المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يشاهد كل شيء، ويشهد عليه، فيعرف الظالم الذي يأخذه ومآله - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: يشاهد كل شيء، ويشهد عليه، فيعرف الظالم الذي يأخذه ومآله

يشاهد كل شيء، ويشهد عليه، فيعرف الظالم الذي يأخذه ومآله معرفة الشاهد المعاين، فمن أراد إخفاء مال، أو أكل الحق من صاحبه، فليعلم أن الله تعالى سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.

* * *

ص: 1667

(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ

(34)

* * *

يقال قام على الشيء وهو قائم عليه وقوام عليه، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه بعنايته والمحافظة عليه، وليست القوامة مطلق الرياسة، بل إن الرياسة تسمى قوامة إذا كان الرئيس يقوم على رعاية المرءوس والمحافظة على حقوقه وواجباته، ومن هذا المعنى قوله تعالى:(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) فإن المعنى أن الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والكلاءة والحماية، فيقوم الآباء على رعاية بناتهم والمحافظة على أنفسهن وأخلاقهن ودينهن، والأزواج يقومون على شئون زوجاتهم بالحفظ والرعاية والحماية والصيانة، ومن هنا تجيء الرياسة، بل إني أقرر أن قيام الرجل على شئون الزوجة ليس فيه رياسة، إنما فيه حماية ورعاية وهو من قبيل توزيع التكليفات، فإذا كان للرجل رياسة عامة، فللمرأة أيضا رياسة نوعية، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها "(1).

وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب تكليف الرجل هذه الرعاية دون المرأة، فبين سببين: أولهما: قال فيه (بِمَا فَضَّلَ اللَّهَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، والتفضيل هو الزيادة في القوة الجسمية والمعرفة، واختصاص الرجال بالرسالة الإلهية، والولايات الكبرى، وقد تبع هذا تكليفات كثيرة على الرجل، منها الجهاد ودفع الأعداء، وما عرف التاريخ أن امرأة قادت الحروب، ومهما يكن من عمل للمرأة في الحروب فهو من قبيل الأعمال الثانوية، لَا الأعمال الأصلية، والتفضيل هو تفضيل الجنس

(1) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: - وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ - «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ".

أرواه البخاري: الجمعة - الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم بنحوه: الإمارة (1829)].

ص: 1667

على الجنس، لَا تفضيل آحاد، فمن النساء من هي أقوى من الرجال عقلا، ومعرفة، بل قوة جسم في بعض الأحيان، وقال:(بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) ولم يقل: بما فضلهم الله عليهن أولا للإشارة إلى البعضية المشتركة، وأن الرجال من النساء والنساء من الرجال، فاللحمة الواصلة واحدة، وللإشارة إلى أن ذلك التفضيل لصالح الجميع، وكلٌّ يؤدي عمله الذي خلقه الله سبحانه وتعالى له.

والسبب الثاني في القوامة والرعاية والحفظ والصيانة هو ما عبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، وذلك لأن تكليف الرجل بالإنفاق، وجعله حقا للمرأة عليه، يجعله مكلفا أيضا أن يرعاها ويصونها؛ إذ إن ذلك التكليف استوجب أن يكون عمل المرأة داخل المنزل، وعمل الرجل خارجه؛ فهي عاكفة على شئون الأطفال وإعداد البيت ليكون جنة الحياة، وهو مكلف رعاية الجنة وحمايتها وصيانتها.

(فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ للْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه) إن رعاية الرجل للمرأة والعمل على صيانتها وحفظها تختلف باختلاف المرأة، والمرأة المتزوجة نوعان: إحداهما الصالحة، والثانية من ليست كذلك، وهنا يبين هذا النوع. ومعنى الصالحة النافعة المستقيمة في خلقها ودينها، فهي صالحة في نفسها وزوجيتها، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بوصفين ظاهرين يميزانها، ويكشفان عن صلاحها، في نفسها ودينها: أحدهما أنها قانتة. وقانتة معناها مطيعة عن طيب نفس، واطمئنان قلب، لَا عن قسر وإكراه، وهي مطيعة لله تعالى في كل مظاهرها، ومن طاعة الله تعالى طاعة زوجها في غير معصية. ولم يبين في اللفظ من تطيعه للإشارة إلى أن من طبيعتها الطاعة لصاحب الطاعة. وصاحبها هو الله، وهو مصدر الطاعات كلها. والوصف الثاني أنها حافظة للرجل في غيبه، وقد عبر الله سبحانه عن ذلك بقوله:(حَافِظَاتٌ للْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه) أي يحفظن الأمور المغيبة المستترة، فلا يفشين ما يكون بينهن وأزواجهن، ولا يكتمن ما خلق الله في

ص: 1668

أرحامهن، ولا يعتدين عليه، ولا يضعن في الوديعة التي أودعها الله إليهن ما لا يجوز أن يكون فيها، وقوله تعالى:(بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)(ما) إما مصدرية وإما موصولة، والمعنى على أنها مصدرية: حافظات للغيب بحفظه تعالى، أي بالصورة التي حفظ الله بها ذلك الأمر وجعله غيبا مكنونا. وعلى أنها موصولة: حافظات للأمور الغيبية الستورة بالأمر الذي حفظها الله تعالى في تكوينه وشرعه.

والخلاصة على التخريجين أن المرأة الفاضلة الصالحة مع طاعتها لزوجها تحفظ غيبه وستره وعرضه، وقد جاء الوصفان في قول النبي صلى الله عليه وسلم:" خير النساء من إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته "(1).

هذا هو القسم الأول من النساء المتزوجات، والقسم الثاني ما بينه بقوله:

(وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُن وَاهْجُروهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) ذلك القسم هو غير الطائع وغير الصالح بلا ريب، والنشوز خروج الزوجة عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها، وقيامها على شئون بيتها، وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع في وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها، فيكون نشوز المرأة ترفعا أو إعراضا عن الحياة الزوجية الطيبة وشذوذا فيها، وقال سبحانه، (تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) ولم يقل " ينشزن " للإشارة إلى أمرين: أولهما علاج الداء قبل أن يستفحل، وذلك بأن يكون العلاج عند وقوع بوادر النشوز وظهور أماراته، حتى لَا يصل إلى أقصى درجاته، وهو أن تهجر الزوج، وتخرج من منزله، لأن ذلك العلاج يكون وهي في ظل العُش الزوجي لم تغادره - والأمر الثاني استكثار وقوع النشوز بالفعل، وهو أن تترك البيت على من فيه وما فيه، وكأنه لَا يتصور أن تقع زوجة في ذلك، ولو لم تسم في لغة الشرع زوجة صالحة. وقد ذكر الله لهذا النوع من النساء ثلاثة أنواع من العلاج:

(1) مسند الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنهما، وروى أبو داود: الزكاة - في حقوق المال (1664) عن ابن عباس مرفوعا.

ص: 1669

أولها - ما ذكره سبحانه بقوله تعالى: (فَعِظُوهُن)" الفاء " هنا واقعة في خبر الموصول؛ لأنه في معنى الشرط فدخلت الفاء في خبره الطلبي، كما تدخل في جزاء الشرط إذا كان طلبا. والوعظ القول الذي يؤثر في النفس ويوجهها إلى الخير، وقد قال الخليل بن أحمد:" الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب " فالوعظ توجيه إلى الخير بذكر نتائج الشر، وهو مراتب أعلاها التوبيخ، وهو أيضا مراتب. ولكل امرأة من النساء ما يليق بمثلها، فذات الإحساس الرقيق إذا كان منها ما لَا يستحسنه، يقال مثلا: أفعلت هذا؛ كأنه ينكر أن يكون حدث منها، أو يقول: ما تصورت أن يكون هذا من مثلك. ثم يذكرها بشرف أسرتها، ثم يذكرها بحق الله تعالى، ثم يوبخها، ومنه اللوم، وهو في كل هذا لَا يقسو ولا يعنف. والثاني - الهجر في المضجع، والمضجع في المجاز هو المسكن كله، والهجر المطلوب هو الهجر الجميل، وهو الهجر من غير جفوة. والهجر مراتب: أدناها أن يكون الهجر في موضع النوم، وهو المضجع الحقيقي، والآخر مجازي بأن يدير لها ظهره ولا ينام، فإن علا نام في منام آخر، فإن علا ترك حجرة النوم إلى حجرة أخرى من غير مجافاة ولا مخاصمة، ولكل حال نوعها من النساء ونوع من أمارات النشوز وعلاماته التي تكشف عن توقعه إن ترك حبلها على غاربها.

الثالث - من دواء النشوز، الضرب، وهو أقصاها، ولا يلجأ إليه إلا عند فشل الدواءين السابقين. وقد ثبت أن الضرب المباح يكون عندما تبلغ الحياة الزوجية درجة يخشى عليها من النشوز والافتراق، وقد قيدته السنة بقيدين. أحدهما: أن يكون غير مبرح، وأن يكون غير مشين بألا يضرب الوجه، فقد صرحت بذلك السُّنة (1)، وسئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح، فقال: هو

(1) عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟، قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ [ص:245] إِلَّا فِي الْبَيْتِ " رواه أبو داود: النكاح - حق المرأة على زوجها (2142)، وابن ماجه: النكاح - حق المرأة على الزوج (1850)، وأحمد: أول مسند البصريين (19509).

ص: 1670