المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الإيمان لَا أن يكفروا، ثم وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: الإيمان لَا أن يكفروا، ثم وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري

الإيمان لَا أن يكفروا، ثم وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) أي لقد كفرتم بآيات الله وبيناته الدالة على صدق الرسالة المحمدية وعندكم علم بها، وأنتم تعلمون صدقها، فالآيات هنا هي آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن الكريم، وما اشتمل عليه، والاستفهام لإنكار هذا الواقع الذي وقع منهم وهو الكفر مع قيام دلائله. ولقد أكد سبحانه وتعالى الاستنكار بقوله تعالى:

(وَأَنتمْ تَشْهَدُونَ) أي وأنتم تعلمون صدق الرسول علما يقينيا كعلم المشاهدة والعيان، بما أخبر به في كتابكم، أو: وأنتم تشهدون كل يوم الدلائل الصادقة التي تثبت الرسالة المحمدية.، ولكن اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يكتفون بالكفر، بل كانوا يحاولون أن يلبسوا الحق بالباطل، ليفسدوا الإيمان على أهله؛ ولذا قال سبحانه:

* * *

ص: 1270

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‌

(71)

* * *

صدَّر النداء هنا بـ " أهل الكتاب " زيادة في التوبيخ، وكل توبيخ لهم يُعد قليلا مهما يتكاثر وتترادف عباراته، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار ما وقع منهم؛ ذلك بأنهم لبسوا وخلطوا الحق بالباطل، وكتموا الحق الذي يشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالصدق وهم يعلمون به، فكان الاستفهام للتوبيخ على هذا الذي وقع منهم؛ فقد وقع منهم أمران، وثبت فيهم أمر ثالث:

أما الأمر الأول: فهو خلط الحق بالباطل، بأن حاولوا أن يزيفوا الحق، فألبسوه ثوب الباطل، وأظهروه بمظهره إمعانا منهم في التضليل. وقد فسر الكثيرون كلمة " تلبسون " بمعنى تخلطون، وهي في المؤدى كذلك، ولكن لابد أن يلاحظ معنى الستر واللباس في الكلمة، ذلك بأنهم جاءوا إلى الحق المبين فألبسوه ثوب الباطل ليُسْتَبْهَم؛ ولقد قال في هذا المعنى الأصفهاني: أصل اللبس ستر الشيء، ويقال ذلك في المعاني، يقال لبست عليه أمره، قال:(وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبسُونَ)، وقال:(لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. . .).

ص: 1270

الأمر الثاني: كتمان الحق الذي عندهم فهم يسترون الحق الذي يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم بلباس الباطل الذي يخترعونه، ويكتمون الذي عندهم، ويشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكفر بالحق، يكون عند الكافر دليل الحق، ومع ذلك ينكر الدليل الذي يقدمه صاحب الحق، ويحاول أن يزيفه بالباطل. وكل ذلك وهم يعلمون الحق في ذاته، ولكنهم أضلهم الله على علم.

اللهم اكتبنا فيمن هديتهم، وامنحنا التوفيق؛ وأنقذنا من الضلال، ووفقنا لإدراك الحق، والإذعان له، والإيمان به، إنك سميع الدعاء.

* * *

(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

* * *

بّين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن أهل الكتاب يودون أن يضل المؤمنون، ويعملون على إضلالهم، وكلما أمعنوا في هذا الطريق ازدادوا ضلالا، وما ازداد المؤمنون إلا إيمانا، وإن وجدوا في ضعاف الإيمان ما يشبع نهمتهم وقتيا فإنهم سرعان ما يقوى إيمانهم بالحق، ويرتد أولئك المضلون في طغيانهم يعمهون.

وفى هذه الآيات يبين سبحانه طريق طائفة منهم في إضلال المؤمنين، وإثارة الشك في قلوب ضعاف المؤمنين، وهي أن يظهروا الإيمان والإذعان والاطمئنان

ص: 1271

إلى الحقائق الإسلامية، ليظن فيهم الظن الحسن من لم يعرف مكرهم وكيدهم، حتى إذا اطمأن الناس إليهم أعلنوا كفرهم، بعد مظهر الإيمان ليوهموا المؤمنين أنهم كانوا مخلصين في إيمانهم طالبين الحق بهذا الإيمان، فلما تبين لهم البطلان خرجوا، فقد يخرج بهذا الخروج ضعاف الإيمان، ويلقون بذلك بين المسلمين شكا عمليا. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عمل هذه الطائفة الماكرة الخبيثة فقال عز من قائل:

ص: 1272

(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة التابعي أنه قال: " قال بعض أهل الكتاب لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيه ما تكرهونه، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم ". وأخرج ابن جرير أيضا عن السُّدي أنه قال: " قالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمدا صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا، فسألناهم فحدثونا أن محمدا كاذب، وأنتم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو أعجب إلينا من دينكم لعلهم يشكُّون، فيقولون هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم، فأخبر الله سبحانه وتعالى رسوله بذلك وروى أنهم نفذوا قولهم عملاً؛ والروايات في هذا كثيرة، وكلها متلاقية في المعنى غير متنافرة.

وخلاصتها: أن أولئك المضللين الذين أكل الحسد قلوبهم دعا بعضهم أن يظهروا الإسلام ليبدوا طلاب حقيقة، فإن رجعوا استطاعوا أن يجتذبوا معهم بعض ضعفاء الإيمان.

والمراد بوجه النهار ما يقابل آخره، وهو أول النهار، وعبر عنه بالوجه؛ لأن أول النهار هو وقت إقباله، والوجه هو مظهر الإقبال، والوجه أيضا كناية عن الظهور، وأول النهار هو وقت الظهور ووقت الوضوح، بعكس آخره.

ص: 1272

وهل معنى الاتفاق الذي اتفقوا عليه هو أن يبدءوا في الضحى فيسلموا ثم يكفروا في المساء؛ ظاهر اللفظ ذلك، ولكن يبدو للمتأمل البصير أنهم يريدون أن يسلموا حينا من الزمان حتى تتم الثقة بهم والاطمئنان إليهم، ثم يكفروا من بعد ذلك، على ألا يستغرق إظهارهم الإسلام إلا أمدا يستطيعون فيه جلب الثقة إليهم؛ ويكون حينئذ التعبير كله من قبيل الاستعارة التمثيلية، سيقت لتصور حالهم التي اتفقوا عليها، وهي أنهم يظهرون الإيمان ثم يكفرون بعد أمد قصير.

فالاستعارة لتصوير سرعة الرجوع وإظهار الكفر، وتأكد التعاقب بين إظهار الكفر وإظهار الإسلام، كما يتعاقب ظهور آخره بعد أوله. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مقصدهم ومكرهم السيئ بقوله تعالت كلماته:

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فهذا التعبير يفيد بيان مقصدهم وهو رجاء أن يرجع بعض المؤمنين إلى الكفر بعد الإيمان، ولكنهم عبروا عن البعض باسم الكل، فإنه لا يمكن أن يرجعوا جميعا، بل الذي يرجى رجوعه من المسلمين هو الضعيف غير القوي في دينه، غير المطمئن في يقينه، ولكن كفر هذا الفريق بعد إيمان يحدث اضطرابا في جماعة المسلمين، فيكون التظنن فيهم، وحيث جرى الشك في الجماعة كان وراءه التفرق وفقد الثقة، وكان وراءهما الفشل الذريع، وإنهم من بعد ذلك يطمعون أن تعود الجزيرة العربية إلى الشرك بعد هذا الإيمان الذي هددهم في كيانهم؛ وكذلك سولت لهم نفوسهم، فإن الذي يركب رأسَه الشيطانُ توسوس له نفسه بالشر، ويتسع أفق تصوره حتى يتمنى الأماني البعيدة القاصية كأنها قريبة دانية.

وإن تلك الطريقة التي سلكوها من أقوى ما تفتق عنه التدبير الإبليسي؛ فإن إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان مع التذرع بتلبيسات مضللة من شأنه أن يدخل الشك في ضعفاء الإيمان، وقد يكون معه الجهر بما يثير الريب حتى في أقوى الحقائق صدقا وأجدرها باليقين؛ ولذلك كانت عقوبة الردة التي ثبتت بقوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 1273