المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وإن الله سبحانه قد نفَى عن ذاته الكريمة إرادة الظلم، - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وإن الله سبحانه قد نفَى عن ذاته الكريمة إرادة الظلم،

وإن الله سبحانه قد نفَى عن ذاته الكريمة إرادة الظلم، وبين أنه يضع الأمور في مواضعها؛ ليصحح الأفهام التي تتوهم أن النبوة تكون في قبيل دون قبيل، ولبيان أن كل شيء له ميزان ومقياس، وأن رقي الأمم ورفعتها يكون بميزان ثابت، وأن الله تعالى لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما كان في أمة إلا وقاها الآفات الاجتماعية، وأنه لَا تتركه أمة إلا تردت في مهاوي الفساد، وأدال الله من قوتها، ذلك هو الميزان الذي وضعه العلي القدير لرفعة الأمم، ولذا قال سبحانه في وصف الأمة المثلى:

* * *

ص: 1355

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

(110)

* * *

والخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين تلقوا الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، و " كان " في قوله تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) يصح أن تكون بمعنى وُجِد، أي وجدتم خير أمة لهذه الأوصاف ما تحققت فيكم، ويصح أن تكون ناقصة، ويكون المعنى قدرتم في علم الله تعالى خير أمة إن قمتم بهذه الأمور، ويصح أن تكون بمعنى صار، أي تحولتم معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة أخرجت للناس بسبب الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن نميل إلى أن تكون بمعنى وُجِد أو ناقصة، والمعنى فيهما متقارب، ليشمل النص المخاطبين بتلك الحقائق في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن يجيئون بعدهم ويتبعونهم بإحسان إلى يوم القيامة.

وإن هذه الخيرية التي قدرها سبحانه لهذه الأمة منوطة بتحقيق أمرين أحدهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني: الإيمان المطلق بالله والإذعان له وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ في الأسباب، واعتقاد أنه لَا قوة في هذا الوجود غير قوته، ولا معبود بحق سواه، ولا خضوع لأحد كائنا من كان غيره تعالت قدرته، فليست الخيرية التي خاطب الله بها المهاجرين والأنصار والذين يتبعونهم؛ لأنهم مسلمون فقط، أو لأشخاصهم وذواتهم، بل لأنهم متصفون

ص: 1355

بأوصاف هي علة هذه الخيرية، ومناط تلك الرفعة الإلهية، وتلك الأوصاف هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقوله تعالى:(تَأمُرُونَ بِالْمَعْروفِ) موقعها من الإعراب إما أن تكون جملة حالية من ضمير الخطاب، وإما أن تكون كلاما مستأنفا مفصولا، ولذا قال الفخر الرازي في التفسير الكبير:" اعلم أن هذا الكلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول: زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه: " أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف؛ فهنا حكم بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه علة هذا الحكم ".

هذا، ويصح أن نقول: إن الحكم بالخيرية مبهم، وقد بينه سبحانه بقوله:(تَأمُرُونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) فالخيرية التي حكم سبحانه وتعالى بها هي هذه الأوصاف، وهذا ينطبق على المثل الذي ساقه الرازي، وهو، فلان كريم: يطعم ويكسو، فإن يطعم ويكسو تفسير لمعنى كرمه، وبيان له، فالاستئناف إذن ليس لأن جملة " تأمرون " علة للخيرية، بل هي بيان للخيرية، ولذلك لَا ينطبق الحكم بالخيرية على من لَا يتصف بهذه الصفات، فالجماعات التي تهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكون فيها إيمان، لَا يمكن أن تكون خير أمة، بل لا توصف بالخيرية قط؛ لأنه لَا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا بالإيمان وقيام رأى عام مُهذِّب لائم يقوم المعوج، وتنزوي فيه الرذائل انزواء، إذ يقتلها نوره المشرق وشمس الحقيقة الناصعة.

وهنا قد يسأل سائل: لماذا قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان؟ ولماذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب وغير ذلك مما يوجبه الإيمان، ولا يعد الشخص مؤمنا إلا به؟ ويجاب عن السؤال الأول: بأن ذكر الأمر بالمعروف والنهي

ص: 1356

عن المنكر مقدما لبيان أنه مطلوب لذاته، وأنه فضيلة لَا تختلف فيها الأمم ولا الجماعات، فهو كالصدق والعدل والحق تتفق عليها الأفهام وبل ولا يمكن أن يتحقق بنيان جماعة من غير تحققه، وإلا كانت كالذئاب الضارية، أو كانت كالوحوش في الغابة، والإيمان سياج الجماعة وحمايتها من أن تضل، وكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يقوم به بناء الجماعة، والإيمان هو الذي يحميها ويسدد خطاها، فذكر مايقوم به البناء ثم ذكر ما يكون به ذلك البناء في دائرة الفضيلة والأخلاق الكريمة وهو الإيمان، وفي الحقيقة هما متلازمان، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق يتبعه إيمان الشذاذ الخارجين، والإيمان الحق بالله تعالى والإذعان لأوامره ونواهيه يتبعه حتما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا هو الجواب عن الجزء الأول من السؤال، أما الجواب عن الجزء الثاني، وهو لماذا اقتصر على ذكر الإيمان بالله؛ فهو أن الإيمان بالله هو لب الإيمان بكل أجزائه وعناصره، فالإيمان بالله هو الإذعان المطلق لقوة غيبية تسيّر هذا الكون وتدبره، وتقوم على كلاءته وحمايته، والإيمان بقوة غيبية يقتضي الإيمان برسالتها للناس، ويقتضي الإيمان بالأرواح الطاهرة المطهرة، والإيمان بأن الله لم يخلق هذه الأشياء عبثا، وإن ذلك يقتضي الإيمان بقدرة الله على الإعادة كما بدأ الخلق بالتكوين، وبأن هنالك يوما آخر فيه الحساب، وإن من يؤمن بالله ولا يؤمن بهذه العناصر كلها لَا يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، ولا مذعنا لأحكامه حق الإذعان، ولذا كان أهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم بالله، وأنكروا رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قيام البينات عليها غير مؤمنين، وغير مذعنين للحق الذي ارتضاه الله.

ويجب التنبيه هنا إلى أمرين: أولهما: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيرت تغيير المنكر، وغير العمل بالفعل على منعه، فالأمر والنهي إرشاد وتوجيه ونصح وتنبيه، والتغيير يكون بالعمل المنظم والأحكام الرادعة، وذلك يتولاه الحكام، إلا إذا تقاصرت همم الحكام، فإنه يجب تغييرهم ليتولى من يقيم حدود الله، وينفذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 1357

والأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه أنه ليست الخيرية مرادفة للقوة، فالخيرية هي أن يكون المجتمع فاضلا يقوم بحق العدل، وأن يكون كل شيء فيه بقسطاس مستقيم، وأن تسوده الأخلاق الكريمة والسلوك القويم، وأما القوة فالأمر فيها لسيطرة المادة والغلبة والاستعداد الحربي، وإنا نرى أقوى الأمم الآن أشدها انتهاكا لحرمات الفضيلة في داخلها وخارجها، ومن الأمم الضعيفة ما يكون للفضيلة فيها موضع، وللأمانة فيها سلطان، وللحق فيها أنصار، ولا شك أنها أقرب إلى الخير من تلك الأمم القوية، وفي الجملة، إن القوة تستمد من المادة إذا انفصلت عن الفضيلة، والخيرية تستمد من الحق والعدل والفضائل الإنسانية، والمساواة بين بني الإنسان من غير عصبية جنسية أو إقليمية، وهما في عصرنا الحاضر متمايزان لسيطرة المادة على الأقوياء، وفقدانهم قوة الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد قلنا: إن الإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل رسول إذا قامت الأدلة على رسالته؛ ولذا نفَى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن بعض أهل الكتاب، فقال تعالت كلماته:

(وَلَوْآمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم) و " لو " هنا هي التي يقول عنها علماء النحو: إنها حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الخير فيهم لأنفسهم لامتناع الإيمان الكامل، وقد ذكر نفي الإيمان عنهم مطلقا مع أنهم يقولون إنهم يؤمنون بالله، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وذلك لأنهم إذ لم يذعنوا لأحكام الله تعالى وأوامره - وقد فسروها على حسب أهوائهم ومنازعهم العصبية والجنسية، واعتقادهم أنهم شعب الله المختار - قد فقدوا الإيمان، إذ الإيمان كل لَا يقبل التجزئة، فليس بمؤمن بالله من يكذب رسالة الله التي جاءت بها البينات، وقامت عليها الدلائل؛ وفي نفي الإيمان نفيا مطلقا ما يومئ إلى أن الذين يجعلون هواهم مسيرا لاعتقادهم وفكرهم لَا يؤمنون بحقيقة من الحقائق إلهية كانت أو إنسانية.

ص: 1358

وقد نفَى سبحانه عنهم الإيمان بأي شيء، ولذلك لم يكن ثمة حاجة بعد هذا إلى نفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك يقتضي الإيمان بالفضائل والمعاني الإنسانية، وهم لَا يؤمنون بشيء منها، وإن ذلك ليس خيرا لهم في شيء؛ لأنهم بذلك تنحل جماعتهم، وتتفرق وحدتهم، ونفي الإيمان عن أهل الكتاب ليس نفيا له عن الكل، بل هو نفي عن الأكثر؛ لذا قال سبحانه:(مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) المؤمن هو المذعن للحق إذا قامت بيناته أو دلت أماراته، وهو ينشأ عن استقامة القلب، والتزام الجادة، والاتجاه دائما إلى الطريق المستقيم بإخلاص ونزاهة نفس عن الهوى، ولذلك كان غير المؤمن خارجا عن الاستقامة، ولذا يسمى فاسقا، باعتباره خرج عن منهاج الاستقامة، وترك طريق الحق، وسلك سبل الشيطان، ويسمى كافرا باعتباره جحد الحق، وستر ينابيع الإدراك في نفسه، وناسب أن يذكر وصف الفسق بالنسبة لغير المؤمنين من أهل الكتاب، لأنهم خرجوا عن منهاج الكتاب المنزل، وفسقوا عن أمر ربهم وتركوه وراءهم ظهريا.

وإن منهاج القرآن هو العدالة في الحكم دائما، ولذا لم يصفهم كلهم بالفسق وإن كان قد عمهم، بلِ وصف بعضهم وإن كان الأكثر، ومثل ذلك قوله تعالى:

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وكثيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، ولكن من هم المؤمنون ومن هم الفاسقون؛ سنبين ذلك في تفسير الآيات الآتية، والله سبحانه وتعالى هو وحده العليم بالصواب.

* * *

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ

ص: 1359

بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

* * *

بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة منزلة المؤمنين من غيرهم إذا أخذوا بأحكام الإسلام واهتدوا بهديه، وكوَّنوا منهم جماعة فاضلة تؤمن بالله تعالى حق الإيمان، وتذعن لشريعته حق الإذعان، وتتواصى بينها بالحق والصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين أن ذلك هو عصام الأمة وجامع وحدتها، والرابط بينها بأرسان (1) من الهداية الربانية، فيستتر الشر ويختفي، ويظهر الخير وينكشف، وإن تلك المنزلة جعلها الله تعالى خير المنازل، وبين سبحانه أن أهل الكتاب الذين عادوا المسلمين، وهم يعلمون أنهم أهل الحق وأهل الإيمان لو آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا لكان خيرا لهم، ولكن آثروا مجافاة الحق على اتباعه، وعداوة أهل الإيمان على موادتهم، ولقد بين سبحانه من بعد أن عداوتهم - لَا تضر المؤمنين ضررا بليغا له أثر، ما دام أهل الإيمان مستمسكين بما رفع منازلهم وأعلى درجاتهم، ولذا قال تعالى:

(1) جمع رسن، وهو الحبل. وقد سبق.

ص: 1360

(لَن يَضُرُّوكمْ إِلَّا أَذًى):

في هذا النص الكريم بيان أن الذين أوتوا الكتاب، ثم كفروا به وبالبينات لما جاءتهم، لن يضروا المؤمنين ضررا يبقى أثرا في جماعتهم، ويؤثر في قوتهم، وإن وقع منهم أذى؛ وذلك لأن الضرر قسمان: ضرر يترك أثرا في الأمة، فيضعف قوتها، ويوهن أمرها. وضرر لَا أثر له: كالأذى بالقول أو الفتنة في الدين تتناول الآحاد، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان، أو محاولة بث روح النفاق بين الجماعة من غير أن يعم ويشيع، وقد نفى الله سبحانه وتعالى النوع الأول من الضرر نفيا مؤكدا بلفظ (لَن) فإنها تدل على تأكيد النفي باتفاق علماء اللغة، وقال الزمخشري وطائفة كبيرة من اللغويين: إنها تدل على تأبيد النفي وعلى ذلك يكون الاسعتثناء متصلا، ولا يكون منقطعا، لأن الأذى مهما ضؤل نوع من الضرر، وإن لم يبق أثرا.

ص: 1360

وإن الشرط في نفي الضرر الذي يؤثر في الجماعة الإسلامية أن تكون مؤمنة بالله حق الإيمان آخذة بتعاليمه مهتدية بهديه، وأن يسودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو خاصتها، ورباط وحدتها، وإلا فإن الضرر البالغ يصيبها؛ لأنها فقدت مشخصاتها ومكوناتها.

ولقد بين سبحانه بعد ذلك حال أولئك الكفار من اليهود والنصارى مع المؤمنين الصادقي الإيمان:

(وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) هذه الحال التي ذكرها الله سبحانه تفصيل لبيان ما تضمنته الجملة السامية من قبل، فإنها تضمنت أن هؤلاء لا يمكن أن يصيبوا المسلمين بضرر بليغ يبقى له أثر، وإنه من تفصيل بعض ذلك أنهم ينهزمون في قتال المسلمين، ومعنى قوله تعالى:(وَإِن يقَاتِلُوكُمْ يوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ) أنهم إن قاتلوا ينهزمون، وعبر عن انهزامهم بتوليهم الأدبار، لأن من ينهزم في ميدان القتال لَا يقابل عدوه بوجهه، ولكنه يطلب النجاة بالفرار، ولسان حاله يقول: النجاء النجاء، والتعبير عن الهزيمة بتوليتهم الأدبار؛ فيه إشارة إلى جبنهم، وأنهم يفرون فرارا أمام خصومهم، وكذلك كان الشأن في قتال المسلمين الأولين للكفار اليهود والنصارى، فقد قاتل المؤمنون بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر وغيرهم، وكانوا يفرون فرارا، وقد كتب الله على بعضهم الجلاء، وعلى بعضهم الفناء، وعلى بعضهم البقاء في ذلة، وكذلك كان الشأن مع النصارى بالشام ومصر.

وقد ذكر سبحانه وتعالى أنهم مع انهزامهم في القتال لَا يمكن أن ينتصروا على المؤمنين ما دام المؤمنون على الشرط الذي ذكرناه، ولذا قال سبحانه وتعالى مخبرا:(ثُمَّ لَا ينصَرُونَ) أي أنهم لَا يمكن أن ينصروا أبدا، وهذه الجملة خبرية ليس لها صلة لفظية بالجملة الشرطية، فليست معطوفة على جواب الشرط، فهي إخبار عن نفي الانتصار غير مرتبط بكونه في قتال أو غير قتال، ولقد وضح الزمخشري في الكشاف هذا المعنى أكمل توضيح، فقال: (فإن قلت: هلا جزم

ص: 1361

المعطوف في قوله (ثُمَّ لَا يُنصرُونَ)؟ (قلت) عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل ثم أخبركم أنهم لَا ينصرون، فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ (قلت) لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بقتالهم كتولية الأدبار، فحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتفٍ عنهم النصر والقوة، لَا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر حال بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر).

وكان العطف الخبري بـ " ثم " على مضمون الجملة الشرطية كلها، وكان التراخي لتقرير عدم النصر، إذ إنّ عدم النصر المطلق الذي يكون بالقتال وغيره ينشأ من توالي الانهزام، إذ إن توالي الانهزام يلقى في قلوبهم بروح اليأس فلا تكون لهم من بعد ذلك نصرة في أية ناحية من النواحي.

ذلك خبر الله تعالى، وخبر الله تعالى صادق إلى يوم القيامة، ولكن الذي نراه منذ قرون هو انهزام المسلمين، وتوالي انتصار النصارى من أهل الكتاب، بل إن بلية البلايا أن ينتصر اليهود، فهل أخلف الله وعده؟! كلا، ما أخلف الله موعدا، وإن وعد الله لحق، وخبره صادق، ولكن الذي تغير هو حال المسلمين، فقد اشترطنا لتحقق نصر الله أن يكونوا مؤمنين بالله حق الإيمان، مذعنين لأحكامه حق الإذعان، متعاونين فيما بينهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فعندئذ يكونون أنصار الله تعالى:(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

فهل كان المسلمون على هذا الشرط عندما انهزموا؛ لقد تغيرت حالهم، فلم يذعنوا لأحكام الله تعالى، ونقص إيمانهم به، ولم يتواصوا بالحق والصبر، ولم يعودوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، بل صار بأسهم بينهم شديدا، وأخذ يأكل بعضهم بعضا، وبذلك تغيرت حالهم فغير الله تعالى بهم، كما قال سبحانه:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11).

ولئن عادوا إلى الإيمان

ص: 1362