المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والثالثة: أنه عبر عن الذين يغلون ويخونون بأنهم يبوءون أي - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: والثالثة: أنه عبر عن الذين يغلون ويخونون بأنهم يبوءون أي

والثالثة: أنه عبر عن الذين يغلون ويخونون بأنهم يبوءون أي يعودون على أنفسهم بسخط الله تعالى، والسخط ليس هو الغضب المجرد، بل هو الغضب الذي يصحبه أو يترتب علية العقاب، وفرق بين عملين: أحدهما يجلب أبلغ الرضا، وثانيهما يجلب أبلغ الغضب وأشد العقاب، وإن ذكر هذه المقابلة ليعرف الذين يغلون بالغنائم أنهم لَا يكسبون لأن ما يخسرونه أضعاف ما يكسبون من عرض لَا بقاء له، والعبرة بفاضل ما بين الكسبين، أما الذين قد اختاروا الأمانة سبيلا، فإنهم لَا يخسرون شيئا؛ لأن مال الخيانة لَا يعد كسبا، بل هو سحت لا كسب فيه، ومع أنهم لَا يخسرون شيئا، وكسبهم عظيم لَا حد له، وهو رضوان الله تعالى.

والرابعة: أنه سبحانه عبر عن اتباع أوامر الله ونواهيه باتباع رضوانه، لأن الطاعة المخلصة تؤدي إلى رضوانه سبحانه وتعالى، فطلب رضا الله في طاعته.

ولقد عقب سبحانه ذكر سخطه بذكر عقابه؛ لأن السخط والعقاب متلازمان، كما أشرنا، ولذا قال سبحانه:(وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي أن عودتهم بغضب الله الشديد يتبعه حتما ذلك المصير يوم القيامة، وهو أن يكون المستقر الذي يستقرون فيه وينتهون إليه، هو جهنم، وهي الهاوية التي يهوون إليها في النار، جزاء هاوية الخيانة التي أصابتهم في الدنيا، وبئس ذلك المصير الذي صاروا إليه، وكان لهم نهاية، وإن لم يريدوه لهم غاية.

وإن نتيجة عدم التساوي بين من يتبع رضوان الله تعالى ويطلبه بإقامة الطاعات على وجهها الأكمل، ومن يختارون الشر سبيلا - هي أن يكون الناس درجات بحسب مقدار طلب الرضوان، ومقدار اتباع السخط، ولذا قال سبحانه:

* * *

ص: 1487

(هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‌

(163)

* * *

الدرجة هي الرتبة والمنزلة، ومنهَا الدرج بمعنى السلم، لأنه يُعلى عليه رتبة بعد رتبة، وأكثر ما تكون كلمة الدرجة في القرآن بمعنى المنزلة الرفيعة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ

ص: 1487

فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، وأما المنزلة غير الرفيعة فيعبر سبحانه بالدركة؛ ولذا يقول سبحانه:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)، ولقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات " الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار ".

والضمير في قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ) يعود على الفريقين الذين اتبعوا رضوان الله تعالى، والذين اتبعوا سخطه سبحانه، وإطلاق " درجات " على الفريقين وفيهم الأشرار من قبيل التغليب، وهو تغليب له مغزاه؛ إذ هو تغليب الخير على الشر، وتغليب رضا الله على سخطه، وتغليب الأبرار على الفجار، وإن الآية الكريمة تشير إلى معنى جليل، وهو تفاوت درجات الأبرار، وتفاوت دركات الأشرار، فالذين يسيرون في الخط الذي رسمه الله تعالى لطاعته متفاوتون في مقدار ما يقطعونه من ذلك الطريق النوراني الذي ينتهي بطاعته سبحانه وهم بذلك درجات عند الله تعالى بمقدار اتباعهمْ ما فيه رضوانه، وهو الأوامر والنواهي، والآخرون متفاوتون في مقدار انهوائهم في الشر بمقدار ما يخالفون أمر الله ونواهيه، وإن تلك الدرجات المتفاوتة هي نتيجة العمل، ولذا قال سبحانه:(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي أن الله سبحانه وتعالى يعلم عمل كل إنسان علم من يراه ويبصره، فلا يغيب عنه سبحانه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وإنه سبحانه سيجزي كل نفس بما كسبت، على مقتضى علمه الكامل، وإن هذه الدرجات التي يضع الناس فيها هي بمقتضى علمه سبحانه.

وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خولفت أوامره في غزوة أحد، فنزل بالمؤمنين فيها ما نزل، ولقد ناسب أن يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين نعمته عليهم في إرسال الرسول الأمين، ويشير إلى الهداية التي اشتملت عليها رسالته، وأن اتباعه اتباع رضوانِ الله، ومخالفته اتباع لسخط الله، فقال سبحانه:

* * *

ص: 1488