الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيهما: استيعاب علم الكتاب وتعليمه من البعض ليتمكن الدارسون من أن يعرفوا حقيقة كتاب الله، والاهتداء بهديه. وقُدِّم تعليم علم الكتاب على دراسته الأمرين:
أولهما: الإشارة إلى جرم أهل الكتاب الذين اتجهوا إلى تعليم الناس أهواءهم بدل أن يعلموهم كتاب الله.
وثانيهما: أن بيان الدراسة من غير تعليم وتدريس خبط عشواء. وسير في ظلماء؛ كما يحاول ملاحدة اليوم الذين يريدون أن يفهموا القرآن من غير أن يعلموا شيئا حتى علم العربية:
* * *
(وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
…
(80)
* * *
في النص القرآني (1) قراءتان إحداهما بضم الراء، ويكون الكلام بها مستأنفا، ومتمما بيان ما لَا ينبغي لرسل الله تعالى. والثانية بفتح الراء؛ بالعطف على أن يؤتيه مع ملاحظة المعطوف الأول عليها، والمعنى: أنه لَا ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب مع قوله كونوا عبادا لي من دون الله، ولا ينبغي له أيضا أن يأمرهم بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بأن يعتقدوا أن الملائكة والنبيين يسيّرون الكون بغير إرادة الله، وأنهم يعبدون من دون الله أو مع الله. وقد وقع في عبادة الملائكة - الصابئة الذين كانوا يقيمون في بلاد الكلدان، وتبعهم بعض المشركين من العرب، والذين عبدوا بعض النبيين هم النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد، وبعض اليهود فقد اتخذت طائفة منهم عزيرا إلها وزعموه ابن الله، تعالي اللهِ عما يقولون علوا كبيرا.
(أَيَأمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلمُونَ) هذا استفهام إنكاري بمعنى النفي أي: أن الرسل لَا يمكن أن يأمروا بالكفر بالله، وقد أوتوا علم الكتاب وفضل السفارة، وتنفيذ شريعة الله تعالى، ذلك لأنهم يكونون مضللين ولا يكونون هادين، وقوله:(بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) فيه إشارة إلى أن الناس بمقتضى فطرهم يسلمون ويخلصون وجوههم لله سبحانه وتعالى، فهذا شأن من شئونهم، وطبيعة في فطرهم، حتى لقد قال بعض العلماء: إن معرفة الله تكون بالعقل؛ وأوجب
(1) غاية الاختصار ص 451.
أبو حنيفة معرفة الله بالعقل وما كان الرسل ليصرفوا الناس عن مقتضى الفطرة والعقل؛ فعبادة الله وحده في فطرة الله التي فطر عليها الناس.
اللهم جنبنا الهوى، واهدنا إلى الرشاد.
* * *
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
* * *
بين سبحانه وتعالى أحوال اليهود الذين عاصروا الرسالة المحمدية، وكيف كانوا يتعصبون لما عندهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ تشددا في التمسك بما عندهم على أن يكون على هواهم. وبين سبحانه كيف أداهم ذلك إلى الظلم، وإلى فساد الاعتقاد. بعد هذا بين سبحانه وتعالى وحدة الشرائع السماوية، وأنها يكمل بعضها بعضا. وأنها كالقصر المشيد، كل لبنة منه جزء من كيانه، وهو جماع لبناته وأركانه وأشكاله؛ وأكد سبحانه تلك الوحدة في الرسالة الإلهية ببيان أنها ميثاق الله على الأنبياء، وأن الله سبحانه أخذه عليهم ليصدق بعضهم بعضا فقال تعالى:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَاب وَحِكْمَة).
الميثاق مأخوذ من الوثاق، وهو ما يشد به الأمر، ويثبت ويؤكد؛ والميثاق الذي أخذه الله على النبيين هو ميثاق بمقتضى الهداية التي جاءوا بها، والحق الذي
يناصرونه، وهو مشتق من معنى النبوة، والرسالة الإلهية؛ فإن هذه الرسالة بمقتضى وظيفتها وعملها هي عهد موثق بين العبد المختار، والرب الذي اختاره، كمن يرسل رسولا، فإنه يكون ثمة عهد بين الرسول ومن أرسله، بأن يقوم بواجب الرسالة على الوجه الأكمل.
وإنه بمقتضى هذا العهد الموثق الذي اشتق من منصب الرسالة الأسمى، تكون الرسالة الإلهية واحدة في مقصدها وغايتها، وهي إسعاد البشرية، وتنظيم العلاقات الإنسانية على دعائم من الأخلاق الفاضلة المنبعثة من النفس العابدة، والروح الزاهدة، التي لَا تحرم طيبات ما أحل الله.
وإذا كانت الوسائل تختلف أحيانا قليلة، فالغاية واحدة، وهي الرحمة، وإقامة الحق والقسط بين الناس.
وكل نبي متمم ما بدأ به النبي الذي سبقه، أو بالأحرى يؤكد ما جاء به ويوثقه ويقويه، حتى ختم الله أنبياءه بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان خاتم النبيين، ولذلك كان حقا على كل نبي أن يصدق ويؤمن بما يجيء به النبي الذي بعده، والذي أعلمه الله تعالى به، وإذا كان حقا على النبي المبعوث أن يؤمن بمن سبقه، ومن يجيئون بعده ممن أخبره الله تعالى بمجيئهم، فإنه بلا ريب حق على الذين يتبعونه أن يصدقوا ذلك النبي الذي يجيء بعده؛ لأنهم يتبعونه في كل ما يؤمن به؛ فحق على اليهود والنصارى بمقتضى العهد الذي أخذه الله على النبيين، وبمقتضى إيمان هؤلاء النبيين، وتنفيذا لهذا العهد، أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا ما كانوا متبعين لموسى وعيسى عليهما السلام، إنما يكونون متبعين لأهوائهم وشهواتهم؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر:" لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني "(1).
(1) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14104).
هذا هو معنى النص الكريم بالإجمال، بقي أن ننظر في تخريج هذه المعاني السامية من الألفاظ المقدسة، فنقول: إن في الآيتين قراءتين (1)، إحداهما: القراءة بفتح " اللام " وتكون اللام في هذه الحال هي اللام الموطئة للقسم، التي تُشْعِرُ بأن في الكلام قسمًا تضمنه سابقها، وأن ما بعدها يتضمن الجواب؛ وتكون (ما) شرطية، ويكون معنى الكلام: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لَا معكم لتؤمنن؛ أي أنه ميثاق الله وعهده إن أتاكم علم الكتاب والحكمة، وهي الشريعة الحاكمة، وجاء رسول أن تؤمنوا فالعهد الأساس بينكم معشر الرسل، وبين من أرسلكم، أنه إن جاء كتاب الرسالة، وشريعتها التي هي حكمتها الحاكمة هو أن تؤمنوا بكل رسول يجيء بعدكم مصدقا لَا معكم كإيمانكم بكتابكم: هذا تخريج معاني الآية على قراءة فتح " اللام ".
وثانيتهما القراءة بكسر (اللام) وتكون (ما) بمعنى الذي، فهو اسم موصول، وقوله تعالى:(ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مصَدِّقٌ لمَا مَعَكُمْ) عطف على الصلة، ويكون المعنى: أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين بسبب الكتاب الذي نزل، والحكمة التي جاءوا بها، وتصديق النبي الذي جاء من بعدهم - أخذ عليهم عهدا بأن يؤمنوا به.
وقوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ) جواب القسم الذي تضمنه معنى الميثاق، لأن الميثاق المؤكد الموثق هو في حكم القسم المؤكد الموثق، وقوله تعالى:(وَلَتَنصُرنَّهُ) عطف على لتؤمنن أي أن مقتضى العهد والميثاق على النبيين أن يؤمنوا بما جاء به الرسول الذي صدق ما معهم، وأن ينصروه إذا اختلف مع المشركين. ولكن قد يسأل سائل: إنهم قد مضوا، فكيف تتصور منهم النصرة؛.
إن تصور الإيمان منهم ممكن باعتبار أن الله تعالى مخبرهم بمبعثه، ولكن النصرة غير متصورة، والجواب عن ذلك: أن الكلام بالنسبة للأنبياء فرضي، وبالنسبة لأتباعهم واقعي؛ وكان المراد أن هؤلاء الأنبياء لو كانوا أحياء في عهد
(1) قرأها (لِمَا) بكسر اللام حمزة، وقرأ الباقون (لَمَا) بفتح اللام. غاية الاختصار - ج 2/ 451. .
الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم، لآمنوا به، ولاتبعوه ونصروه وآزروه، لأن ذلك ميثاق الله الذي ربط النبوات بعضها ببعض، فهي متلاقية عند غاية واحدة، وإذا كان النبيون لَا يفرض فيهم إلا ذلك فاتباعهم يجب عليهم أن يفعلوه إن كانوا متبعين لهم.
بعد أن صور الله سبحانه وتعالى ذلك العهد الموثق بمقتضى الرسالة الإلهية قال:
(قَالَ أَأَقْرَرْتمْ وَأَخَذْتمْ عَلَى ذَلِكمْ إِصْرِي) في الجملة السابقة بيّن سبحانه عهد الله على النبيين، وفي هذه الجملة يوثقه ويؤكده بأخذ إقرار منهم بهذا الميثاق، وبأخذ عهد آخر عليهم، وهو أن يتولوا هم أخذ العهد على غيرهم بأن يقوموا بعهد الله تعالى الذي عاهدهم عليه، أي أنه سبحانه يأمرهم بأن يأخذوا ذلك العهد على أتباعهم، وهذا معنى (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) أي أخذتم من أتباعكم على ذلك الميثاق - أن ينفذوه وأن يتبعوه، وأن يقوموا بحقه عليهم، فثمة إذن عهدان: عهد الله على النبيين، وعهد النبيين على أتباعهم، وهذا هو الإصر الذي أخذوه عليهم. فالإصر هنا هو العهد الموثق الشديد، وقد قال الراغب في أصل اشتقاق " أصر ":" والإصر عقد الشيء وحبسه بقهره يقال أصَرتُه فهو مأصور ". قال تعالى: (وَيَضعُ عَنْهمْ إِصْرَهمْ. . .)، أي الأمور التي تثبطهم، وتقيدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات. . و " الإصر " العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب، وعن الخيرات، قال تعالى:(أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي).
وإذا كان أتباع النبيين قد. أخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالرسول ويصدقوه وينصروه، فإنه في عنق اليهود والنصارى أن يؤمنوا بمحمد وينصروه ويؤيدوه، لأن ذلك جزء من الرسالة التي أتوا بها.
ولقد زكى سبحانه العهد الذي أخذه النبيون على أتباعهم بقوله تعالى: (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ).