الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستبدال، وأما الآية الأخرى، فإنها عند ما تريد المرأة ذاتها التفريق غير مَعْضولةٍ ولا مبخوسة أي حق من حقوق الزوجية المفروضة على الزوج.
وقد وبخ سبحانه وتعالى على الأخذ عند إرادة الاستبدال بنصين كريمين: أولهما قوله تعالى:
(أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) هذا توبيخ واستنكار للأخذ، والبهتان هو الكذب غير المعقول الذي يتحير فيه العقل، ويطلق على كل أمر يتحير العقل في إدراك سببه، أو لَا يعرف مبررا لوقوعه، كمن يعتدي على الناس من غير عداوة سابقة ولا نفع مجلوب، ولا غرض مقصود. والإثم الذنب العظيم، والمبين الواضح الذين يعلن نفسه ووضوحه، ويكشف عن مقدار الأذى فيه. وقد قال العلماء: إن البهتان والإثم مصدران قصد بهما الوصف، أي أتأخذونه باهتين فاعلين فعلا تتحير العقول في سببه، آثمين بفعله إثما واضحا معلن الوضوح مستنكر الوقوع، ويصح أن يكون المصدران مفعولين لأجله، ويكون ذلك توبيخا أشد، ويكون المعنى عليه: أتأخذونه لأجل البهتان والإثم المبين؛ ويكون في التعليل توبيخ أشد، وهذا هو الذي نراه.
هذا، هو النص الأول الموبِّخ، والنص الثاني هو قوله تعالى:
* * *
(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
(21)
* * *
الإفضاء معناه الخلوص، أي يخلص كل واحد للآخر، وفسر بأنه الخلوة بين الرجل وزوجه ليس معهما أحد، لأن الفضاء هو الذي يكون بينهما. والاستنكار هنا للحال الواقعة، فالأول كان استنكارا لذات الأخذ، وهنا الاستنكار لما أحاط بالأخذ من أحوال. والمؤدى أن الأخذ عند إرادة الاستبدال أمر مستنكر في ذاته، ثم هو مستنكر لأجل الأحوال التي كانت بين الزوجين. وقد ذكر سبحانه وتعالى سببين للاستنكار: أحدهما - الإفضاء وخلوص زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة. وثانيهما - الميثاق الغليظ أي الشديد القوي الثابت الذي هو عهد ثقيل لَا يصح منه التخلص. وذلك الميثاق، هو الارتباط بين الزوجين أمدا
صارت فيه نفس كل واحد قطعة من الآخر، وهو أمر الله تعالى إذ يقول:(. . . فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. . .)، وليس الأخذ من التسريح بإحسان، وهو المودة التي تظل بين الزوجين في مدة الحياة الزوجية التي صورها الله سبحانه وتعالى:(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21).
هذا، وقبل أن نختم الكلام في هذه الآيات نقرر أمرين:
أحدهما - أن الرجل في افتراقه عن زوجه لَا يحل له دينا أن يأخذ منها شيئا إذا كان النشوز من جانبه، ولا يحل أن يأخذ أكثر مما أعطى إذا كان النشوز من جانبها، وما أخذ في غير ذلك يكون كسبا خبيثا، وقد اتفق على ذلك العلماء.
ثانيهما - أن قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) تدل على أنه ليس للمهر حد أعلى، وقد استدلت بذلك امرأة أمام أمير المؤمنين عمر عندما قال:(ألا لَا تغالوا في صَدُقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أمهر قط امرأة من بناته ولا نسائه فوق اثنتي عشرة أوقية). وجعل رضي الله عنه ذلك حدا أعلى، فقالت امرأة:(يعطينا الله وتحرمنا)، وتلت الآية، فقال الإمام العادل:(أخطأ عمر وأصابت امرأة)، ولكن عمر كان ينظر بنور الله وروح الإسلام، فإن أخطأ في الحد بمقدار، فإنه لم يخطئ في منع المغالاة في المهور، ولله عاقبة الأمور.
* * *
(وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
* * *
كانت الآيات السابقة في بيان تحريم ظلم المرأة في حال الزوجية وظلمها بعد وفاة زوجها، وظلمها عند إرادة الافتراق عنها. وفي هذه الآيات يبين الله سبحانه من يحل من النساء الزواج بهن، ومن لَا يحل، وإذا كانت الآيات السابقة لدعم الأسرة بمنع الظلم؛ لأن العدل به قوام الأسرة وقوتها، ومنع الظلم تقوية سلبية، فالآيات التي تبين المحرمات من النساء تبين أسباب قوة الأسرة من ناحية المودة التي تربط بين الزوجين برباط الرحمة والمحبة، وتجعل الزواج مثمرا ثمراته الطيبة من العلاقة الزوجية التي لَا تُرنّقَها علاقة أخرى. وقد ابتدأ سبحانه ببيان تحريم زوجة
الآباء إذا افترقوا عنها، فكما أن الرجل لَا يحل له أن يرث حق تزويج زوجة أصله كذلك لَا يحل له أن يتزوجها. وقد ابتدأ بهذا النوع من التحريم لتناسبه مع منعِ ميراث حق التزويج للنساء. ولذلك قال سبحانه:
(وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
كان فاشيا بين العرب في الجاهلية أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا مات عنها أبوه، وكان ذلك يؤدي إلى منعها من حرية الاختيار في الزواج، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في الماضي من الآيات الكريمات، وهنا يمنع تزوج الولد ممن كانت زوجة أبيه، بل ممن كانت زوجة آبائه على وجه العموم، وذلك لأن كلمة " آباؤكم " تشمل كل الأصول من الرجال أي تشمل الأجداد جميعا سواء كانوا من جهة أبيه أم كانوا من جهة أُمه، وذلك من قبيل الإطلاق المجازي.
والنكاح هو عقد الزواج، وهو لَا يستعمل في القرآن إلا على الزواج، وقد يطلق على المباشرة نفسها، ولكنه لم يطلق في القرآن إلا على العقد، ولذلك قال الشافعي وكثيرون من الفقهاء، إن النكاح حقيقة في العقد، وإذا أريد به المباشرة كان ذلك مجازا من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك أنه لَا يكون إلا في المباشرة الحلال، والحنفية قالوا إنه حقيقة في المباشرة مجاز في العقد. والذي يتفق مع تعبير القرآن هو رأي الشافعي.
ولما كان ذلك النوع من الزواج كثيرا في الجاهلية، وربما وقع فيه بعض المؤمنين في الجاهلية قبل الإسلام، أشار سبحانه إلى أن ما كان في الجاهلية هو موضع عفو لَا يعاقب الله تعالى عليه، ولذا قال سبحانه:(إِلا ما قد سلف) أي أنكم لَا تؤاخذون على ما قد مضى منكم في الجاهلية، والاستثناء هنا منقطع، و " إلا " بمعنى " لكن "، والمعنى: لكن ما قد سلف لَا تؤاخذون عليه، والله يعفو عنكم، وهو ينتهي بهذا التحريم، فمن كان متزوجا ممن كانت امرأة أبيه، فإنها حرام عليه من وقت نزول ذلك النص الكريم، وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
والتحريم له حكمته. فإنه يتنافى فيما للآباء من وقار، وما يجب لهم من حسن صحبة، ولأن امرأة الأب لَا تحتشم على الابن، فلو كانت تحل له بعد الفراق لتطلعت النفس إليها، وقد ترغب فيه، فتفارق الأب أو تغاضبه طمعا في ابنه، ولا إساءة إلى الأب أبلغ من هذا، فكان المنع لأجل الرحم والمودة في القربى، وحسن الصحبة. والعقد ذاته سبب التحريم، فإذا عقد الأب أو الجد فإنها تكون حراما على الأبناء والأحفاد، ولو لم يدخل بها، لأن ذلك ما يقتضيه الإحسان إلى الوالدين.
وفى النص إشارة إلى أنه لَا عقوبات من غير نص محرِّم، وهؤلاء كانوا يرتكبون ما يرتكبون مستحلين له، فلما جاء النص القاطع الحرم كان العقاب، ولا عقاب قبل النص الحرم.
وإن ذلك النوع من النكاح سيئ في ذاته، لَا يقدم عليه كريم، ولذا قال سبحانه وتعالى فيه:
(إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) هذه أوصاف ثلاثة وصف الله بها ذلك النوع من العقود: أولها أنه فاحشة، أي أمر زائد في القبح شرعا وخلقا، والفحش هو الأمر الزائد زيادة قبيحة، فهو زيادة قبيحة على موجب الفطرة المستقيمة. والوصف الثاني أنه مقت، وهو مصدر وصف به أي أنه ممقوت من ذوي المروءات لَا يقبلونه ولا يرضونه. والثالث أنه أسوأ سبيل لطلب الولد؛ إذ يكون ابنه أخا لأخيه من أبيه وبنته أختا لأخيه أو لأخته من أبيه، وذلك نوع من المجوسية، فهو لذلك كان سبيلا سيئا.
وقد قال الزمخشري في هذا النص: " كانوا ينكحون روابهم (أي تنكح المرأة ربيبها)، وناس منهم كانوا يمقتونه من ذوي مروءاتهم ويسمونه نكاح المقت، وكان المولود عليه يقال له المقتي، ومن ثم قيل (ومَقتا)، كأنه قيل إنه فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة، ولا مزيد على ما يجمع القبحين ".
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى الحرمات من الأقارب فقال تعالى:
* * *
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ)
* * *
هذا النص الكريم لبيان تحريم أربع طوائف من القرابة، فمعنى حرمت عليكم أمهاتكم، أي حرم عليكم نكاح أمهاتكم.
والطوائف الأربع أولاهن: الأمهات والجدات، لأن الأمهات يراد بهن الأصول، إذ الأم تطلق على الأصل، كما قال تعالى:(. . . وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، ويصح أن يراد من الأمهات الصُّلبيات، ولكن يثبت تحريم الجدات بطريق الأولى، لأنه إذا كانت العمة والخالة حراما، فأولى أن تكون الجدة حراما، لأن الأمّ هي طريق الوصول في القرابة إلى هؤلاء، وقد أجمع المسلمون على تحريم الجدات.
والطائفة الثانية: الفروع من النساء، وذلك ثبت بقوله تعالى:(وَبَنَاتُكُمْ) بالعطف على (أُمَّهَاتُكُمْ)، وقد ثبت تحريم البنات بالنص، وبقية الفروع من النساء ثبت تحريمهن بالأولى، لأن النص يحرم بنت الأخ وبنت الأخت، وإذا كانت بنت الأخ والأخت، حراما، فأولى بالتحريم بنت البنت وبنت الابن، لأن البنت أقرب من الأخت.
والابن أقرب من الأخ، فأولادهما أولى بالتحريم، وقد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهنّ.
والطائفة الثالثة: فروع الأبوين، وهن الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وثبت تحريمهن بقوله تعالى:(وَأَخَوَاتكُمْ) ثم قوله تعالى: (وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ)، وذلك يشمل الأخوات شقيقات أو لأب أو لأم، كما يشمل فروع الإخوة والأخوات جميعا؛ لأن كلمة (بنات الإخوة والأخوات) تشمل كل الفروع على سبيل المجاز، ولأن التحريم يثبت بالأولى، لأن عمة الجد حرام بالنص فأولى بالتحريم بنت ابن الأخ، وبنت بنت الأخ أو الأخت؛ لأنهن أقرب، وقد انعقد الإجماع على تحريمهن.
والطائفة الرابعة: العمات والخالات، وقد ثبت التحريم بقوله تعالى:(وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ) بالعطف على الأمهات من حيث التحريم، والعمات والخالات، يشملن عمات الأب والأم وخالات الأب والأم، وعمات الجد والجدة، وخالات الجد والجدة؛ لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة، واللغة لا تمنع ذلك، وقد انعقد الإجماع على ذلك. والنص على تحريم العمة والخالة والاقتصار على ذلك يدل على أنه لَا يكون تحريما لبنت العم وبنت الخال والخالة، أيا كانت طبقة العمومة والخئولة، فبنت عم الأب حلال، وبنت خال الجد حلال أيضا.
وإن هؤلاء المحرمات قد ثبت تحريمهن في الشرائع السماوية كلها؛ لأن تحريمهن مشتق من الفطرة، وفي الزواج بهن إيجاد نسل غير قوي، لأن التجارب العلمية أثبتت أن التلاقح بين سلائل مختلفة الأرومة ينتج نسلا قويا، والتلاقح بين حيوانات متحدة الأرومة ينتج نسلا ضعيفا، وعلى ذلك يكون التزاوج بين القرابة القريبة منتجا نسلا ضعيفا. ولقد ضعف آل السائب؛ لأنهم كانوا لَا يتزاوجون إلا فيما بينهم، فقال لهم الإمام عمر:(قد أضويتم يا آل السائب فانكحوا النوابغ). وإن الزواج من القرابة القريبة يفسد علاقة القرابة والعواطف الشريفة التي تربط بينهم، فعلاقة الأمومة والبنوة والأخوة والعمومة والخئولة يفسدها الزواج بما يكون بين الزوجين من مباسطات أو منافرات أحيانا، والحياة الزوجية على القبض والبسط، والرضا والسخط، والمداعبة والهجر أحيانا، وكل ذلك يفسد القرابة.
(وَأُمَّهَاتكُمُ اللَّاتِى أَرْضعْنَكمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) الأم الرضاعية هي التي أرضعته، والأخت الرضاعية هي التي أرضعتها أمه، أو رضعت من ظئر رضع هو منها، أو بعبارة عامة التقيا على ثدي واحدة، ولا يشترط أن تكون الرضاعة من لبنه أو لبنها، بل إن كل من ترضع ولدا تحرم عليه بناتها جميعا صغيرة أو كبيرة.
وقد قرر جمهور الفقهاء أنه يعتبر من الأخوات الرضاعيات كل من رضعت من امرأة أبيه إذا كان اللبن الذي رضعته كان أبوه هو السبب فيه. وهذه العلاقة
الرضاعية نشأت من قبل أبيه لَا من قبل أمه، فمن رضعت من لبن أخيه لأبيه أو أخته لأبيه تعد أختا رضاعية له.
والأمهات الرضاعيات يشملن الأم التي أرضعته وجداته اللائي كانت العلاقة بينه وبينهن رضاعية، في أي طبقة من الطبقات، سواء اكن جدات رضاعيات له من جهة أبيه أم من جهة أمه.
وإنه يلاحظ أنه لَا يحرم بالرضاعة الأمهات والأخوات فقط، بل البنات والعمات والخالات، وبنات الأخ والأخت، وإن نزلت درجاتهن في القرابة. وقد فهم كثيرون من المفسرين تحريم هذا كله من الآية الكريمة؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى لما سمى المرضع أما، وابنة المرضع أختا، فقد نبه بذلك إلى أنه أجرى الرضاعة مجرى النسب، ففهم بفحوى الخطاب باقي المحرمات رضاعا اللائي يعتبرن نظيرا للقريبات، وإنه قد نص على تحريم الأخت رضاعا، وليست الأخت أقرب من بنت البنت الرضاعية، فتحرم عليه بالأولى، ولقد جاءت السنة موضحة ذلك المعنى، فقد روى أنه لما طُلِبَ إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال:" لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب "(1) وروى أن عائشة كانت قد رضعت من امرأة أبي القُعَيْس، فجاء أخوه أفلح يستأذن عليها، فقالمت: أرضعتني امرأة أخيه، فلا آذن له، حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال:" ائذني له فإنه عمك تَربت يداك "(2)، وذلك لأنها لما رضعت من امرأة أخيه على ولد أخيه اعتبر أبا رضاعيا لها، فيكون هو عمها.
(1) رواه بهذا اللفظ مسلم: الرضاع - تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (1477) عن سعيد بن أبي عروبة، وبنحوه رواه البخاري: الشهادات - الشهادة على الأنساب (2645) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي =
والرضاعة المحرمة عند مالك وأبي حنيفة هي كل مقدار قل أو كثر، وعند الشافعي وأحفد لَا يحرم إلا خمس رضعات مشبعات ليمكن أن يكون الولد جزءا ممن أرضعته؛ إذ يكون قد أخذ منها غذاء يوم كامل. ولا بد أن تكون الرضاعة في الصغر، لقوله عليه الصلاة والسلام:" إنما الرضاعة من المجاعة "(1) وذلك يكون في السنتين الأوليين من حياة المولود، ولذا قال سبحانه:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ. . .). وقال أبو حنيفة: إن الرضاعة المحرمة هي ما تكون في الثلاثين شهرا التي أعقبت الولادة.
والحكمة من التحريم بالرضاعة أن المولود يتكون جسمه من جسم التي أرضعته فيكون جزءا منها، كما هو جزء من أمه، التي حملته، وإذا كانت هذه غذته بدمها في بطنها، فتلك غذته بلبنها في حجرها، وربما تكون مدة الإقامة في حجرها أطول كثيرا من مدة الحمل، فكان لابد أن يثبت لهذه الأم الرضاعية ما يثبت للأم النسبية من حُرْمَة وكرامة، وإن تكريم المرضعات بذلك التحريم الذي يكون للأمهات الحقيقيات يشجع النساء على الرضاعة، فلا يضيع الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، وفي هذا التحريم فوق ذلك تنبيه إلى أن يتخير الآباء من يرضعن أولادهم؛ لأنهم إذا علموا أن أولادهم ستتكون أجزاؤهم ممن يرضعنهم تخيروهن من ذوات الأجسام القوية، والدماء النقية التي لَا يدنسها مرض ينتقل بالوراثة، ولقد كان العرب والسلف الصالح يتخيرون مراضع أولادهم لهذه المعاني. .
(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هذه النصوص تعرضت للمحرمات بسبب المصاهرة، وهي تتم ما ابتدأه سبحانه
= امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ؟» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ. [رواه البخاري واللفظ له: النسب - قول النبي صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك (6156)، ومسلم مختصرا (1445)].
(1)
متفق عليه: رواه البخاري (2595) كتاب الشهادات - باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، ومسلم: إنما الرضاعة من المجاعة (3561). من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
بقوله تعالى؛ (وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ) التي تعرضنا لذكر أحكامها في ابتداء القول في المحرمات، وهذه النصوص شملت ثلاث طوائف.
أولاها: (أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) وأمهات من كانت زوجة للشخص يكُن حراما سواء أكن أمهات صلبيات أم جدات، فيشمل النص كل الجدات، لما ذكرنا من أن كلمة الأمهات تشمل الجدات، ولإجماع الفقهاء على ذلك، ولبيان النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما من عقد عليها وافترق تحرم عليه، سواء أدخل بها أم لم يدخل؛ لأن الأم توحش صدر ابنتها إذا تزوجت من مطلقها، ولأن الأم لَا يليق بها أن تتطلع إلى الزواج ممن كان زوج ابنتها، ولو لم يدخل بها، فإن ذلك مخل بكرامة الأمومة وشرفها وحنانها، وهو سبيل لقطع رحمها، وشيوع ذلك يؤدي إلى الفساد.
والطائفة الثانية بينها الله تعالى بقوله: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِى حُجُورِكُم مِّن نّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).
والربيبة هي ابنة الزوجة لأن الزوج في أكثر الأحوال يَرُبُّهَا أي يربيها ويعطف عليها، وهي في غالب الأحوال تكون في حجره، أي في بيته وتحت رعايته، فقوله تعالى:(اللَّاتِي فِى حُجُورِكُم) كناية عن الرعاية والحياطة والعطف، وغيرها من أنواع البر التي يحوط بها أولاد زوجته من غيره إن كان رجلا عطوفا كريما، وهذا الوصف جار مجرى العادة، والتعبير فيه مجازي لبيان قبح من يتزوج بنات امرأته، وقد اشترط للتحريم أن يكون قد دخل بزوجته التي افترق عنها، وأراد أن يتزوج ابنتها، ولذلك صرح سبحانه وتعالى بالحل، إن لم يكن قد دخل بالام وافترق عنها وأراد الزواج بالبنت، إذ قال سبحانه:(فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكمْ) أي لَا إثم عليكم في أن تعقدوا عليهن، وإن المعاني التي من أجلها حرم الزواج بالأم عند العقد على البنت ليست قوية في حال التزوج بالبنت بعد الافتراق عن الأم، فالأم لها من الحنان والعطف والشفقة ما يجعلها تغفر لابنتها تزوجها ممن كان زوجها إذا لم يكن دخول، ولأن البنت ليس
فيها من الكرامة والاحترام والشرف ما للأم الرءوم العطوف، لذلك اشترط في التحريم الدخول بها.
والحكمة في التحريم واضحة، لأنه لو كانت الإباحة، فيباح للرجل أن يطلق الأم المدخول بها ويتزوج ابنتها، ويطلق البنت ويتزوجها، لأدى ذلك إلى إلى تقطيع الأرحام بين الأم والبنت، ولأدى إلى التضييق في الأسرة، فلا يباح للرجل أن يضم إليه أولاد امرأته، ولا يباح له أن يعطف على بناتها، ويؤويهن عنده إن كن في حاجة إلى إيواء، خشية أن يؤدي ذلك إلى الرغبة في الزواج بواحدة منهن.
والطائفة الثالثة بين سبحانه وتعالى تحريمها بقوله: (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة التي تحل، والأبناء يشملون الأولاد من الطبقة الأولى والطبقات الأخرى، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فمن كانت زوجة ابنه أو ابن ابنه أو ابن بنته لَا تحل له لأنها كانت حليلة لأحد هؤلاء، والتحريم ثابت سواء أدخل بها فرعه أم لم يدخل، وقوله تعالى (مِنْ أَصْلابِكُمْ) - معناها من ظهوركم، وكان في ذكر كلمة (أبنائكم) ما قد يغني عن ذكر (أَصْلابِكُمْ)، ولكنها ذكرت ليخرج الذين يُتَبَنَّوْنَ، فقد كان العرب يعتبرون المتبنَّى ولدا له كل حقوق الأولاد، ويحرمون على أنفسهم الزواج من أزواج التبنين، وقد سماهم القرآن أدعياء، ولذلك قال الله تعالى:(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5).
ومن أجل إباحة الزواج بمن كانت زوجة المتبنى أمر الله نبيه بأن يتزوج امرأة زيد بعد أن يطلقها لأنه كان متبنى للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، ولذا قال سبحانه عند الأمر بزواجها: (فَلَمَّا قَضي زَيْدٌ فِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَج فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا).
(وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) هذا نوع جديد من التحريم المؤقت، وهو ألا يجمع الرجل بين امرأة وأختها في عصمته، فلا يصح أن يتزوج أخت زوجته، وهي في عصمته، أو يكون قد افترق عنها وعدتها لم تنته، فإن ذلك حرام؛ لأنه يؤدي إلى قطع الرحم بينهما، ومثل الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وابنة أخيها وابنة أختها، وقد ثبت تحريم الجمع بين هؤلاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة:" لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا المرأة على ابنة أخيها، ولا ابنة أختها "، وزاد في بعض الروايات:" إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم "(1)، وقد انعقد إجماع من يعتدّ بإجماعهم على ذلك. وقد قال بعض المفسرين: إن تحريم الجمع بين هؤلاء يثبت من نص القرآن في قوله تعالى: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَينِ)؛ ذلك لأن التحريم لخشية إيحاش قلب الأختين بالعداوة، ويكون بينهما ما بين الضرائر من مبادلة الأذى، وإن ذلك أظهر في الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها، فأولى أن يكون التحريم في الجمع بينهما، ولأن العمة والخالة بمنزلة الأم.
(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) يظهر أن هذا كان يقع من العرب في الجاهلية، ومنهم بعض الذين آمنوا، ولذلك بين الله سبحانه أن ذلك موضع
(1) رواه أصحاب السنن، وما اتفق عليه البخاري: النكاح (5108)، ومسلم: النكاح - تحريم الجمع بين المرأة (8ْ 24) إلى قوله: " ولا على خالتها "، ورواه أبو داود (2065) وأحمد (9369) وغيرهما: عَنْ أبِي هرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لا تُنْكَحُ الْمَرأةُ عَلَى عَمًتِهَا وَلا الْعَمَّةُ عَلَى بِنْت أخِيهَا وَلا الْمَرأةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلا الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أخْتِهَا وَلا تُنْكَح الْكبْرَى عَلَى الصُغْرَى وَلا الصغْرَى عَلَى الْكُبْرَى ". وأما هذه الزيادة وهو قوله: " فَإِنًكم إنْ فَعَلْتُم ذَلِكَ قَطَعْتُم أرحامكُم ".
فمن رواية الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة: قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. [راجع مرقاة المفاتيح - ج 3 ص 939، نصب الراية للزيلعي: فصل في بيان المحرمات - الحديث الرابع].