الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .)، فالصبر يتضمن ضبط النفس عن الجزع، وقوة الاحتمال، والتضافر مع الجماعة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم صبر الأنصار فيما روي عنه من أنه قال فيهم:" يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع "(1).
(تَتَّقُوا) معناها أن تتخذوا الوقاية بطلب رضا الله تعالى، ورجاء ما عنده، وأن تستعدوا، وتدفعوا الاعتداء بالحق وتعملوا على الخروج من المحنة، فليس شأن المؤمن استسلاما للمصائب تنزل به، بل شأنه صبر من غير جزع، وعمل من غير طمع، وجد وجهاد ودفع للشر.
وقد بين سبحانه أن التقوى والصبر هما من الأمور التي أمر الله تعالى بها لأنها تؤدى إلى النجاح، ولذلك قال سبحانه:(فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي إن ذلك مما يعقد الأمور ويربطها ويوثقها ويؤكدها، ويجعلها قوية منتجة مثمرة، فالصبر والتقوى بهما النجاح في الأمور.
وقد بين سبحانه أن أهل الكتاب فيما يصنعون قد خالفوا ما أخذ عليهم من مواثيق، فقال تعالى:
* * *
(1) جزء من حديث رواه العسكري في الأمثال كما جاء في جامع الأحاديث والمراسيل 13492 - ج 19، ص 37.
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
…
(187)
* * *
الميثاق هو العهد الموثق المؤكد، وقد أخذ الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب العهد المؤكد الذي لَا يقبل تأويلا ولا احتمالا أن يبثوا علم الكتاب ويعلنوه، ولا يقصروا العلم به على طائفة من الناس خاصة، والضمير في (لَتُبَيِّنُنَّهُ) يعود إلى الميثاق، ويكون المراد من العهد الذي وثقه الله تعالى هو تعاليمه وشرعه ونوره، وعلى ذلك يكون ثمة احتمالان في عود الضمير، أحدهما أن يعود إلى الكتاب، والثاني أن يعود إلى الميثاق نفسه، والأظهر أنه يعود إلى الكتاب، والالتفات من الغائب إلى الخطاب؛ إذ إنه كان متحدثا عنهم، ثم فسر
الميثاق بالخطاب، لتأكيد أخذ الميثاق بإعلان أنهم ما كانوا غائبين عند أخذه، بل كانوا حاضرين مخاطبين، فالعهد قد أخذ عليهم بألسنتهم، وقوله تعالى:(وَلا تَكْتُمُونَهُ) معطوف على قوله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) وهنا يسأل سائل: لماذا أكد قوله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ) بعدة توكيدات، بالقسم وبلامه، وبنون التوكيد الثقيلة، ولم يؤكد (ولا تَكتمونه)؛ وذلك لأن طلب البيان مشدد ومؤكد، وبذلك يتأكد عدم الكتمان بتأكد طلب البيان، ولو أن أدوات التوكيد لحقت " ولا تكتمونه " لأوهم الأسلوب أن المنفي هو الكتمان المؤكد المبالغ، أما غيره فلا ينفي، فلو قيل:" ولا تكتمنه " لأوهم الأسلوب أن المراد النهي عن المبالغة في الكتمان، فغير المبالغة في موضع الإباحة، وذلك غير معقول، ومع هذا العهد الموثق لم يبينوا، ولذلك قال سبحانه:(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
النبذ الطرح، والتعبير بوراء ظهورهم كناية عن أنهم لن يعودوا إلى ما نبذوه، والكلام تصوير لعملهم في عدم الوفاء بعهد الله الذي أخذه عليهم، إذ إنهم أهملوه، ولم يفكروا في العودة، وأهملوه إهمال استخفاف واستهانة، كما ينبذ الشيء الحقير.
والضمير في " نبذوه " على هذا يعود إلى الميثاق، باعتبار أنه هو موضع الحديث ابتداء، ويصح أن يعود إلى الكتاب، لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام والكتاب وعاؤها، فنبذ الكتاب نبذ للعهد، فهم لم يكتفوا بالامتناع عن البيان لغيرهم، بل أضافوا إليه إهمال الكتاب إهمالا مطلقا.
وإن هذا النبذ للكتاب وتعاليمه، وللميثاق المؤكد وإعلانه - سببه الهوى الدنيوي، وحب السلطان والغلب، والاستطالة على الناس بما عندهم، والإدلال عليهم بالعلم من غير أن يعملوا به، ولذلك قال سبحانه:(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي تركوا كتاب الله تعالى والعمل به وبشرائعه، وإعلانه، في نظير ثمن تافه قليل، وكل ثمن للإعراض عن كتاب الله تعالى والعمل به هو قليل مهما يكبر في نظر التاركين، ولذا قال سبحانه:(فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) أي أنه مذموم قبيح ما يطلبون من أعراض الدنيا في نظير إهمال الشريعة والعهد الموثق.