المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها حرصًا شديدًا أيًّا كانت - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها حرصًا شديدًا أيًّا كانت

في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها حرصًا شديدًا أيًّا كانت حياتهم فيها؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ

).

وأما الطاعة لعيسى عليه السلام فبأن يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم. واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة، وهي التقوى والعفة والسماحة، ولكنهم أجابوا في الماضي داعي الحق بمحاولة قتله، وكذلك يفعلون الآن، فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم.

ولقد قرر عيسى عليه السلام أن هذه المعجزات الباهرة لَا تخرجه عن أنه عبد لله تعالى مخلوق له سبحانه؛ ولذا حكى الله تعالى عنه قوله:

* * *

ص: 1234

(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‌

(51)

* * *

أي أن الله تعالى خلقني وهو الذي يربني ويكلؤني ويحييني، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا أن نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لأمر الناس في هذه الدنيا. وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لَا اعوجاج فيه، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل.

* * *

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54

* * *

ص: 1234

هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو أن يولد منها ولد هو إنسان حيّ يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه؛ ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة؛ وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه أن يأتوا بمثلها؛ وعلى ذلك لم يمين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتعَلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى:(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

* * *

ففي لسورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجيء بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته إلى الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته، فقال:

ص: 1235

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله. وتعقيبه لهذه الآيات، وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص، يدل على أن الآية مهما تكن باهرة قاهرة لَا تحمل

ص: 1235

الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان، والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة، أي أنهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا، وأحس منهم عيسى هذا الكفر، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله. والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس، وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهي بالعلم المدرك بالحواس.

ولما أحس عيسى الذي أوتي هذه البينات الكفر من قومه، وعلم ذلك علما يقينيا، اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين، ولذلك قال:(مَنْ أَنصارِي إِلَى اللَّهِ) أي من الذين رضوا؛ أن يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين بحاربون دعوتي، على أن يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لَا يبغون غير رضاه، وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:

أولها: أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين، ولذلك عبر بقوله تعالى:(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) فنسب الكفر إليهم، وذلك لَا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله: من أنصاري إلى الله تعالى.

المعنى الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمة من تلك الكثرة الساحقة، ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.

المعثى الثالث: الذي يشير إليه النص: هو أن النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم إن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء

ص: 1236

إلى الله، فقال:(مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) وقد قال في ذلك الزمخشري: " إلى الله من صلة أنْصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني، أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصاري ذاهبا إلى الله أو ملتجئا " والأوضح في نظري أن يكون المحذوف حالا من الأنصار أنفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين إلى الله تعالى، وفي هذا طمأنة لهم بأن نصرته هي نصرة الله،. أن الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى، يعتمدون عليه، فهم إذا كانوا للحق منعة، في عزة من الله ومنعة منه، وإن دعوة الحق لابد أن تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد؛ ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه:

(قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين أخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده. وأصل مادة (حَورَ): هي شدة البياض، أو الخالص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق: الحوَّارَى، وعلى النساء البيض: الحواريات، والحوريات؛ وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حواري؛ لأنهم أخلصوا له، ولأنهم لُباب الناس بالنسبة له، وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام؛ فقد كانوا خاصته، والذين صفت نفوسهم، وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب الأبيض الناصع البياض من كل ما يشوبه.

أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين:

أولهما: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله تعالى وأنه رسول أمين؛ ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى؛ ولذا قالوا: نحن أنصار الله، ولم يقولوا نحن أنصارك.

الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى:

ص: 1237