المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الله تعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو القادر على تغييرها، أو - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: الله تعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو القادر على تغييرها، أو

الله تعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو القادر على تغييرها، أو جعل الأمور على غير ما توجبه أسبابها، فالتوكل عليه ضراعة وإحساس بالكمال المطلق لله تعالى وقدرته الشاملة الكاملة على كل ما خلق، وإن عدم التفويض مع العمل غرور من الإنسان، واستعلاء بغير سبب، وإنه مهما يدبر الإنسان فقد يخطئه التنفيذ كما كان في غزوة أحد.

ويجب أن نقرر هنا حقيقتين: " إحداهما: أن قدرة الله تعالى واضحة في نتائج الأفعال، فعليه المعتمد. ألم تر إلى رجلين يبذران بذرا، ويلقيانه في قطع متجاورات من الأرض، ويأتي الله لأحدهما بأبرك الثمرات، والآخر تأكل الآفات زرعه وكلاهما احتاط وأخذ بالأسباب. " والثانية " أن الاتكال على الله تعالى ذكر لله، فتطمئن القلوب ويذهب الخوف والجزع ويكون الإقدام.

ولهذه المعاني النفسية العالية في التوكل الحق صرح بحب المتوكلين المولى العلي القدير فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْمُتَوَكلِينَ) وأي منزلة أعلى في الوجود من هذه المحبة التي تتضمن الرضا، ورضوان الله أكبر من كل شيء، فكيف تكون محبته، والمتوكل على الله حق توكله قد تسامى بنفسه عن أعلاق الأرض، ودرج بنفسه في مدارج الروحانية؛ لأنه اعتبر إرادته وعزيمته وتدبيره وعمله ليست بشى بجوار قدرة الله.

وقد أكد سبحانه وتعالى طلب التفويض والتوكل بعد التدبير وأخذ الأهبة بقوله تعالى:

* * *

ص: 1480

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ

(160)

* * *

أي أنه إذا أراد الله تعالى أن ينصركم، واستحققتم نصره فإنه لَا يوجد قوم من شأنهم أن يغلبوكم، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى:(فَلا غَالِبَ لَكُمْ) يفيد أنه لَا يوجد مَن عنده القوة ومَنْ شأنه أن يغلبكم؛ لأنه إن كان قويا في نفسه فالله معكم وهو القاهر فوق عباده، وهو الحفيظ عليهم، وخلق

ص: 1480

الإنسان ضعيفا مهما تكن قوته، وإن استحقاق نصر الله يكون بأخذ الأهبة ومبادلة الرأي، وتعرف أسباب النصر، ثم التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه. وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعد الأهبة أخذ يدعو الله تعالى بالنصر، ويكرر هذه العبارة:" اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لَا تعبد في الأرض "(1).

وإنه إذا فقد المؤمن نصر الله فلا ناصر له من غيره، ولذلك قال سبحانه:(وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ).

أي إن يكتب الله سبحانه وتعالى لكم الخذلان، ويحرمكم من معونته وتأييده، فلا أحد ينصركم من بعده أي ممن هو دونه أو من بعد خذلانه، لأنه لا أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله تعالى، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، وقد جاء النفي على صيغة الاستفهام ليوجه أنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله تعالى الخذلان، فإنهم سيبحثون عن قوى لا تكون قوته إلى بقاء، ولن يجدوه، فعندئذ يحكمون بأن الله وحده الكبير المتعال، ولا ناصر سواه (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

أي عليه وحده لَا على شيء سواه، وأفاد ذلك تقديم (عَلَى اللَّهِ) أي أن المؤمنين لَا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى فالاتكال عليه وحده، والإيمان متلازمان لَا ينفصلان، فغير المؤمن يعتمد على الأشخاص الفانين، أما المؤمن فلا يعتمد على أحد سوى الله تعالى، والاتكال على الله من مقتضيات الإيمان بالله وحده؛ لأف جزء من الوحدانية، فالذين يعتمدون على غير الله من العباد يصيبهم نوع من الشرك الخفي؛ لأنهم يفرطون في تقدير العباد، بل قد تفرط منهم عبارات

(1) وذلك يوم بدر، وقد رواه مسلم بنحوه في حديث طويل: الجهاد والسير (1763)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الأنفال (3006) عن عمر بن الخطاب عن ابن عباس رضي الله عنهم. كما رواه: مسند العشرة (203).

ص: 1481

التقديس، وقد كان بعض الذين لَا دين لهم يعبرون عن بعض الملوك بالذات العالية، وذلك شرك بلا ريب، وأهل الإيمان الصادق لَا يعتمدون إلا على الله بعد أخذ الأسباب؛ لأنهم لَا يؤمنون إلا بالله:(رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ).

* * *

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

* * *

الكلام في غزوة أحد وما فيها من عبر وما بينه الله سبحانه وتعالى من أحكام لمناسبة ما كان فيها، وفي هذه الآيات يبين ما يجب من مراعاة الأمانة بالنسبة للغنائم في الحروب، ذلك أن الرماة الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم قد خالفوه لأنهم خشوا أن ينفرد المقاتلون بالغنيمة دونهم؛ إذ ظنوا أن من يستولي على شيء فهو له، وهم بموقفهم موقف الحراسة لظهور المقاتلين سيُحرمون إن لم يقاتلوا، فبينت هذه الآيات بالإشارة أنه لَا قسمة قبل انتهاء المعركة، وأن الغنيمة لَا يختص بها فريق دون فريق، وأن الغنيمة نتيجة النصر، والنصر ثمرة تعاون الجميع، فحق أن تقسم الثمرة على الجميع، ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرماة:" أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم "(1).

(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي ومقاتل.

ص: 1482

وإن الله سبحانه وتعالى يسن الأحكام العامة للمناسبات الخاصة، ليكون السبب موضحا للحكم، وإن كان الحكم عاما، ولذا قال سبحانه:

ص: 1483

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

ابتدأ سبحانه بنفي وصف الغلول وهو الخيانة في الغنائم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لبيان أن التسوية في القسمة مطلوبة من الجميع لَا فرق في ذلك بين قائد وقائد، ولو كان أحد يسوغ له ألا يسوي في القسمة لما كان رسول رب العالمين، ولكنه أول من ينفي عنه هذا الوصف، ولأن الرماة تعجلوا خشية ألا يأخذوا، فبين الله لهم أن عدم تسويتهم في الغنيمة غلول، وما كان الغلول من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان أن عدم توزيع الغنيمة بالعدل خيانة، فلا يستكبر قائد عن أن يوصف بها إذا وقع منه عدم التسوية.

ومعنى قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ) ما ساغ وما صح لنبي أن يخون، فالنفي هنا نفي للشأن، أي ليس من شأن النبي أن يخون، والتنكير هنا للتعميم، فليس من شأن أي نبي يتكلم عن الله تعالى أن يخون، وإذا كان التنكير للتعميم لأنه تنكير في مقام النفي، فمؤدى الكلام أن النبوة والغلول نقيضان لا يجتمعان، فما كان لأحد أن يظن أن النبي سوف لَا يقسم بالسوية، وإذا وقع ذلك الظن فهو من الظن الإثم:(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. . .).

وأصل الغلول من الغلَلَ، وهو دخول الماء في وسط الشجر كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني، وسميت الخيانة في الغنيمة غلولا؛ لأنها تدخل المِلك من غير حله وفي خفاء، كجريان الماء بين الأشجار في خفاء، ويقال - تغلغل في الشيء دخل فيه واختفى، ويطلق الغِل بكسر الغين على الحقد لأنه يكون دفينا متغلغلا في كيان النفس الإنسانية ويفسدها.

وإن المعنى الذي يجري عليه جمهور المفسرين بأن المراد بالغلول المنفي عن الرسول وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو الغلول المادي في شئون المادة، ولم تتعرض الآية الكريمة للغلول المعنوي وهو كتمان ما أنزل الله

ص: 1483

تعالى وعدم بيانه؛ ولكن قال بعض العلماء: إن الغلول النفي عن الأنبياء هو كتمان ما أنزل الله تعالى وعدم بيانه؛ لأن الغلول المادي غير متصور الوقوع، ولكن السياق لَا يؤيد هذا المعنى؛ لأن السياق كله فيما قبله وما بعده يدل على أنه في الحرب وما يتعلق بها من غنائم أغرت الرماة وأخرجتهم من مَحَارسِهم (1)؛ ولما يجئ بعد ذلك من تعميم الحكم لكل من يغل غير الأنبياء من حيث إنه يأتي بما غل يوم القيامة؛ ولذلك قال تعالى:(وَمَن يَغْلُلْ يَات بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

والمعنى أن من يخون في الغنائم أو غيرها بأن يكون ذا سلطان على مال، فيخص نفسه مثه بما شاء يأتي يوم القيامة مأخوذا بإِثم ما غل يوم القيامة، صغيرا كان أو كبيرا، حقيرا كان أو خطيرا، فالمراد على هذا التفسير من قوله سبحانه:(بِمَا غَلَّ) وزره؛ وذلك كقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).

فما يراه الإنسان يوم القيامة هو عمله المبرور وعمله الموزور، وأما موضوع العمل فلا وجود له إذ هو يرى الوزر أو يرى البر. وظاهر كلام المفسرين أنه يرى ذات الشيء الذي غله، لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان:" لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لَا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لَا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك. . "(2) فإن ظاهر هذا الحديث أن موضوع الغلول يجيء بذاته يوم القيامة، ومثل ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول في جمع الصدقات، فقد روى أن رجلا اسمه ابن اللتبية جمع الصدقات، ثم قال: هذا لكم وهذا أُهْدِيَ لِي، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " ما بال العامل نبعثه، فيجيء، فيقول هذا لكم، وهذا

(1) جمع محْرَس، اسم مكان من " حرس "، والجمع محارس، أي: أماكن الحراسة.

(2)

رواه البخاري بنحوه: الجهاد والسير - الغلول وقول الله عز وجل (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ)(2844).

ورواه مسلم: ك الامارة - غلظ تحريم الغلول (1831).

ص: 1484

أُهْدِيَ لِي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي له أم لَا، لَا يأتي أحد منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيرا فله رغاء، أو بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت " (1).

والذي نراه أن هذه الأحاديث إنما هي تصوير لما يكون يوم القيامة من أن وزره يكون قائما بين يديه، وصُور ما وقع وموضوع أوزاره تكون قائمة في كتابه كانها حاضرة بأعيانها، هذا هو الذي تدل عليه الألفاظ، ولا نقول إن حضور ذات الأشياء مستحيل على الله، فإن الله على كل شيء قدير، ولكن نقول: إن ذلك هو ما يؤدي إليه الذوق البياني العربي، وإن ذلك يومئ إلى دقة الحساب، وقيام الموازين بالقسط، ثم بين سبحانه نتيجة هذا الحساب، فقال سبحانه:(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

وبعد الحساب العسير لهؤلاء الذين يأكلون الأموال بالباطل، ويغلون في الغنائم؛ ويغلون في أموال الدولة - يوفون جزاء ما كسبوا من غير ظلم، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية، الأولى: التعبير بـ (ثم) وهي تفيد التراخي بين إحضار الأعمال بأوزارها ثم يتولى جزاءها، فإن هذا التراخي يفيد طول الحساب، وطول الحساب عذاب في ذات نفسه، وهو في الوقت ذاته يدل على دقته إذ تقام الموازين بالقسط. والثانية: التعبير بـ (توفى) فإن فيه إشارة إلى أنه لَا ينقص شيء مما عملت إن خيرا وإن شرا، إلا أن يتغمده الله برحمته فيعفو عن بعض السيئات وهو العفو الغفور، والثالثة: أنه عبر سبحانه وتعالى عن المساواة بين العمل والجزاء بقوله سبحانه (مَّا كسَبَتْ) فإن هذا التعبير يفيد بظاهره أن الوفاء يكون بالعمل ذاته، ولكن المعنى: جزاء ما كسبت ولكنه سبحانه عبر بهذا التعبير للدلالة على

(1) متفق عليه؛ وقد رواه بألفاظ متقاربة البخاري: الأحكام - هدايا العمال (6639)، ومسلم: الامارة (1832)، كما رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2557)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (22492)، والدارمي: الزكاة (1609). تيعر، من اليعار وهو صوت الشاة. والعفرة: بياض غير ناصع مشرب بحمرة أو سمرة.

ص: 1485