أصاب المشركون منهم، فقد قتلوا منهم مقتلة في بدر، قتلوا نحو سبعين، وأسروا مثلهم، وقتلوا منهم مقتلة في أول الحرب في أحد، والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ، وموضع التوبيخ هو قولهم:" أنَّى هذا "، لأن ذلك يدل على التردد والشك أو تسربه إلى قلوبهم، ومعنى " أنَّى هذا ": من أين هذا؟ أي من أين جاءت هذه الهزيمة، وهذا لَا يقوله إلا ضعاف الإيمان، لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطاهم، ويعرفون تقصيرهم، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم، فكأن حل النسق البياني الرائع هو هكذا: أقلتم من أين هذه الهزيمة لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها، بالمقتلة

ص: 1492

العظيمة فيهم في بدر، والمقتلة العظيمة في أول الغزوة في أحد، ويصح أن يقال: إن انذين قالوا من أقوياء الإيمان؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه، ويَخْشوْن أن يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم، وقد أمر الله تعالى أن يجيبهم، ويزيل تعجبهم، فقال:(قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفسِكمْ).

أي أن سبب المصيبة منكم أنتم، وقد أكد أنه منهم بإبراز الضمير في الإجابة (1)، وبالإتيان بالظرف وهو عند، وبالتعبير بـ " أنفسكم " التي تدل على التوكيد، وكان سبب الهزيمة منهم لأنهم لم ينتظروا في المدينة حتى يجيء إليهم الأعداء ويقضوا عليهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة نزولا على حكم الشورى، وعلى رأيهم، فعليهم أن يتحملوا تبعته، وهم فوق ذلك هموا بأن يفشلوا، ولأنهم عندما رتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه ترتيبا حكيما، وأخذ المقاتلون ينفذونَ الخطة بإحكام، والرماة يحمون ظهورهم، حتى أخذوا يَحسُّونهم بإذنه، وقتلوا من المشركين مقتلة عظيمة، وفروا أمامهم، ترك الرماة أماكنهم، فكان الاضطراب في جيش الحق، وفوق ذلك فإن الشك قد أصاب القلوب الواهنة، حتى أخذ يضرب بعضهم رقاب بعض، وضعف صوت الهادي الرشيد، وانطلق المنافقون يعلنون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فبسبب ذلك كله كانت الهزيمة.

بيد أن هذه الهزيمة كانت إرادة الله سبحانه وتعالى ليمحِّص المؤمنين، وليبين لهم بالعمل أن طاعة القائد الرشيد سبب النصر، وأن قدرة الله تعالى فوق كل شيء، فهو قادر على كل شيء، كان يستطيع أن ينصركم في هذا المضطرب، وقد فعل فإنه صرف المشركين عن أن يعودوا إلى المدينة وقد أثخنتكم الجراح وأثقلكم الاضطراب، ولكن الله خوَّفهم فَرَضُوا من الغنيمة بالإياب، ولذا قال سبحانه مؤكدا قدرته:

(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) وهذا رد على ضعفاء الإيمان الذين يقولون كيف ننهزم والله معنا، فبين سبحانه أن قدرته فوق كل شيء، وأنه سبحانه أراد

(1) أي الضمير " هو " في قوله تعالى: (هو من عند أنفسكم).

ص: 1493

لكم تلك النتيجة وحماكم من أن تؤثر في مجرى تاريخكم فصرفهم ذلك الصرف، حتى كأنهم المهزومون وأنتم المنصورون، وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ " إنَّ "، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، وقد بين سبحانه عموم إرادته وقدرته فقال:

ص: 1494

(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي إن ما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد وكلاهما قد أصر على أن يكون الموقف حاسما لمصلحته، قد كان بإذن الله تعالى، أي بإرادته الأزلية، وتقديره الحكيم، وقضائه المحكم، فما كان بغير إرادته: بل كان على مقتضى حكمته، ذلك أن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، فمن سلك طريق النصر ينتصر إن خلصت نيته، واستقامت إرادته، وتوكل على الله تعالى، ولا يبغي إلا وجهه سبحانه، وإن طريق النصر أوله انصراف عن المادة لأنها تضعف العزيمة، ثم تنظيم محكم ووضع لكل شخص في موضعه الذي يحكم القيام به، ثم طاعة وإصرار وعزيمة على امتثال الخطة المثلى، ثم ثبات جَنَان وتصرُّف في الشديدة، ولم تكونوا كذلك في هذه المعركة الطاحنة التي اختبرتم فيها اختبارا شديدا، وهو سبيل النصر إن انتفعتم به، فقد شابت نفوس بعضكم المادة وهمت طائفتان أن تفشلا فلم تكن النية المحتسبة. وخالفتم القائد الرشيد، وأفسدتم النظام المحكم، وذهب الهلع بنفوس أكثركم إذ اشتدت الشديدة وقوي البلاء.

وهنا بحثان لفظيان: أحدهما: أن الله تعالى عبر في غزوة أُحد عن الموقعة بقوله: " (الْتَقَى الْجَمْعَانِ) وفي ذلك إشارة إلى قوة التجمع في الفريقين، وذلك يدل على أن كل فريق مُصر على القتال، مُريد للنصر فيه، فهزيمة بدر جمعت المشركين في أحد وجعلت لهم عزيمة مريدة ماضية، وإيمان المؤمنين جعل في أقويائهم رغبة في النصر أو الاستشهاد.

ص: 1494

والثاني: أنه سبحانه وتعالى عبر عن إرادته الأزلية بالإذن؛ لأن الإذن هو - الإعلان، وقد علمت تلك الإرادة بهذا الأمر الذي وقع، وقد كانت تلك المصيبة التي نزلت لها فوائد، أولها: ضرورة الاستمساك بأسباب النصر، وطلبه بأسبابه، وقد أشرنا إلى ذلك، وثانيها وثالثها: ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلِيَعْلَمَ لْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا)

أي ليعْلَم الله سبحانه وتعالى وقوع ما قدره في علمه الأزلي، فيعلم المؤمنين الثابتين الأقوياء الذين لَا يبغون مادة، بل يبغون إعلاء كلمة الله تعالى، وجعلها هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، وليعلم وقوع ما قدره في علمه الأزلي وهو ظهور المنافقين في هذه الشدة، ولتقريب المعاني قول: إن الله تعالى يعلم ما يقع في المستقبل علما أزليا كما قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. . .)، فإذا وقع ما قدره علمه سبحانه واقعا، وما يتغير بذلك علم الله تعالى، بل الذي يتغير هو المعلوم من أنه سيقع إلى أنه واقع، وعلم الله واحد.

ويصح أن يقال: إن معنى علم الله تعالى في هذه الآية الكريمة وما يشبهها من آيات هو ظهور ما قدره سبحانه وتعالى بحيث يعلمه الناس، وهو من قبل في علم الله المكنون، ولوحه المحفوظ.

ومرمى النص الكريم أن تلك الشدة التي نزلت تميز بها الصادقون من أهل الإيمان من المنافقين الذين كانوا يبثون روح الهزيمة في أوساط المؤمنين كما قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. . .).

لقد دخل المنافقون صفوف المؤمنين بعد غزوة بدر، فكان لابد أن يُميزوا ويُعرَفوا ليتوقى المؤمنون شرهم، ولا يكون ذلك إلا بتجربة تعرك فيها النفوس، وتلك التجربة كانت في غزوة أحد، فعلم أمر أهل النفاق من بعدها، حتى صاروا يعرفون بسيماهم وأقوالهم وأفعالهم، وقد عبر الله سبحانه

ص: 1495

عن المنافقين بقوله

ص: 1496

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) لبيان أن النفاق حدث جديد، قد وجد في صفوف المؤمنين، ولم يكن قبل بدر الكبرى، فالقوة في بدر قد أوجدته، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته.

ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين، وأوصافهم، وأحوالهم، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة:

(وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين، وقد أشار سبحانه بهذا إلى أنهم كانوا معوِّقين (1) في ابتداء القتال، قيل لهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم، ومن أهليهم وعشيرتهم: تعالوا، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق، فإن لم تسمُ نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة، فالمعنى: قاتلوا لرضا الله، أو ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم إن لم تقاتلوا، وقيل إن معنى ادفعوا أن يكثروا سواد المسلمين، فيلقي ذلك الرعب في قلوب الأعداء فيعرفوهم بهذا التكثير، وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره قال: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوهم، قيل: كيف وقد كف بصرك؟ قال: لقوله تعالى: (أَوِ ادْفَعُوا) وعبر بالمجهول في قوله تعالى: (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) للإشارة إلى كثرة القائلين فقيل لهم من النبي، ومن الأصحاب، ومن أهلهم وعشيرتهم المؤمنين، ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق. (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ).

(1) أي مثبطين، قال تعالى:(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا).

ص: 1496

ظاهر المعنى أنهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم أنهم لَا يعتقدون أن قتالا يقع، وأن الأمر ينتهي بغير قتال، ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر، فقرر أن المعنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه وأخذ فيه بالاحتياط، ولكنه زلل، وإلقاء بالتهلكة، وكان خيرا أن تبقوا بالمدينة، حتى يجيء العدو إليكم، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول، وهو البقاء في المدينة، ولو بقوا في المدينة لوجدوا السبيل لبث الفتنة بطرق أخرى، فهم لَا يبغون إلا الفتنة، وذلك لأنهم خرجوا معهم، ولكنهم قبل أن يصلوا إلى أحد رجعوا فرجع كبيرهم عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة ممن على شاكلته ليخذلوا المؤمنين.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بَأفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تضمن ذلك النص حكما على أعمال المنافقين، وبيانا لحقيقتهم، فأما الحكم فهو أنهم في هذا اليوم المشهود الجليل الذي ميزهم وعرف بهم - كانوا أقرب إلى الكفر من الإيمان، وأما الوصف فهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم مغررين مظهرين الإيمان، وكاتمين الكفر، ويذكرون لبث روح الهزيمة بين المؤمنين أمورا يعرفون كذبها، وينشرون أراجيف يعلمون بطلانها.

والحكم الذي حكم الله به عليهم، وهو أنهم في هذا اليوم، أقرب للكفر منهم للإيمان، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين، وهزيمة الآخرين، مع أنهم عشراؤهم وخلطاؤهم، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان أبا لبعض المؤمنين أو أخا، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى، فكانوا يقطعون ما أمر الله به أن يصل. فالمراد بـ " الكفر " أهله، ومحط في قوله تعالى:(فَلْيَدْعُ نَاديه)، ويصح أن يقال: إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان، وإن كانت لَا تدل على كل حقيقتهم؛ وذلك لأن تلك

ص: 1497