الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولْيُعلمْنا العدالة بأن نربط الجزاء بالعمل ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقولها (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لإعلان عدالته ولإثبات أن الكفر والظلم قرينان، وأن الإيمان والعدل متلازمان، ولبيان استحقاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات لما أعطوا من ثواب ونعيم مقيم. ولقد ختم الله سبحانه وتعالى قصص عيسى بقوله تعالى:
* * *
(ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
(58)
* * *
ذلك القصص الذي ذكرت فيه قصة آل عمران، وقصة مريم وولادتها وزكريا ونداءه وإجابته، وعيسى وروحانيته وآياته الباهرة، نتلوه، أي نقصه عليك بعضه تلو بعض فنتلوه في بيان رائع، وهو من الآيات البينات المثبتة لرسالتك، فما كنت لديهم إذ حدثت هذه الوقائع الثابتة التي لَا مجال للريب ولا للشك في صدقها، وما كنت تقرأ في كتاب، ولا تلقيته بيمينك، إنما هو وحي به إليك لتثبت به رسالتك، وتؤيد به دعوتك، وهذا القصص مع دلالته على نبوتك هو في ذاته يحمل العظة والاعتبار؛ ولذلك كان هو من (وَالذكرِ الْحَكِيمِ) أي الذكر الذي يربي الحكمة في القلوب التي تقرأ وتعي وتدرك، إذ هو يذكر القارئ بِأن الأدلة مهما تكن قوتها لَا تجعل الضال يهتدي ما لم يفتح قلبه لها، فالأدلة كالنور لَا يراه إلا من له بصر يبصر به، اللهم افتح قلوبنا لإدراك الحق والإيمان، إنك على كل شيء قدير.
* * *
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
* * *
في الآيات السابقة بيَّن الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى، وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات، وكيف كان عبدا من عباده الصالحين، وذكر دعوته إلى ربه، ومعاداة قومه له، وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله، وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم، ثم توفاه سبحانه، ورفعه إليه، وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته، فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته، وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادّعوا ألوهيته، أو أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى، ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وأن الله تعالى لَا يتقيد بالأسباب والمسببات؛ لأنه خالق كل شيء، وهو الفاعل المختار، يخلق الأشياء بإرادته واختياره، ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته، كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام، والذين يعاصروننا اليوم، وإن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا أم، فكذلك خلق عيسى من غير أب، وهو سبحانه ذو القوة المتين. ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله:
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى، بجوار خلق آدم من تراب، فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، أي من غير أب ولا أم، ومن مادة ليس من شأنها أن يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها، ومعنى النص الكريم: إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسجة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين ألَّهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب، واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين: أولهما: أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لأن يكون إلها أو ابن إله، فأوْلَى بذلك ثم أوْلى آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم، ولا
أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.
ثانيهما: أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حيّ من غير أب ولا أم، ومن مادة ليس من شأنها أن يتكون منها إنسان حي، فأولى أن يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب، ومن أم هي إنسان يلد ويحيا ويموت، وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين؛ وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب، وما كان يصح أن يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.
والنص الكريم فوق ما تضمنه من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين، هو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء، من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة، وأنه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحيّ، ويخلق الحيّ على غير النظام الجاري في مجرى العادات، وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد، ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو أبو الخليقة آدم عليه السلام. ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم:
(ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب، أراد سبحانه وتعالى أن يكون فصوَّره من طين، ثم قال له لما صوره آمرا له أمرا تكوينيا " كُن " فكان. وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء، فليست إلا أن تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون الأمر التكويني، وتكون الاستجابة التكوينية، ويكون الأمر كما أراد سبحانه. وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام:(كُن فَيكُونُ) ولم يقل كن فكان، وهو المناسب للماضي، وذلك لأن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق إلله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي وقد بين سبحانه أن هذا هو الحق الثابت المستمر، فقال:
* * *